من أجل تقاسم أفضل للمسؤوليات

2001-12-16:: الوطن

في إطار الرد على الحملة الغربية المعادية للعرب والمسلمين دعا الأمين العام لجامعة الدول العربية الأستاذ عمرو موسى إلى مؤتمر عقد في القاهرة في نهاية الشهر الماضي (نوفمبر 2001م) لمناقشة الوسائل الكفيلة بذلك. وقد كان من دواعي سروري أن أشارك في هذا المؤتمر الذي كان من المفروض أن يقتصر على ما أطلق عليهم اسم الخبراء، أي أولئك الذين بحكم إقامتهم الطويلة في البلاد الغربية، وبشكل خاص في الولايات المتحدة وأوروبا، أصبحوا يعرفون، ربما أكثر من غيرهم بقليل، الرأي العام الغربي والأساليب التي تستخدمها الدعاية المغرضة ضد العرب من أجل تأجيج نزعة العداء للعروبة والإسلام.
وقد وجدت في المبادرة تحولاً نوعياً في نظرة المسؤولين العرب إلى المثقفين والأكاديميين فلأول مرة يعترف هؤلاء بوجود أشخاص يمكن أن يكون لهم في موضوع من الموضوعات المطروحة مساهمة ما أو رأي يستحق الإنصات أو دور في الحياة العمومية. فقد جرت العادة على أن يتجاهل رجال السياسة العرب هؤلاء تماماً، إلا إذا احتاجوا إليهم أو إلى اسمهم في التنفيذ، أي ليس لاتخاذ القرار أو المساعدة فيه، وذلك لأنهم يعتقدون أن الزعامة والسيادة السياسيتين تستدعيان أن يظهر الزعيم معرفة شاملة في كل الميادين وأن يكون له رأي صائب في الرواية والقصة القصيرة والشعر والمالية والاقتصاد والزراعة والكيمياء والذرة والإستراتيجية العسكرية وتعيين درجة حرارة الجو. والواقع أن الفرق بين الأمي والجاهل هو أن الأمي يعرف كل شيء ويؤمن إيماناً أعمى بأنه يعرف كل شيء ويستطيع أن يتكلم بكل شيء بينما يعرف العالم أنه لا يعرف شيئاً أو أن الذي يعرفه ليس إلا النذر اليسير.
وقد صادف، بعد استلام دعوة جامعة الدول العربية مباشرة والشروح التي ذكرت لي عنها أن شاركت في مدينة برشلونة في إسبانيا بندوة حول الحوار بين الحضارات والتفاعل الثقافي. وجمعني تناول العشاء على طاولة واحدة مع السيد دودو دين، وزير خارجية السنغال السابق والذي يشغل اليوم منصب مدير قسم التفاعل الثقافي في منظمة اليونسكو المعروفة، وكان أحد المساهمين في تنظيم الندوة أيضاً، فسألني عن أسفاري المقبلة فذكرت له من بين ما ذكرت مشروع اجتماع المغتربين العرب في إطار الجامعة العربية في القاهرة. وقد فكر قليلاً وقال لي هذه فكرة عبقرية. سوف أكتب غداً لأمين عام الاتحاد الإفريقي حتى يدعو جميع العلماء والمفكرين الإفريقيين المقيمين في أوروبا والولايات المتحدة ويجعل من لقائهم السنوي مؤتمراً دورياً لمناقشة شؤون إفريقيا ووسائل النهوض بها في هذا العصر. وقد أعجبني أن الوزير الإفريقي السابق قد التقط الفكرة وذهب بها أبعد مما كانت أيضاً فلم يشأ أن يفكر في استخدام المثقفين والعلماء والأكاديميين الأفارقة للدفاع عن صورة إفريقيا والإفريقيين التي هي صورة مشوهة أيضاً في الغرب ولكنه فكر مباشرة في المساهمة النظرية التي يمكن لهؤلاء أن يقدموها في إطار البحث في مستقبل إفريقيا والتفكير في مواجهة مشكلاتها الفعلية.
