نداء الحرية في مملكة الصمت السورية

2011-03-29:: Tlaxcala


لم يعد هناك من يشك امام مشهد الثورات المشتعلة في اكثر من قطر في الوقت نفسه، وبعد انتصار ثورتي تونس ومصر أن انقلابا تاريخيا كبيرا قد حصل في المنطقة العربية لم يعد من الممكن تجاهله وبالأحرى الرجوع عنه. ولن يمكن لأي نظام قهري أن يتجنب آثاره ما لم يبادر هو نفسه بعملية إصلاحية تضع البلاد على الطريق ذاتها التي رسمتها الثورة ويشرع بتنفيذ المهام نفسها التي استدعت الانفجار الشعبية المتوالية والمتواصلة كالبركان الذي لا يريد الانطفاء.

فقد دخل العرب، نفسيا وفكريا وسياسيا في تاريخ جديد، تاريخ الحرية الذي حيل بينهم وبينه لعقود طويلة. ومن لا يدرك معنى هذا التحول أو يرفض النظر إليه، سوف يصبح من منتجات ما قبل التاريخ، ويعيش في عالم ليس له علاقة بعد الآن بعالمنا الراهن، لا قيمه من قيمنا ولا أهدافه من اهدافنا. فهناك اليوم في سياساتنا عصر ما قبل التاريخ وعصر التاريخ وما بعد التاريخ. وقمع الانتفاضات الشعبية، وما بالك بمواجهة الاحتجاجات الصغيرة بالحديد والنار، لا يعمل إلا على تعميق شعور الناس بهذه الحقيقة البدهية، ويفاقم من سخطهم على أوضاعهم وعلى من أصبح أكثر من أي وقت سابق عقبة في وجه تقدمهم واستقلال إرادتهم واندراجهم في حقبتهم التاريخية.

ولأن أي شعب عربي لن يقبل بعد الآن أن يعيش في شروط العهد السابق، وسيبدو القبول بمثل هذه الشروط برهانا على انحطاطه الأخلاقي والسياسي وشهادة على قلة حيلته وانعدام كرامته وعجزه أو جبنه، بل على موته، ستجد جميع الأنظمة الاستبدادية نفسها مهددة لا محالة بحركات الاحتجاج، وستتعرض لضغوط متواصلة من قبل قطاعات متزايدة من الرأي العام يضاعف من اندفاعها نحو المشاركة السيل المتواصل من صور الشعوب المناضلة من أجل حريتها. وأمام إرادة التحرر والتصميم وقبول التضحية، بل ربما احيانا نكران الذات في سبيل إدخال المجتمع في عهد الحرية الجديد، لن يزيد قمع هؤلاء إلا في إلهاب روح الثورة فيهم وتغذيتها.

فلن تستطيع الشعوب، بعد كل ما جرى ويجري على امتداد الساحة العربية، وما تحقق من انتصارات لا يمكن التشكيك فيها، أن تقاوم، مهما عظمت المخاطر والتضحيات، إغراء المحاولة والتحرش بالسلطة القائمة واستفزازها والهجوم عليها. وليس امام السلطة الاستبدادية التي فقدت هيبتها تماما بعد ما ظهر فسادها المرعب، وعماها السياسي واستعداداها لتعريض البلاد لكل الأخطار والتدخلات للحفاظ على مصالح أصحابها اللامشروعة وامتيازاتهم، ولجوئها السهل للعنف الوحشي، فصارت هدفا مباشرا لنقمة شعبية لم تعرفها الشعوب العربية في كل تاريخها الحديث سوى أحد خيارين: تجنب الصدام مع القوى المتظاهرة وهذا ما سوف يترجم بسرعة إلى ضعف ويشجع على خروج الجماهير التي لا تزال خائفة من جميع أوساط الشعب إلى الشوارع والساحات لتشارك في عيد الحرية وتحقق مواطنيتها في التواصل في ما بينها، أو أن تقمع التظاهرات والاحتجاجات وتكبدها خسائر كبيرة. وفي هذه الظروف التي نعيشها، أعني الدخول في التاريخ الجديد والزمانية الثورية التي تلف المنطقة بأكملها، لن تكون نتائج القمع سوى تعميق الشعور بالمهانة وبغربة النظام وقطيعته مع الشعب، ومن وراء ذلك استدراج المزيد من الجمهور المتعاطف مع الضحايا إلى الميدان.

واضح أذن أنه في هذه الحالات الاستثنائية تسقط قوة الردع التي كانت للقمع في الحقبة السابقة. أما الحوار أو الاصلاح الذي تدعو إليه السلطة القهرية اليوم فليس له في السياق الراهن أي قيمة سياسية، ولا يمكن أن يخدع إلا الداعين إليه الذين بخلوا على شعوبهم به خلال عقود طويلة كانوا لا يكفون فيها عن ممارسته مع إسرائيل، بما في ذلك مع حكوماتها الاكثر عنصرية ويمينية، وفي ظل استمرار عملية الاستيطان اليهودية. إنه لا يثير شهية أحد وليس له ترجمة أخرى غير سعي الحاكمين إلى كسب الوقت أملا بمرور العاصفة بسلام وبالتالي تأجيل التحولات المطلوبة والتي لم تعد تقبل الانتظار.

