إسرائيل تقود المنطقة إلى الحرب

2002-06-:: الاتحاد

نقل الحرب إلى إسرائيل هو الرد الطبيعي على سياسة الحرب المعممة التي طبقها شارون

لم تشهد اسرائيل في أي حقبة سابقة من وجودها ما تشهده اليوم من خسائر مادية وبشرية على حد سواء. ولم تمر إسرائيل بمرحلة كانت فيها الحالي أن تكون مرحلة الأمن المطلق بدل السلام. ولم يكن استقرار اسرائيل أكثر زعزعة مما أصبح عليه بعد أو بسبب عملية السور الواقي. ولن تكون إسرائيل أكثر خوفا من المستقبل وقلقا على لمصير في أي مرحلة مما ستكون عليه في مرحلة بناء الجدار الواقي الذي تكرس الحكومة الاسرائيلية جميع جهودها لبنائه في سبيل عزل الفلسطينيين وإقامة نظام للتمييز العنصري السافر في منطقة الشرق أقل أمنا من هذه المرحلة التي أراد لها رئيس السلطة الاسرائيلية الأوسط. ولم تكن ولن تكون أكثر عرضة للتهديدات الاقتصادية مما هي عليه اليوم بسبب الحرب المتواصلة التي يحلم آرييل شارون بإنهائها عن طريق وضع الفلسطينين جميعا في زجاجة ورميهم في البحر.
والمشكلة أن أحدا لا يريد أن يعترف, لا هو ولا الدول الكبرى المعنية وفي مقدمها الولايات المتحدة, بأن كل ما يصيب إسرائيل الآن بعد سنوات من الاستقرار النسبي في ظل مفاوضات السلام المخفقة, هو ثمرة لهذه السياسة ذاتها وأنه لا مخرج من مخاطر التدهور نحو الجحيم الذي سيجر اسرائيل معه سوى الاعتراف بالاحتلال من حيث هو كذلك وفتح مفاوضات جدية بهدف إنهائه. والعمل منذ الآن على حماية الفلسطينيين والسماح لهم بالعيش كبشر حقيقيين لا كطرائد للمستوطنين أو للمهووسين الدينيين اليهود.
يسعى الاسرائيليون للتغطية على مسؤوليتهم الرئيسية هذه فيما وصلت فيه الأوضاع في فلسطين والمنطقة عموما من التردي والعنف والانهيار الأخلاقي والسياسي والأمني بالهرب من مواجهة الواقع والتعلق بأسطورة محاربة الارهاب. ومن يقرأ ما تكتبه الصحف الاسرائيلية وما يصدر عن المسؤولين الاسرائيليين يعتقد أنهم بدأوا يعتقدون عن جد أن الاحتلال ليس هو المشكلة, بل ليس مشكلة على الاطلاق ولا يمكن أن يفسر أي عمل من أعمال الفلسطينيين. أما المشكلة فهي الارهاب الفلسطيني والعربي الملتصق بالجذور والنابع من التفكير الديني وانعدام الانسانية والأخلاق. فهم يدافعون عن الحضارة والمدنية في مواجهة منظمات إرهابية ترفض الحوار السياسي ولا تريد إلا الاضرار بالأخرين وايقاع الأذى بهم. وهكذا فقد جعلوا من كذبة محادثات كمب ديفيد التي قدمت على حد زعمهم عرضا سخيا رفضه الفلسطينيون بسبب سوء نواياهم برهانهم الساطع على أن القضية ليست قضية احتلال ولكن بسبب روح الإجرام العربي الذي لا يحركه شيء آخر سوى إرادة القتال والقضاء على الاسرائيليين, خاصة الأطفال والنساء والشيوخ منهم. ويكاد الرأي العام الدولي, وربما رئيس الولايات المتحدة نفسها يقتنع بهذه الكذبة وينسى أن الذي أوقف المحادثات ليس الفلسطينيون وإنما رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق ايهود باراك بعد أن إدرك أن عرضه يمكن أن يسبب له خسارة الانتخابات أمام خصمه الذي يزايد عليه. وقد خسرها بالفعل.
