نهاية الحقبة الاسلامية

2009-07-15:: الاتحاد

 كما كانت الثورة الاسلامية في ايران إعلانا عن افتتاح حقبة جديدة سيطرت فيها العقيدة الدينية على الحياة السياسية، حتى في تلك البلدان التي لم تخضع لحكم إسلامي، تشكل الهزة العنيفة التي شهدتها الجمهورية الاسلامية إرهاصا بنهايتها أو بالخروج منها.

من هذا المنظور تمثل الأوضاع الايرانية الراهنة لحظة تاريخية وتنطوي على ديناميكية، وتعبر عن خيارات، هي نفسها التي تعيشها  المجتمعات العربية، لكن في ظروف الكبت والعجز والحرمان من التعبير عنها أو التفكير في مضمونها وأفق الخروج منها. فكما كان العرب سباقين في التعبير عن المرحلة القومية التي عاشتها شعوب كثيرة في العالم الثالث في الخمسينات والستينات، وأخفقت طهران في الولوج إليها بسبب السيطرة الغربية الطاغية، وهو ما عبر عنه إحباط الحركة المصدقية عام 1953، كانت ايران سباقة في الثمانينات في قيادة الحقبة ما بعد القومية. ومصدر سبقها أنها لم تكن تستطيع تحقيق الاستقلال وتأكيد الهوية الثقافية، من دون أن تبتدع نموذجا سياسيا وفكريا يقطع مع الغرب ويحقق أهداف التقدم التقني والاجتماعي في الوقت نفسه. وهذا ما جعلها تبدو وكأنها تفتح أفقا جديدا للبلدان النامية، والاسلامية منها بشكل خاص، يحمل فرص إخراج ملايين البشر من الهامشية وانعدام الثقة بالنفس ويمكنهم من استعادة إنسانيتهم والمصالحة مع تاريخهم. وهو ما جعل أيضا من ايران منارة قوى الاحتجاج الإقليمية، ودفع قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي إلى الاحتفاء بثورتها الاسلامية بوصفها لحظة من لحظات تاريخ تحرر البشرية.
وكما هو معروف، جاءت الثورة الاسلامية ردا على حداثة قاهرة وسالبة معا، لا تعمل على تحقير الذات والتحلل من الهوية فحسب، ولكنها تحكم على الأغلبية الساحقة من الناس بالفقر والعطالة والذل الأبدي. وهذا ما عبر عنه وجسده حكم الذي عمل حارسا للمصالح الغربية وكان من أقسى النظم وأكثرها فسادا وتمييزا ضد عامة الناس. وفي ردها الاعتبار لهؤلاء، وهو مكسب تجاوز في أهميته بكثير المكاسب المادية الاخرى، ردت الاعتبار في الوقت نفسه للعقيدة التي يحملونها والتي تمثل هويتهم وشخصيتهم في مقابل العقيدة القومية المتعصبة والايديولوجية الآرية التي ارتبطت بها. وهذا هو جوهر الترابط الذي حصل بين الاسلام والسياسة الايرانية.
فلم يكن تحقيق المطالب الدينية، ولا توفير فرص أكبر لممارسة الطقوس والعبادات، ولا صبغ معالم الحياة والعمل والتفكير جميعا بالصبغة الدينية أو الإلهية، هو مصدر ولاء الجمهور للجمهورية الجديدة، وأقل من ذلك التسليم بسلطان الولاية الدينية المطلق وفرض وصايتها على الحياة السياسية.
لكن ليس هناك شك في أن هذا الترابط الذي حصل بين الثورة التحررية والاسلام قد حجب عن عيون الناس، ايرانيين وأجانب، مقاصد الثورة الرئيسية ومصدر شرعيتها الحقيقية. وغطت الايديولوجية الدينية على عملية المصادرة التدريجية التي تعرضت الحركة الشعبية لحقبة طويلة سابقة. وعزز ذلك الدور المركزي الذي قامت به الهيئة الدينية الايرانية بما قدمته من قوة تنظيمية وتوجيهية جاهزة لإعادة بناء قوة التغيير. وكان لشخصية الخميني نصيبها أيضا في دفع الأفراد إلى التسليم بريادة الفقية الولي واعتباره الأمين على السلطة والقيم على حسن ممارستها بما يتميز به من بصيرة وشجاعة ونزاهة وابتعاد عن المصالح الشخصية. وجاءت الحرب العراقية الايرانية، التي جاءت تتويجا لحروب تدخل خارجية طويلة، مناسبة للتكريس النهائي لولاية الفقيه ووصاية السلطة الدينية، وبالتالي حرمان الناس بشكل أكبر من سيادتهم الشخصية.
لكن الثورة الاسلامية، كجميع الثورات التي سبقتها، لن تحقق مكاسب فحسب ولكنها ستنتج إحباطات كثيرة وعميقة أيضا، وذلك على مقدار ما ستبرز، في التطبيق العملي، التباين الواسع بين الطوبى الملهمة والممارسة الفعلية، وما ستعيد بناءه من أوضاع السيطرة والإخضاع، والمشاركة والاستبعاد لشرائح اجتماعية مختلفة. وكما حرمها الحصار الذي فرض عليها، كباقي الثورات التاريخية، من توفير شروط التنمية الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للرد على حاجات السكان، ساهم التفاوت المتزايد في ممارسة الحقوق والحريات الموعودة الذي ارتبط بطابعها الديني والمذهبي في تنامي التوترات والتناقضات والاحتقانات الحاملة لمخاطر عديدة.
