مصلحة أميركا في تغيير النظم السياسية في الشرق الأوسط

2003-08-26:: الاتحاد


بصرف النظر عن الاعتراضات العميقة التي تثيرها أغلبية العرب تجاه السياسات الأميركية العدوانية في فلسطين والعراق، يعتقد جزء كبير من الرأي العام، الشعبي والمثقف، أن دخول الأميركيين القوي إلى المنطقة سيشكل لا محالة عامل تغيير يعوض عن عطالة النخب الحاكمة والمعارضات الضعيفة معا.

وهو أيضا ما توحي وتعد به بيانات الإدارة الأميركية ومقالات كبار مسؤوليها من كولن باول إلى كوندوليزا رايس، حتى يكاد المرء يعتقد من متابعة المناقشات الدائرة داخل أوساط النخبة الأميركية السياسية والثقافية نفسها أن الولايات المتحدة قد اكتشفت للمرة الأولى أن هناك بالفعل مجتمعات عربية في الشرق الأوسط وليس مجرد خيم وجمال وبدو وإرهابيين حمقى ومتعصبين يحاولون السيطرة على آبار النفط.

وأنها أصبحت تعتقد أن لدى هذه المجتمعات مثقفين وأحزابا وقوى اجتماعية تستحق النظر إليها بل والحوار معها، حتى لو لم يصبح بعد من الممكن أخذ وجهات نظرها "البدائية" بالاعتبار. 
كما يمكن القول إنه لأول مرة يشعر المرء كما لو أن المسؤولين الأميركيين بدؤوا يعتقدون، عن جد، بأن هذه المجتمعات ليست ذات طبيعة خاصة تدينها بالاستمرار في نظم حياتها وأنماط سلوكها وتفكيرها الدينية والقومية التقليدية والمغرقة في الخصوصية، وأنها تستطيع -ربما إذا قبلت بالوصاية الأميركية- الارتفاع في مستوى حياتها وتنظيماتها السياسية والمدنية إلى مستوى القيم والمبادئ الأخلاقية من ديمقراطية وحقوق إنسانية وتنمية بشرية.

لكن إذا لم نقبل بالوعود كوقائع محققة ولا بالتفكير الرغبوي الذي يسيطر على الرأي العام العربي المعطل والعاجز بالفعل عن الإنجاز، لا يمكن أن يكون هناك رد على المسألة الكبيرة: هل تحمل السياسة الأميركية الجديدة آفاق تغيير حقيقي في العالم العربي، من دون الإجابة، قبل ذلك، على سؤالين: هل للولايات المتحدة مصلحة فعلية في التغيير؟ ثم هل تستطيع الولايات المتحدة وهل لديها الوسائل الفعلية لإحداث هذا التغيير؟ وبالتالي ما هو نوع التغيير المحتمل الذي سيكون محصلة التفاعل بين الإرادة والرغبة من جهة والقدرة والوسيلة من جهة ثانية.

ليس هناك شك في أن الإدارة الأميركية، التي تحتفظ بمصالح حيوية لم تكف يوما عن التذكير بها في الشرق الأوسط، تشعر منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 على الأقل أن النظم العربية المشرقية، التي رعت إنشاءها وساهمت في تعزيز سيطرتها وبقائها، قد أصابها التعب وأنها لم تعد قادرة على حمل المسؤوليات التي كانت السبب في تقديم الدعم الشامل لها.

ومن هذه المسؤوليات تحقيق الاستقرار والسلام الإقليمي والعالمي والرد، ولو جزئيا، على حاجات المجتمعات المحلية حتى يمكن ضمان الأمن والاستقرار فيها. فقد خسرت هذه النظم معركة الأمن الداخلي ولا تزال العديد منها تواجه مقاومات مسلحة عنيفة، كما خسرت معركة الاستقرار والسلام الإقليميين فلم تنجح في ضبط القوى والمنظمات الأهلية المكافحة ضد إسرائيل، وما قبلت بتسوية عربية إسرائيلية واقعية تضع حدا لمناخ المواجهة والعنف في المنطقة وتفتح الطريق أمام ما يبدو حملة إخضاع وتهدئة شاملة لمجتمعات المنطقة وشعوبها.

