لماذا يبدو الاسلام في أوروبا العقبة الوحيدة أمام تقدم المجتمعات العربية

2000-04-08:: الاتحاد

دعيت للمرة الألف ، للمشاركة في ندوة حول الاسلام والمرأة تهدف الى تحسيس الأوروبيين بالمألة النسوية قي البلاد العربية ، ولو أحصينا عدد الندوات التي أعدت في العشرين عاما الأخيرة وكان البحث في هذه الظاهرة الاجتماعية معتمدا على فهم العلاقة مع الاسلام، لوجدنا أنها تشكل نسبة كبيرة قد تتجاوز التسعين بالمئة . فبعد مرحلة سادت فيها موضوعات الاسلام والتنمية دخلنا منذ عقدين في مرحلة سيطرت عليها موضوعات الاسلام والديمقراطية، والاسلام وتحرر المرأة والاسلام والأقليات والاسلام وحقوق الانسان والاسلام والعلمانية والاسلام والمجتمع المدني وغير ذلك من الموضوعات التي تدرس الظواهر الاجتماعية المختلفة في البلاد العربية من خلال علاقتها بالاسلام أو أثر الاسلام فيها أو ارتباطها به .

وقد يكون لصعود الظاهرة الدينية في العالم الاسلامي دور في توجيه الباحثين نحو هذا المنهج في معالجة الشؤون الاجتماعية العربية .وقد يكون هذا التوجه ، قد لاقى، وهو يلاقي بالتأكيد، هوى عند الرأي العام العربي والاسلامي الذي يشكل الاسلام الجزء الأهم والأكثر بريقا من تراثه الثقافي بالإضافة الى ما يمثله من معان دينية ، إلا أننا لايمكن اليوم أن ننكر أن النتائج الطبيعية لطرح مشاكل المجتمعات العربية والاسلامية من زاوية أثر الاسلام فيها أوباعتبارها تجسيدا لتعاليم الاسلام سلبية الى أقصى الحدود فهي تشوش على القضايا الاجتماعية بربطها مباشرة بالاعتقادات الدينية ، وتضع البحث الاجتماعي العربي وحول المجتمعات العربية في مأزق حقيقي بقدر ما تخرجه عن مناهج البحث الاختياري والعلمي وتحوله الى فقه ديني . كما أنها تعمل على تشويه الاسلام وبث الاضطراب والتشوش في تصور المسلمين له ولواقعهم العملي في الوقت ذاته . انها تسير تماما بعكس تيار العلوم الاجتماعية كما ظهر وطور ومورس ولايزال يمارس في جميع المجتمعات الأخرى .

 فمن المعروف أنه حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر لم تكن هناك معرفة علمية أو مدققة بالقواعد أو القوانين التي تحكم المجتمعات الانسانية وسيرها وتحولها ، وكانت المعرفة بالمجتمعات تعتمد على التأمل النظري أو الحكمي للفلاسفة والمفكرين الكبار الذين لم تكن كتاباتهم تخلو من حدوس قوية حول طبيعة هذه المجتمعات لكن المعرفة العلمية ، أي المستمدة من الوصف والمعاينة المباشرة والمتابعة والتدقيق والاختبار النظري لم تظهر في هذا الميدان الا في نهاية القرن التاسع عشر، وذلك تحت ضغط المشاكل الكبيرة التي نشرتها في الوقت نفسه تقريبا الثورة الصناعية بما أنتجته من مظاهر التفقير والتهميش والبؤس وانحراف الأحداث والأحياء الصفيحية ، والثورة السياسية التي قلبت المراتب الطبقية التقليدية وخلخلت تماما النظام السياسي الاجتماعي القائم . وأول ما يتعلمه طلبة الدراسات الاجتماعية كمدخل لفهم مراحل نشوء البحث الاجتماعي العلمي الحديث وتصوره ، هو ظهور نزعة قوية عند المهتمين بشؤون المجتمع ، منذ نهاية هذا القرن ، بالتوجه نحو المراقبة العينية لما يحصل في المناطق والأحياء الشعبية ، والتخلي عن المناهج التأملية التقليدية التي كانت تفتقر للمعاينة المباشرة والمتابعة المنظمة للظواهر الاجتماعية . ولم يكن هؤلاء الذين يقومون بهذه الاستطلاعات أو الأبحاث الميدانية من علماء الاجتماع بالطبع ، ذلك أن هذا العلم لم يكن قد وجد بعد . ولكنهم كانوا من الممارسين الاجتماعيين المتصلين مباشرة بحياة السكان كالأطباء أو المهندسين أو حتى رجال الدين ، أو من الفلاسفة والقانونيين والسياسيين المهمومين بفهم آلية تحول السلطة وتبدل أنظمة الحكم . فقبل أن ينشأ ما نسميه اليوم علم الاجتماع ، نشأ الاستطلاع الميداني الاجتماعي ، أعني ذلك الهوس بالمعرفة التفصيلية والمباشرة لما يجري في الواقع الاجتماعي وكيف يجري ، وتثبيت ذلك في كتب ومؤلفات وصفية تنزع الى أن تتجاوز كل الأحكام المسبقة . ومن تراكم هذه المعرفة الوصفية أو الاختبارية الميدانية بالمجتمعات سوف يصبح من الممكن بلورة تصورات عامة لما يمكن أن تكون عليه المعرفة الاجتماعية العلمية ، والقواعد التي تحكم استثمار هذه المعلومات عن طريق الشرح أو التأويل أو التفسير .