والواقع أن جدارة السياسي أو القيادة السياسية لا تكمن في قدرتها على صوغ الخطابات الرنانة ولا اتخاذ المواقف الحماسية ولكن في قدرتها على توظيف الموارد الوطنية المختلفة، البشرية منها والمادية، لتعزيز فرص التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية أو للارتقاء بمستوى حياة السكان ومعايير سلوكهم الإنسانية والأخلاقية. وليس هناك أدنى شك أن الأكاديميين والمثقفين والعلماء المقيمين أو العاملين في الدول الصناعية الكبرى من أصول عالم ثالثية يشكلون اليوم رأسمالاً فكرياً ونظرياً لا يعرف أهميته وقيمته إلا أولئك الذين يفكرون بالفعل في تحسين شروط حياة مواطنيهم الفعلية. وقلت في نفسي، ما يزال الساسة العرب ينظرون إلى هذه النخبة الفكرية المختصة على الرغم من كل التدهور الذي أصاب البنيات الاقتصادية والاجتماعية المحلية، نظرة سطحية تقتصر على الاستفادة منهم للدفاع عن صورة العالم العربي، لكن ليس للمشاركة الجدية في التفكير في مشكلات العالم العربي ذاتها والمساهمة في تقديم التحليلات الموضوعية والاقتراحات العقلية الضرورية للخروج منها.
ومع ذلك وجدت الدعوة فرصة نادرة لتفاعل النخب العربية العلمية والسياسية وخطوة أولى على طريق الاعتراف المتبادل بين هذه النخب السياسية والاختصاصية التقنية، وكسراً لمنطق احتكار جميع السلطات والمعارف من قبل أصحاب المراكز العليا والمقتعدين مقاعد السلطة العمومية.
بيد أن هذه الآمال الجديدة سرعان ما تبخرت لدي كما هو الحال لدى أكثر المدعوين القادمين من خارج البلاد العربية عندما تبين لنا ما طرأ على الفكرة من تغيير وتحوير كبيرين منذ أن وجدت طريق تنفيذها. وبدل أن يضم اللقاء كما كان مخططاً له، ثلاثين شخصاً في أقصى حد من أبرز الأكاديميين المهتمين بالحياة العمومية العربية والغربية تحول إلى مهرجان يضم أكثر من ثمانين شخصاً ويقوم كما تقوم جميع المؤتمرات العربية غير الفاعلة وغير الناجعة على الموازنة بين الأطراف السياسية المختلفة والتيارات الفكرية والمناطق الجغرافية المتعددة بحيث يعيد المؤتمر في إنتاجه وضع المجتمعات العربي ذاتها، أي التشتت والانقسام وعدم القدرة على النقاش وانعدام أي فرصة لتطوير أي رأي أو قول أو فكرة أو فعل أو مبادرة. ففي مقابل من يعتبر أو يمكن أن يعتبر غير خاضع لسيطرة هذه الحكومة أو تلك كان لا بد من إشراك ثلاثة أو أربعة من المحسوبين على هذه الحكومة. ومن وراء النقاش حول الحملة الغربية استمر الصراع التقليدي ذاته الذي يرمي إلى تحييد المشاركين المستقلين وآرائهم من قبل النظم العربية أو من قبل ممثليها.
وقد انعكس ذلك وما كان له إلا أن ينعكس على مستوى مداولات المؤتمر، وحلول التصريحات واتخاذ المواقف والشكوى من الظلم والدوران محل النقاش التعددي والجدي والموضوعي في مؤتمر كان جوهره التداول في سبل المواجهة والرد على الحملات المعادية. ودخلنا في الآلية المفرغة ذاتها لتعاقب الكلمات المكتوبة والمعدة مسبقاً لأشخاص ومسؤولين ومنظمات لا يجمع بينها أحياناً جامع ولا يربطها خيط نقاش واحد. وكان سعيداً ذاك الذي نجح في أن يأخذ الكلام مرتين.
مازلت أعتقد، كما قال الوزير الإفريقي تماماً، أن فكرة إشراك الأكاديميين والمختصين والناشطين العرب في الدول الغربية في الحياة العربية العمومية والاستفادة من خبراتهم في تطوير وعي موضوعي وعالمي بالمشكلات الداخلية والخارجية المطروحة، هي فكرة عبقرية. لكن المشكلة كانت في التنفيذ. والتنفيذ يخضع عندنا كما هو معروف من الجميع لحسابات يتقدمها قبل أي شيء آخر مفهوم الأمن الذي اتسع ليشمل الأمن الفكري، أي عدم ترك أحد ينطق بكلمات أو يطلق خطابا لا يتماشى مع الاختيارات السياسية الرسمية أو يتعارض مع رغبة الحكومات في الإبقاء على رأي عام عربي محطم ومائع ومشوش.