بل إن قسما من هذه الأنظمة المتضامنة في إطار الجامعة العربية لا تتورع هي نفسها عن دعم بعض منظمات المقاومة "الإرهابية" وتشجع بالتالي على العنف وزعزعة الاستقرار الإقليمي والعالمي.

وقد جاءت تقارير الأمم المتحدة، التي أظهرت بالفعل الحجم الهائل لهدر الموارد والطاقة والفرص في المنطقة، لتقدم للإدارة الأميركية حجة جديدة تبرر بها غضبها على هذه الأنظمة وحملتها الشعواء عليها.

وهكذا أخذت هذه الإدارة ترسم للنظم العربية والنخب الحاكمة صورة سلبية تماما يقترن فيها الاستبداد والخديعة والنفاق وما يمثله من انعدام الصدقية مع الإخفاق الخطير في نمط الإدارة والتسيير وانعدام الشعور بالمسؤولية.

لكن بالتأكيد ما كان من الممكن للأميركيين أن يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تسويد في صفحة النخب العربية الحاكمة لو لم يتعرضوا مباشرة لبعض ما سوف يعتبرونه أحد إسقاطات سوء الإدارة والتسيير والحكم في المجتمعات العربية، وهو هجوم منظمة القاعدة يوم 11 سبتمبر/أيلول 2001 على برجي التجارة والبنتاغون، وما نتج عن ذلك من مناخ حرب عالمية ثالثة.

ولا يختلف أحد من المحللين على أن هذا الهجوم قد أحدث انقلابا حقيقيا في السياسات الأميركية الشرق أوسطية لا بل العالمية. وقد أظهر الأميركيون منذ ذلك الوقت حساسية مفرطة تجاه مشاكل الأمن القومي والعالمي، واستقر في أذهانهم أن الشرق الأوسط هو أحد مصادر التهديد الرئيسية إن لم يكن مصدر التهديد الأول لهذا الأمن في العالم. وربما ما كان من الممكن لحرب الخليج الثالثة وما تبعها من احتلال العراق أن تحصل لو لم يقع هجوم 11 سبتمبر/أيلول وبالحجم الذي عرف به.

والواقع أن الشعور العميق بولادة نمط تهديدات جديدة وخطيرة على الأمن الأميركي والعالمي لم ينشأ بسبب هذا الهجوم النوعي من الناحية الإستراتيجية ولكن أكثر من ذلك بسبب ارتباطه بمنظمات إسلامية كانت تعتبر حتى ذلك الوقت إحدى أدوات الصراع السياسي الرئيسية التي تستخدمها الولايات المتحدة نفسها، سواء في ضغوطها السياسية على الأنظمة العربية أم في مناوراتها الإستراتيجية الكبرى، كما في أفغانستان.

ومن هنا لم يحمل هجوم 11 سبتمبر/أيلول هزيمة عسكرية خطيرة للولايات المتحدة ولكنه أفقدها حليفا تاريخيا وعالميا استثنائيا أيضا. وبقدر ما أظهر هذا الهجوم في مستوييه خطأ الحسابات الأميركية السابقة، الإستراتيجية والسياسية الدولية، خلق تحديات جديدة وغير منتظرة.

وكانت الضربة النفسية من القوة بحيث أخذ الأميركيون يتصرفون بالفعل في الشرق الأوسط، لكن في أوروبا أيضا والعالم، كما لو كانوا وحيدين من دون حلفاء في عالم تسيطر عليه عقيدة القوة وقانون الغابة. وفي الشرق الأوسط الذي انطلقت منه الضربة الوحيدة العسكرية التي ألمت بالولايات المتحدة وأظهرت هشاشة نظامها الدفاعي، سوف تختار الإدارة الأميركية الموقع الذي تصفي فيه حساباتها.

فهنا أكثر من أي منطقة أخرى من العالم تشعر الولايات المتحدة بأن أصدقاءها وحلفاءها قد انقلبوا عليها وأنها لن تستطيع أن تستعيد كرامتها وصدقيتها من دون أن تعيد جميع هؤلاء الذين خانوها أو خدعوها إلى الطريق القويم.