فمنذ أن يشعر الفرد بانه أصبح حرا، وقد أصبح جميع العرب من دون استثناء أحرارا في اللحظة ذاتها التي كان فيها التونسيون ثم بشكل أكبر المصريون ينتزعون في ميدان التحرير، وعلى مرأى من الجميع أيضا، حرياتهم وحقوقهم، ويفرضون إرادتهم على النظام، تسقط شروط العبودية والانظمة الراعية لها. وهذا ما حصل للعرب جميعا اليوم، بصرف النظر عن أقطارهم وخصوصياتهم ومستوى تطورهم أو انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو السياسية أو جنسهم. ذلك أن الحرية لا يمكن أن تتعايش ولا للحظة واحدة مع العبودية. وهي في سموها تدفع الناس أيضا إلى التسامي على جميع جراحاتهم اليومية وحساسياتهم المذهبية واختلافاتهم القبلية والدينية. والنظم التي لا تدرك ذلك تحكم على نفسها بالموت واقفة، من دون أن يطلق عليها الجمهور رصاصة واحدة. إنها تصبح ميتة حتى لو لم يخرج لمقاتلتها أي شخص من لحم ودم.


من هنا يخطيء كثيرا أولئك الذين يعتقدون أنهم يستطيعون الفكاك من الاستحقاقات التاريخية لأن لديهم فائضا من القوة والعنف، وأن شيئا لا يمنعهم من استخدامه، أو أن في أيديهم وسائل عظيمة لتشويه الحقائق والكذب والغش. فلم يعد لكل ذلك أي مفعول، وهو بدل أن يخدع أعداءهم، أي الناس الأحرار، يحول أصحابه، هم أنفسهم، إلى ما يشبه النعامة التي تدفن رأسها بالرمال للخلاص من خطر داهم.
ولعل التجربة الليبية هي التي تقدم الدرس الأهم في هذا المعنى. فلم يعمل الاستخدام الصريح للعنف، الذي وصل إلى حد إعلان "قائد ثورة الفاتح"، وصاحب نظرية الجماهيرية والسلطة للجان الشعبية، الحرب الرسمية على شعبه، وعدم التردد في قصف مدنه وقراه بالطيران والمدفعية، على تعزيز سلطة نظام القهر الليبي وهيبته ولكنه سارع في سقوط هذا النظام السياسي والأخلاقي معا، وجعل من التعاون العربي والعالمي للتخلص منه هدفا مشتركا لجميع الدول، بما فيها تلك التي لا مصلحة لها في الثورة القائمة، ودفع الكثيرين من العرب إلى المخاطرة بقبول التدخل الاجنبي على أنه مساعدة إنسانية.

كيف يمكن لنظام حكم اعتاد التعامل مع شعبه كعبيد أو كأتباع وزبائن، يستمد مجده من إذلالهم، ويجمع أربابه ثرواتهم من تعظيم عذاباته اليومية، إلى الانقلاب على ذاته والقيام بثورة على نفسه، توفر على الشعوب الدماء الزكية وعلى البلاد الخسائر المادية ومخاطر الانهيارات الاقتصادية وربما التدخلات الأجنبية ؟

هذا هو التحدي الذي توجهه الشعوب ويوجهه التاريخ اليوم إلى أولئك الحكام الذين لا يزالون، بعد ثلاثة أشهر من الثورة البركانية المستمرة في كل العواصم والمدن العربية، يراهنون على مقدرة أجهزتهم الأمنية وتحالفاتهم الإقليمية على مقاومة طوفان الحرية. لا أدري، إن كان ذلك من سوء حظ الشعوب العربية أو حسنه أن هؤلاء لم يفهموا أو لا يريدون أن يفهموا معنى ما يجري في بلدان حكموها منذ عقود، من دون أن يعيروا شعوبها لفتة واحدة. ولو فعلوا لأدركوا، كما أدرك جميع الناس من حولهم، هذه الحقيقة البدهية التي لم يكف ملايين العرب عن تردادها منذ شهور: الشعب يريد تغيير النظام، أي ببساطة يريد تغيير أسلوب الحكم، يريد المشاركة، يريد الحرية، يريد الكرامة، يريد الاحترام. هل في هذا ما يعصى على الفهم، وهل الجواب على هذه المطالب يحتاج إلى مثل هذه الحشود الأمنية والعسكرية، وقتل الأبرياء وملء السجون بالأطفال والنساء والرجال، وهل بمثل هذه الوسائل تردم الهوة السحيقة بين الحكومات العربية وشعوبها؟