موارد التسلطية العربية

2006-01-04:: الاتحاد

عشية انتهاء الحرب العربية الاسرائيلية عام 1973 كتبت في مجلة "مواقف" مقالا بعنوان عصر الحرب الأهلية، قلت فيه إن نهاية الحرب ضد إسرائيل سوف تكون فاتحة نزاعات عديدة بين الدول العربية وداخل كل دولة عربية على حد سواء. فقد كان يبدو لي أن النظم التي ولدت في حجر الفكرة القومية والوطنية قد تخلت عن كل التزاماتها في ما يتعلق بالبرنامج الوطني الداخلي حتى لم يبق هناك عامل آخر تستند إليه، أو يمكن أن تستند إليه الوحدة الضعيفة والشكلية للشعوب العربية، سوى التفاهم النسبي ضد إسرائيل. وكان يبدو لي أنه، مع تلاشي فعالية هذا العامل، بإعلان انتهاء حالة الحرب وتبني العرب، وعلى رأسهم الرئيس أنور السادات في ذلك الوقت، السلام كاستراتيجية نهائية، لم يبق هناك ما يمكن أن يوقف عملية فرط عقد الأمة العربية إذا لم تبادر النخب العربية إلى إعادة بناء الرابطة الوطنية والقومية على أسس أخرى، ايجابية، أي لا تنبع من التفاهم ضد آخر، وإنما من التعاون بين أبناء الوطن الواحد لتحقيق مشروع أكبر وأعظم من الحرب، أي من أجل إعادة بناء العلاقات الوطنية نفسها على أسس جديدة تضمن الاحترام والعدالة والمساواة بين جميع المواطنين وللجميع أيضا.
من هنا جاءت فكرة كتاب "بيان من أجل الديمقراطية" الذي صدر بعد سنتين من ذلك التاريخ ليشير، في إطار تفسير أزمة الحركة الوطنية/القومية في البلاد العربية، إلى حجم القطيعة التي نشأت بين النخب المحلية وبين الشعوب، وضرورة الخروج من الايديولوجيات الشمولية وتصحيح العلاقة مع المجتمع. هكذا بدت الديمقراطية لي كمخرج من أزمة الوطنية العربية واستباق لحقبة الحرب الأهلية. وكان وراء هذا التحول نحو بناء الداخل الوطني اعتقادي بأن التفاهم ضد إسرائيل قد كسر ولن يمكن إعادة إحياؤه، لأن اهتمامات النخب العربية الحاكمة قد تبدلت ومصالحها ترسخت. بل سيتحول الموقف من إسرائيل إلى منبع خلافات وتوترات ونزاعات عربية عربية، كما حصل بالضبط مع توقيع أنور السادات لاتفاقيات كمب ديفيد وانقسام العالم العربي النهائي وفرط التحالف العربي نهائيا بعد سنة من صدور "البيان".
ماذا نشاهد اليوم؟
لا تزال الحرب الأهلية مستمرة بأشكال مختلفة، ولا تزال المجتمعات العربية تفتقر لمقومات رابطة وطنية حقيقية، أي لا تزال أزمتها الداخلية مستفحلة، وهي التي تدفع أطرافا متعددة فيها إلى البحث عن حلول لهذه الأزمة في العودة إلى النماذج الدينية أو الانكفاء على الأطر التقليدية الطائفية والعشائرية بسبب غياب أفق البديل المواطني الحديث. ولا يزال هناك من يستخدم المقاومة الخارجية والصراع ضد إسرائيل والأمبريالية في سبيل تخليد علاقة الاستعمار الداخلي وإضفاء المشروعية على نمط السلطة الداخلية ذات الطبيعة الاستعمارية حتى لو كانت محلية، أي السلطة التي تدافع عن امتيازات ومصالح استثنائية لا قانونية، عن طريق السيطرة على الدولة وأجهزتها والتحكم بها وتحطيم إرادة المجتمعات وكسرها بالقوة في سبيل فرض الوصاية عليها وحرمانها من حقوقها الطبيعية في التعبير عن نفسها وإدارة شؤونها والمشاركة في صنع مصيرها بيدها. لا يزال هناك من يزين الاستبداد بين المثقفين العرب أنفسهم، ويدافع عن استمراره باسم الوقوف في وجه السيطرة الأجنبية، ولا يزال هناك سياسيون يمارسون الرقابة على الصحف والكتب والإذاعات والتلفزات وعلى ضمير الكتاب والمفكرين باسم النقاء الثقافي والوحدة الوطنية، ويعتبرون وجودهم في السلطة ضمانة لحماية الشعب من مخاطر الحريات الفكرية والمنافسات السياسية.