وكان ضرب العراق واحتلاله، وتدمير دولته ومؤسساته وبنياته التحتية الاقتصادية والثقافية معا، هو التعبير الأنقى عن إرادة الانتقام التي استبدت بالقيادة الأميركية في منتصف عام 2003 وتصفية الحساب مع العرب المسؤولين في نظر الإدارة الأميركية عن إنتاج منظمة القاعدة وغيرها من المنظمات "الإرهابية". وعلى هذا المستوى الانتقامي لا يمكن الإشارة إلى أي مصلحة أميركية. وقد يولد الانتقام رد فعل يقود إلى تهديد متعاظم لمصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

لكن في ما وراء إرادة الانتقام وتصفية الحساب، تدرك الإدارة الأميركية أن هناك مشكلة حقيقية شرق أوسطية، وأن ضمان مصالحها الحيوية في هذه المنطقة لا يمكن أن يتحقق من دون القيام بتغييرات أساسية، على مستوى إصلاح أنماط الإدارة والحكم ومستوى إخراج المنطقة من عزلتها الدولية وركودها الاقتصادي والاجتماعي معا.

ومما يزيد من تحمسها لذلك هو فقدانها لحليفها السياسي الرئيسي في المنطقة بل وانقلابه عليها، أعني الحركات الإسلامية السياسية التي تحولت اليوم إلى العدو الأول للحضور الأميركي في المنطقة. فانفصال الإسلاميين عنها ووقوفهم منذ الآن ضدها وفي مواجهتها لم يفقدا الولايات المتحدة حليفا طبيعيا ومضمونا فحسب ولكنهما وضعاها، أكثر من ذلك، أمام معادلة شرق أوسطية سياسية وإستراتيجية جديدة وصعبة وحبلى بالمخاطر.

فانقلاب الحركة الإسلامية السياسية ذات النفوذ الأوسع اليوم في المنطقة، والقوة الوحيدة المنظمة من بين قوى المعارضة السياسية في البلدان العربية، بالإضافة إلى ما ينبغي تسميته بالفعل إفلاس النخب العربية الحاكمة التي راهنت عليها لضمان نفوذها في العقود الماضية، يفتح بالنسبة لواشنطن عصر أزمة سياسية عميقة في المنطقة ويزيد من مخاطر استلام الإسلاميين للسلطة في أكثر من بلد عربي.

ويزداد إدراك الإدارة الأميركية لهذه المخاطر واحتمال تدمير "الاستقرار" الهش، أو بالأحرى ما تبقى منه في منطقة الشرق الأوسط، مع ازدياد أخبار تعميم الفساد الذي تشير إليه المؤسسات الدولية في النظم العربية وما يمكن أن ينجم عن ذلك من ارتفاع قدرة المعارضات الإسلامية على استقطاب الجمهور العريض الناقم في سبيل العودة إلى مقدمة المسرح السياسي الشرق أوسطي، متسلحة بأوسمة انتصارها التاريخي على واشنطن في 11 سبتمبر/أيلول 2001 ومستفيدة من الانحلال المتفاقم لمؤسسات النظم القائمة.

في مواجهة خطر عودة الحركات الإسلامية إلى قيادة الشارع العربي وربما الوصول إلى السلطة ومن أجل الإمساك المباشر بالأوضاع المشرقية وقطع الطريق على نشوء حالة تجد الولايات المتحدة نفسها فيها مضطرة إلى التخلي عن الكثير من مصالحها، بلورت الولايات المتحدة إستراتيجية جديدة ثلاثية الأركان: الحرب ضد الإرهاب أي ضد الحركات الإسلامية التي تشكل الخطر الرئيسي على الاستقرار في المنطقة، ثم العودة إلى طريق التسوية السلمية للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني بعد هجره لسنوات، وأخيرا السعي إلى إصلاح النظم القائمة.

وتأمل الإدارة الأميركية أن تمكنها هذه الإستراتيجية الجديدة من وضع حد لتدهور الوضع الشرق أوسطي وإزالة الاحتقان والتوتر الشديدين فيه ثم ربط الشرق الأوسط العربي بالاقتصاد الأميركي بحيث يمكن التغلب على مخاطر القطيعة المحتملة في المستقبل.