وإذا دل هذا الأمر على شيء فإنما يدل على أننا نحن العرب والفلسطينيين معنا قد تقاعسنا في خوض الحرب الإعلامية الضرورية للاحتفاظ بالدعم العالمي لقضيتنا وفقدنا بالتالي المبادرة في هذا الميدان. وهكذا سمحنا للاسرائيليين أن يضعوا أنفسهم في موقع الدفاع عن النفس ويلبسون خصومهم الفلسطينيين, أي أبنائنا نحن, تهمة المعتدين, أي أن يقوموا بقلب الحقائق بطنا على ظهر. فالمعتدي الذي يحتل أراضي الغير ويصادرها ويطرد سكانها منها ويقيم عليها علنا وبمساعدات دولية مستوطنات أو مستعمرات يهودية يؤكد حرصه على بقائها وتوسيعها, أقول يتحول هذا المعتدي إلى ضحية للارهاب الفلسطيني ويتحول المعتدى عليه إلى الجلاد العدواني والغازي والارهابي.
ويستغل شارون العمليات الفدائية التي يقع ضحيتها عشرات المدنيين الاسرائيليين لتأكيد هذه النظرية. ولم يتردد الناطق باسم الحكومة الاسرائيلية في التعبير عن نوايا هذه الحكومة عندما قال إن مجتمعا ينتج انتحاريين لا يمكن أن يكون شريكا في السلام. وهذا يعني أن الحل هو الحرب الدائمة حتى القضاء النهائي ليس على الارهابيين وإنما أكثر من ذلك على المجتمع الذي ينتج الارهابيين.

ولعل غياب الموقف الدولي القوي من هذه السياسة الهمجية وممالأة الاسرائيليين في دعايتهم السياسية هو الذي يمنع الرأي العام الاسرائيل وسوف يمنعه لفترة طويلة من إدراك حقيقة ما يجري وربط الخسائر الكبيرة بالأرواح التي يتكبدها بسياسة شارون التي اعتمدت ولا تزال على القوة ولا تؤمن بأسلوب آخر للخروج من الأزمة إلا بمضاعفة استخدام القوة. أما من طرفه فيسعى أرييل شارون إلى أن يخفي مسؤوليته عن تفجير العنف المنفلت بالاصرار على إلقاء الاتهامات جزافا على القيادة الفلسطينية التي يريد التخلص منها حتى يستقيم له منطق العنف وينجح في إقناع الرأي العام الدولي بأن بين العنف الاسرائيلي الشرعي والعنف الفلسطيني الارهابي ليس هناك أي خيار آخر. وأن إسرائيل العنصرية والمحتلة والمنتهكة لجميع حقوق الانسان والقوانين والأعراف الدولية هي خط الدفاع الأخير عن الحضارة في وجه البربرية. وفي هذه الحالة يستطيع أن يبرر كل ما قام به في الماضي ويظهر نفسه للعالم على أنه كان الخبير الوحيد بالعقلية الفلسطينية والعربية التي لا تفهم كما ردد ذلك الاسرائيليون خلال عقود سوى لغة القوة. والحال أن الآية قد انقلبت الآن فأصبحنا نحن العرب نعتقد أن الاسرائيليين لا يفهمون لغة أخرى سوى القوة. وهذا هو الذي يشكل الدافع الأكبر للقيام بالعمليات الفدائية. وهكذا يمكن القول منذ الآن أن العنف الذي أراد له الاسرائيليون أن يكون الطريق الوحيد للوصول إلى إخضاع الفلسطينيين بدأ ينقلب عليهم ليصبح طريق انحدار المجتمع الاسرائيلي كله إلى جحيم أمني وٍسياسي وأخلاقي وأقتصادي لا قاع له.