عوامل عديدة ساهمت في سقوط الاوهام، وإدراك مسار الانحسار والتراجع في شعارات الجمهورية الاسلامية، وربما، أكثر من ذلك، خاصة بعد الانتخابات الإشكالية الأخيرة، تنامي الشعور بمصادرة الثورة من قبل فئات المصالح وأصحاب النفوذ، وسعيهم إلى تجميد الأوضاع في مكانها، وحرمان الآخرين، إلا ما كان على سبيل الدعاية والرشوة الجماعية، من ثمرات تضحياتهم. وهو ما شجع جمهورا كبيرا على القطع مع أسطورة الثورة التحررية، والنزول إلى الشوارع للتعبير عن رفضه التمديد للأوضاع القائمة. من هذه العوامل رئاسة أحمدي نجاد وما اتسمت به من تشدد ديني وسياسي داخلي، ومن تكريس سيطرة النخبة الدينية وتعزيز مواقعها ودورها في توجيه دفة السياسة الوطنية الداخلية والخارجية. والتراجع التدريجي عن الحريات المكتسبة، والعمل بصمت على إعادة إنتاج النظام القمعي التقليدي المستند على أجهزة الأمن والميليشيات الخاصة التابعة للنخبة الحاكمة. وهذا ما أثار تململا داخل العديد من الأوساط الاجتماعية الميالة إلى التسامح والتعامل الطبيعي مع العصر وقيمه ومراكز الحضارة العالمية، بما في ذلك بعض أطراف النخبة الدينية التي تخشى مركزة السلطة جميعا في يد الولي الفقيه وذراعه الرئاسية. ومنها أيضا التبدل الايجابي الذي حصل على صعيد السياسة الإقليمية نتيجة الإخفاق الذريع لاستراتيجية جورج بوش العدوانية، وتبني الإدارة الأمريكية الجديدة استراتيجية التهدئة، ومدها يد المصالحة إلى العالمين العربي والاسلامي، وإعلانها عن رغبتها في الانفتاح على طهران والحوار الجدي معها في سبيل التوصل إلى تسوية في مسألة التقنية النووية.
لكن بداية انحسار عصر الثورة الاسلامية لا يعني أبدا نهاية النظام وأقل من ذلك زوال نفوذ الدولة الايرانية أو تهديد وجودها. فالنظام مجموعة قوى ومصالح متآلفة مستقلة عن المباديء الثورية والشعارات والقيم الملهمة، وهي لا تزال تملك هنا وسائل لا حد لها للدفاع عن نفسها والاحتفاظ بالسيطرة السياسية. إنها تعني تآكل الرصيد المعنوي والأخلاقي والفكري للنظام، وهو ما سيضطر أصحابه للحفاظ على توازن السلطة وإعادة إنتاجها إلى توسيع دائرة استخدام العنف والقمع والحد من الحرية على حساب المراهنة على الولاء الطوعي وروح الانتماء والتماهي مع السلطة ايمانا بثوريتها، أي بنزاهة أهدافها وإنسانيتها. وهو ما يزود الثورات عموما بقوة دفع استثنائية في حقبتها الأولى. وفي موازاة اللجوء المتزايد للعنف للحفاظ على الوضع القائم، ستجد السلطة الاسلاموية نفسها مكرهة أكثر فأكثر على الإنكفاء على العصبية وتغذية مشاعر التضامن البدائية ضد الغريب والمختلف والأجنبي، على حساب قيم الحرية والمساواة والأخوة الانسانية، حتى تضمن استمرارها وتعوض عن انحسار صدقية مشروعها وشرعيتها معا.
لا تختلف ما تعيشه الثورة الاسلامية في ايران اليوم عما عرفته جميع الحركات والثورات الشعبية، الاشتراكية والقومية، في منطقتنا، وفي البلاد الأخرى، على حد سواء. فقد احتاجت النخب العربية القومية والثورية بالذات إلى نصف قرن من العنف الأعمى وعمليات الإغتيال وحروب التطهير السياسي، وحملات الانتقام والتأديب لإخماد الانتفاضات الشعبية، وتأبيد نظام الاحكام العرفية وحالة الطواريء، حتى تتمكن من القضاء على أوهام الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي فجرتها الحركة الشعبية، وتعيد الجماهير التي كانت تتغنى بنضالها إلى "أوكارها"، وتنسيها معنى الحقوق المدنية والسياسية. ولا تزال هذه الحرب مستمرة إلى اليوم، إذ ماذا يعني نظام الديكتاتورية، التي تكاد تصبح ماهية السياسة في بلادنا، غير تنظيم حالة الحرب هذه ومأسستها لضمان إنتاجية أكبر للعنف وبقاء أطول للنظام؟
ستظل إيران لفترة طويلة ضحية شعارات ثورتها وجمهوريتها الاسلاميتين قبل أن تنجح في شق طريق جديد للمستقبل، تماما كما بقيت مجتمعاتنا العربية ولا تزال تتخبط منذ عقود في رواسب ثورتنا "القومية" وتدفع غاليا ثمن إجهاضها.