ومن هذه الزاوية ليس هناك شك في أن للولايات المتحدة مصلحة في إحداث تغيير ملموس في المنطقة حتى تقطع الطريق على أي بديل آخر يشكل تهديدا لمصالحها، سواء أكان بديلا ديمقراطيا أو بديلا إسلاميا.
لكن ينبغي في نظري التحذير من وهمين كبيرين ارتبطا عند الرأي العام العربي بدخول الأميركيين القوي للساحة الشرق أوسطية منذ احتلال العراق، الوهم الأول أن الولايات المتحدة تنوي تغيير الأنظمة الراهنة لصالح أنظمة ديمقراطية، مما يعني أن مثل هذا التغيير يتماشى مع مصالحها الرئيسية. والوهم الثاني هو الاعتقاد أن الولايات المتحدة قادرة، إذا وجدت النية والإرادة، على تحقيق مثل هذا الهدف.
 إن ما تريده الولايات المتحدة هو بالتأكيد وضع حد للفساد المدمر في أنماط الحكم والإدارة الذي يهدد في العالم العربي بتفجير أزمة اجتماعية وبالتالي سياسية وعقائدية لا يمكن لأحد السيطرة عليها في المستقبل، مع تراكم عشرات ملايين العاطلين عن العمل وتدهور مستويات المعيشة والفراغ العقائدي والسياسي، مما يقدم فرصة كبيرة لمنظمات مثل منظمة القاعدة للتحول من منظمات صغيرة وسرية معزولة إلى منظمات لا تقهر مدعمة بجمهور واسع من المتعاطفين والمتعاونين والمتحمسين. وهو ما بدأت معالمه تظهر في عراق ما بعد صدام.

ومن أجل تحقيق مثل هذا الهدف سوف تستخدم الولايات المتحدة جميع وسائل الضغط على النظم والنخب الحاكمة، العسكرية والسياسية والدبلوماسية كما سوف تستخدم وسائل الترغيب والدعم والمكافأة. لكن لا يعني التغيير، في هذه المرحلة على الأقل، التبديل المنهجي أو المنظم للنخب الحاكمة أو تغيير الأنظمة، كما قد يخطر للبعض.

فليس لدى الولايات المتحدة كما رأينا، بديلا واضحا، أو هي لا ترى أن هناك بديلا لها بعد. وهذا يعني أن المنحى الرئيسي للإستراتيجية الأميركية لهذا الوقت هو التفاهم مع هذه النخب والتعامل معها بقصد تطويرها وتحديثها، أي تحسين مستوى أدائها ومساعدتها، ماليا وتقنيا وسياسيا، لتتغلب على بعض نقائصها وثغراتها لقاء ما يمكن أن تقدمه من تعاون فعال في تحقيق الأهداف الأميركية وضمان الهدوء والسلام والحيلولة دون انفجار عام.
لكن لا يعني ذلك أن هذه الأهداف نفسها لن تدفع واشنطن أيضا، إذا رأت في ذلك مصلحة لها وتدعيما لإستراتيجيتها هذه أو إذا لم تنجح في تحقيق التعاون معه، التخلص من هذا النظام أو ذاك وإحلال نظام أكثر صدقية وشعبية مكانه. فالمبدأ العام الذي تنطلق منه هو أن هذه النخب قد أفلست ولا يمكن الاحتفاظ بها لأمد طويل. لكن التعامل معها ينبع من غياب البديل وضرورات الانتصار على الحرب المعلنة على "الإرهابيين". ويكفي أن يتبلور بديل أفضل في أي بلد حتى تغير الولايات المتحدة أيضا أسلوب تعاملها مع أي نظام.
فالواقع أن واشنطن تنطلق في إستراتيجيتها الجديدة من الاعتقاد بأن النظم العربية الراهنة تعمل في الزمن الضائع، فهي محكومة بالإعدام مع وقف التنفيذ، لكن بقاءها يشكل اليوم نوعا من الساتر الدخاني الذي يسمح للولايات المتحدة بخوض الحرب التي أصبحت اليوم حربها على الإرهاب أو ما تعتقد أنه يمثل اليوم القوى الأكثر تهديدا لبقائها واستمرار نفوذها ومصالحها في المنطقة.