لكن، ليس للاستبداد المستمر في العالم العربي الآن ومنذ عقود، سبب واحد وحيد، وإنما أسباب ثلاثة متضافرة. الأول هو من دون شك المشكلة الاسرائيلية لما سببته من زعزعة لأسس التفكير السياسي والوطني وما أحدثته من ابتكار في استخدام العنف المنهجي المنظم للقضاء على المقاومات الوطنية وما لقنته للنخب العربية الحاكمة من دروس في كيفية كسر الإرادة الشعبية. فالقهر الإسرائيلي للعرب شعوبا ودولا معا هو الأساس العميق لنظام العنف الشامل الذي سيطر على العلاقات الاجتماعية العربية داخل البلدان منفردة وبين البلدان في ما بينها. ويشكل اليوم ضمان أمن إسرائيل وحماية مشروعها التوسعي سببا للإبقاء على النظم الاستبدادية المأزومة، بقدر ما يشكل ضعفها قاعدة لشل إرادة الشعوب العربية وتحييدها.
والثاني هو الدعم اللامشروط الذي قدمته الدول الكبرى ذات المصالح الحيوية في المنطقة العربية لنظم العنف الجديدة المتكونة على منوال نظام العنف الإسرائيلي ومثاله. فكما قدم المجتمع الدولي، الذي صاغت شريعته هذه الدول نفسها، الدعم الكامل لاسرائيل في مشروعها لفرض نفسها بالقوة والعنف على الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة جميعا، خلال أكثر من نصف قرن، قدم هذا المجتمع نفسه دعما لا يقل عنه شمولا لتلك النظم العربية التي استجابت لمصالحه وقبلت بالعمل ضمن استراتيجيته. وقد شكل هذا الدعم المزدوج وغير المشروط قاعدة موضوعية متينة للتفاهم العملي والتناغم الموضوعي بين العمف الاسرئيلي الموجه للشعوب العربية عموما والعنف الرسمي الموجه داخل كل مجتمع من قبل النخب الحاكمة إلى شعوبها. وخلق هذا العنف المضاعف وضعا استثنائيا في المنطقة أيا وضعا خارجا عن القانون أو معاد للقانون وللقيم الإنسانية. فأصبح العنف، بما يعنيه من قتل وسحل وتطهير عرقي وتمثيل واغتيال وإرهاب، من الأمور الطبيعية والعادية. ولم يعد هناك ما يردع أي طرف من الأطراف القادرة على ممارسة العنف، وفي مقدمها النخب الحاكمة التي تحولت إلى مافيات فعلية، عن استخدام القتل والإرهاب كأداة لممارسة الحكم وإلغاء السياسة لضمان استمرارها بصورة تلقائية.
لكن، وهذا هو السبب الثالث، ما كان من الممكن للاستبداد أن يصل إلى ما وصل إليه من قوة ونفوذ ومقدرة على التخريب والدمار من دون ثقافة الأنانية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، والاستهتار بالمباديء والقيم الانسانية، والتعلق بالمصالح الشخصية والعائلية، وغياب الرؤية الجماعية والتاريخية التي سيطرت على المجتمعات العربية الخارجة لتوها من تحت السيطرة الاستعمارية، بعد قرون طويلة من التعقيم الاستبدادي العثماني. فهو ابن الثقافة العربية الضعيفة الراهنة المنقطعة عن منابعها الروحية والفكرية العميقة والمفتقرة في الوقت نفسه للمصادر العقلية النقدية، بمثل ما هو ابن نظام السيطرة شبه الاستعمارية، وربيب التفاهم مع المشاريع الصهيونية والتسهيل لقيام الدولة الاسرائيلية على أرض غريبة وبوسائل إرهابية. فكلاهما، الاستعمار والاستبداد يقتاتان من الحشيشة نفسها ويستخدمان الوسائل ذاتها: القتل والعنف المنفلت في حالة من غياب القانون والاستقالة الأدبية الداخلية والعالمية.
وما دام نظام الاستعمار والاستيطان معمولا به ومشرعا له عالميا في المنطقة العربية، لن يجد الاستبداد صعوبة تذكر في البحث عن حلفاء له فيها ومن خارجها. وسيجد في ثقافة الموت، بما تعنيه من استسهال للعنف من جهة واستبطان لقيم الإذعان والمسايرة والاستذلال والخوف وغياب لأسس الحياة الأخلاقية والقانونية من جهة ثانية، أسبابا كافية للاستمرار والإزدهار.