لاشك أن استهداف المدنيين في عمليات تفجيرية متكررة عمل مستنكر في كل القيم والشرائع والقوانين والأخلاق الدولية, وينبغي أن يكون كذلك. وفي الصف العربي عبرت قطاعات كبيرة من الرأي العام الرسمي والشعبي عن شجبها لقتل المدنيين ودعت إلى ايقاف العمليات التي تستهدفهم وفي مقدمهم السلطة الوطنية الفلسطينية ذاتها ورئيسها ياسر عرفات الذي أعلن أن الاسرائيليين يستفيدون من هذه العمليات للاساءة إلى سمعة القضية الفلسطينية ومنع الرأي العام الدولي من التحرك لمواجهة العدوان الاسرائيلي المتكرر على القرى والمدن الفلسطينية والتغطية على الاحتلال. وعندما يعلن الفلسطينيون القياديون ذلك, على مستوى الدولة والمجتمع الفلسطينيين معا, فإنهم يعنون ما يقولون. ولا أعتقد أن هدف هذه البيانات هو دفع التهمة التي اعتاد الاسرائيليون إلصاقها باللفلسطينيين والعرب من باب الابتزاز السياسي فحسب.
لكن هذه الإدانة لا ينبغي أن تخفي الحقائق العملية والمسؤوليات الفعلية عن الوصول بالأوضاع الإقليمية إلى شفا الحرب المعممة. فلا أحد يستطيع أن ينكر أن الاندفاع نحو العمليات الانتحارية في فلسطين قد جاء بعد إغلاق اسرائيل جميع طرق العمل السياسي والدبلوماسي والسلمي عموما وتبنيها سياسة الإخضاع العسكري الوحشي للفلسطينيين لعلهم يقبلون من دون نقاش إملاءاتها ومخططاتها. ولا تعني هذه المخططات شيئا آخر سوى تكريس الأرض الفلسطينية للاستيطان اليهودي الجديد المتوسع كالسرطان على حساب الوجود الفلسطيني. ولا تعني شيئا آخر سوى ضرب الحصار على المجتمع الفلسطين في سبيل خنقه وتقطيع أوصاله وتفكيك لحمته حتى يسهل على السلطة الاسرائيلية استكمال بناء دولة الاستيطان والاستعمار الجديدة على أنقاض الدولة الفلسطينية الموعودة وفي مكانها. فهو حصار عسكري تدعمه الدبابات والأسلاك الشائكة والمواقع العسكرية الموزعة على الأرض الفلسطينية والطرق الالتفافية والاجتياحات المتواصلة والمتكررة للقرى والمدن الفلسطينية ومصادرة الأراضي اليومية. وهو حصار سياسي يغلق جميع أبواب الحوار أو النقاش أو التفاوض ويعلن صراحة عزمه على تصفية القضية الفلسطينية بوسائل عسكرية ولم يعد يفكر بشيء آخر سوى إقامة الأسوار الواقية والجدران العازلة. وهو حصار معنوي يستخدم كل أشكال التنكيل والملاحقات اللاقانونية والإهانات والتمييز العنصري ليجعل من قتل الفلسطيني أمرا عاديا بل مشروعا لدي الرأي العام الاسرائيلي والدولي معا.