وهذا ما عكسه تنظيم المؤتمر وطريقة إدارته اليومية. وقد كان ملفتاً للنظر أن المؤتمر لم يحدد لا جدول أعمال ولا ناقش أسلوب إدارة وتنظيم للأعمال ولا انتخب رؤوساء جلسات ولا قرر كيف يصوغ نتائج أعماله ويزيد من نجاعة هذا اللقاء. لقد كان ذلك كله مقرراً سلفاً. وقد أوكلت القيادة والإدارة والتنظيم والتوجيه من دون شروح ولا تفسيرات لثلاثي لم يترك منصة الرئاسة خلال جميع الجلسات، وهم الوزير عمرو موسى والأمير الحسن بن طلال الذي تصرف، وهو ما أكد عليه في مقابله لاحقة مع محطة الجزيرة، بوصفه أميراً على المثقفين والمفكرين العرب جميعاً ووزير الثقافة اللبناني غسان سلامة. والحسن أمير ومثقف ومتكلم وناشط معترف له في العالم أجمع، وكذلك الوزير اللبناني الذي كان قبل استيزاره باحثاً وأكاديمياً معروفاً. ولم يكن هناك ولا يمكن أن يكون هناك اعتراض على أن يكون كل من الأمير والوزير شركاء للأمين العام للجامعة في قيادة المؤتمر وتوجهه. لكن كان من الضروري من باب اللياقة أن تقترح الجامعة منذ البداية طريقة لإدارة النقاشات وتنظيم جدول الأعمال، وأن يترك للمجتمعين ولو شكلياً فرصة التعبير عن اختيارهم لأولياء أمورهم، وهم لا يمكن اعتبارهم من القاصرين أو الجهلاء كما تعتبر القيادات العربية أغلبية الرأي العام. كما كان من باب اللياقة أن يكون التعامل مع أكاديميين وناشطين رئيسيين في الغرب والعالم العربي على أساس من المساواة واحترام حرية الاختيار والمشاركة أيضاً في إدارة الجلسات. لقد عاملت الجماعة أبناءها تماماً كما تعامل الحكومات العربية أبناءها أي كرعايا وضيوف على الحكومات ومحاسيب لا كمواطنين مكتملي الحقوق والواجبات أي أيضاً كأنداد وإخوة متساويين. لقد أظهرت الجامعة العربية كرماً كبيراً عندما استضافت الأكاديميين والناشطين الاجتماعيين لكنها لم تنجح في إشعارهم بأنها جامعتهم وأنهم في إطارها أعضاء كاملو العضوية يحق لهم اختيار من يمثلهم ويتحدث باسمهم.
ولا ينبع تنصيب المسؤولين والقادة من فوق دائماً من رغبة هذا أو ذاك في الاستئثار بالسلطة والسيادة والمجد. إن السبب الرئيسي لانعدام الشعور بالندية بين صفوف النخب العربية السياسية والعلمية والتقنية والاقتصادية والمالية هو انعدام الثقة الكامل بين أطراف هذه النخب المختلفة وبها أيضاً. إن النزوع إلى احتكار جميع الصفات والملكات والسلطات وجمعها في شخص واحد أو أشخاص معدودين يعكس الإيمان العميق بأن الآخرين غير جديرين وغير مخلصين وغير أمينين وغير قادرين. وهو نفسه تعبير غير مباشر عن واقع انعدام الثقة المطلق بين الحكومات والشعوب وبين الحكومات فيما بينها وبينها وبين الجامعة العربية ذاتها.
فمتى يستطيع السياسي أن يعترف بأنه ليس مضطراً بالضرورة كي يكتسب الشرعية ويبرر البقاء في مركز السلطة العمومية أن يكون العسكري الأول والأكاديمي الأول والإداري الأول والأديب الأول، أي أن يكون جامع العلوم والمواهب والقدرات كلها من دون استثناء، وهي صفات لا يجمع بينها إنسان. أي متى يقبل السياسي بأن يكون بشراً ويتخلى عن ادعاءات الألوهية.