إن انكفاء المقاومين أو جزءا منهم على العمليات الانتحارية لا يشكل استمرارا لخط دائم وثاب بقدر ما يعبر عن ردة فعل على سياسة القوة, ويسعى إلى أن يظهر للقيادة الاسرائيلية التي تعتمد صراحة منطق القوة والتي انتخبت لهذا السبب بالذات, أن الشعب الفلسطيني قادر أيضا على التضحية إذا استدعى الأمر ذلك وأنه مستعد لها. لكن في هذه الحالة فإن الموت, كما صرح بذلك زعيم حزب الله حسن نصر الله , لن يكون في جانب واحد فحسب ولا يمكن أن يبقى في الطرف الفلسطيني وحده. فالفلسطينيون يستخدمون القوة والعنف لردع إرادة الحرب والقوة والسيطرة التي يعلنها شارون وحكومته ويمارسها ليل نهار, أي في سبيل إجبار الاسرائيليين إلى العودة إلى الاعتراف بالحقوق الفلسطينية التي كرستها الشرعية الدولية عبر الأمم المتحدة وبالتالي إلى القبول بمبدأ حل النزاع عن طريق المفاوضات السياسية. بينما في المقابل تستخدم القيادة الاسرائيلية العنف سياسة رسمية لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والدفاع عن الاحتلال. وهي تستخدم العمليات الفدائية ذريعة لتبرير سياسة العنف والسيطرة والاحتلال اللاإنسانية ورفض المفاوضات, أي كوسيلة لإضفاء المشروعية ليس على سياسة الحرب الاسرائيلية والاحتلال فحسب ولكن على المشروع الصهيوني كله القائم على طرد الفلسطينيين من أراضيهم والحلول محلهم.
فهل هناك أمل في أن تقنع هذه العمليات الرأي العام الاسرائيلي بأنه لا يوجد هناك سور أكثر وقاية له من إنهاء الاحتلال والخروج من المناطق الفلسطينية والاعتراف بحقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة التي لا تكف الدوائر الدولية منذ الانتفاضة الثانية عن تكرار وعدها فيها؟
ليس من المؤكد أن شعبا يعيش هو نفسه في عقلية الغيتو والحصار التاريخي بل الأبدي ويؤمن أن كل شعوب الأرض لا تفكر بشيء سوى إلحاق الأذي به مهما فعل من خير أو مهما كان حسن السلوك يستطيع أن يتوصل بنفسه لمثل هذا الاستنتاج. بل على الأغلب أن الاستيطان بالحرب هو الذي يتماشى بشكل أكبر مع نفسيته التي تغذيها ذاكرة الريبة والشك بكل ما هو آخر وغريب. والمسؤولية الرئيسية تقع على الدول الكبرى وفي مقدمها الولايات المتحدة التي تستطيع وحدها أن تأخذ بيد الاسرائيليين وترشدهم إلى الطريق الصحيح, أي طريق الاعتراف المتبادل بالآلام والآمال والتضحيات مع الآخرين.
ولا نستطيع في هذه المناسبة أن ننفي أنه ما كان من الممكن للوضع الشرق أوسطي أن يصل إلى ما وصل إليه لولا التردد الأمريكي الطويل في الاعلان عن موقف حاسم من الأحداث الجارية في فلسطين , مما أعطى الانطباع للاسرائيليين أن لديهم رخصة رسمية دائمة من أكبر دولة في العالم للتصرف كما يشاؤون في الشرق الأوسط. والغريب أن الأمريكيين الذين لم يكفوا عن القول إنه لن يكون هناك حل ولا وقف للارهاب من دون إعطاء أمل للفسلطينيين, لم يفعلوا شيئا منذ إعلان السلطة الفلسطينية عن وقف العمليات الفدائية في هذا الطريق وتركوا الاسرائيليين يستكملون مخططاتهم الاستيطانية والعسكرية.
لكن لا ينبغي ان نشك أيضا في أن جزءا من المسؤولية في هذا التردد يقع علينا نحن العرب الذين لم نأخذ أمر شارون ولا أمر اسرائيل بجدية بالرغم من أننا نعيش حالة الحرب مع هذه الدولة منذ أكثر من نصف قرن. فقد استهنا كثيرا بالتهديدات وتنامي القوة العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاعلامية الاسرائيلية واعتقدنا أن تصريحا منا نحن العرب كفيل بأن يدفع الولايات المتحدة إلى إرجاع حليفها الصغير إلى حظيرة السياسة الرشيدة والعقلانية. والآن هناك من يعتقد في الولايات المتحدة أن من الممكن لقوة هذا الحليف الذي لم يعد صغيرا تماما أن تكون ذات فائدة كبيرة لتحقيق السيطرة الأمريكية نفسها في المنطقة العربية.