بالتأكيد لم تبق المعرفة العلمية بالمجتمعات محصورة في هذه المعرفة الاختبارية الوصفية ولا في المناهج الأولية التي ارتبطت باستغلالها وتفسيرها ،وتطورت بعد ذلك مدارس ومقاربات متطورة ومتباينة غيرت كثيرا من التقاليد المتبعة في تحصيل المعرفة العلمية ومعالجتها وبعد التطور الكبير الذي شهدته المدرسة أو المدارس الاختبارية الأميريكية التي جمعت الطريقة الكمية والكيفية معا ، والمدارس النقدية في أوروبا بشكل خاص ، تسود الآن مدارس التفاعلية والأتنية المنهجية الأميريكية والتي تقترب أكثر فأكثرمن علوم النفس الاجتماعية . لكن الذي بقي من دون تغيير هو هذا النزوع العميق لمعاينة المجتمعات والظواهر الاجتماعية كما هي موجودة في الواقع والسعي الى فهمها من خلال النظم الاجتماعية ذاتها ، وتفسيرها سواء من خلال إلحاق الجزء بالكل أو بشرح نمط عمل هذا الكل الاجتماعي ، أعني النظام المجتمعي ، وربما كان الأمر الوحيد الذي يجمع بين كل هؤلاء الذين يمارسون ما نسميه اليوم بعلم الاجتماع هو اتفاقهم على أن مفتاح الظواهر والسلوكات والأفعال والمعاني الاجتماعية قائم في المجتمع ذاته أي في نظامه المجتمعي . وينبغي البحث عنه فيه ، وليس في أي مكان آخر ، خارجي أو تاريخي فيما وراء ذلك ليس هناك شيئ مشترك بالفعل بين المقاربات والمدارس المتعددة الكمية والكيفية ، الجدلية والوضعية ، المادية والمثالية ، التعليمية والتفسيرية التي تطورت خلال أكثر من قرن .

وبالعكس من ذلك ، لايزال أي تفكير في المجتمعات العربية والاسلامية بمسلمة كبيرة رئيسية هي أن مفتاح فهم هذه المجتمعات ليس نظامها المجتمعي ، ولكن الاعتقاد الديني ، وهو افتراض ينكر كل المكتسبات التاريخية لعلم الاجتماع . ويبدأ من حكم مسبق بأنها مجتمعات دينية أو غير قادرة على أن تتصور وجودها أو تتطور خارج ما تقتضيه و تفرضه التعاليم الدينية . ومن هنا فهي تستبعد سلفاَ كل بحث ميداني وكل استطلاع مباشر للواقع وترجع بالبحث الى التأمل في النصوص الدينية ومقارنة التفسيرات والتأويلات الفقهية ، فإذا وجد الباحث الآية القرآنية التي تشير الى عدم المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في هذا الميدان أو ذاك ، وهي موجودة ، اعتبر أنه اكتشف علة تدهور وضع المرأة وصارت القضية منتهية . أما اذا لم يجد جرثومة المرض في مثل هذا النص فليس له محيد عن العودة الى النصوص الدينية التالية عليه . سواء ماجاء في الحديث ، الصحيح والمتحول ، أو في تعليقات الشراح والفقهاء التابعين وتابعيهم المتأخرين ، وهكذا تعود علوم المجتمع لتصب في علوم الدين ولا يبقى أي مجال مستقل للبحث الاجتماعي الحقيقي .

إن المأزق الذي وصلت اليه الدراسة الاجتماعية حول المجتمعات العربية وخسارتها الرهان المعرفي المرتبط بها نابع من هذا المنهج الذي يضمر مجموعة من الافتراضات الخاطئة جميعا ، الافتراض الأول هو أن الأوضاع التي يشهدها المجتمع العربي أو الاسلامي سواء ما تعلق منها بتهميش المرأة أو بغياب الديمقراطية أو بانعدام التنمية الاقتصادية و الاجتماعية هي النتيجة الطبيعية لنمط من الاعتقاد أو للعقيدة الدينية . والافتراض الثاني أن العقيدة الاسلامية ، بخلاف العقائد الدينية الأخرى الكبيرة ، المسيحية واليهودية والبوذية والكونفوشية ، لا تزال جامدة على حالها كما في القرون الوسطى ، وهي تستعصي على التغيير بسبب ما تتضمنه من ربط لافكاك فيه بين الزمني والروحي ، والافتراض الثالث هو أن التحولات العميقة التي شهدتها المجتمعات العربية والاسلامية وهي حقيقة لايمكن انكارها سواء في ميدان الصناعة أو الزراعة أو التربية والتعليم ومشاركة المرأة ، ولو جزئيا ، في النشاطات العمومية ، كل ذلك ناجم من تأثير الأفكار والمذاهب الغربية التي سيطرت على بعض عناصر النخبة العربية والاسلامية ، والافتراض الرابع هو أنه طالما ليس من الممكن نزع الاسلام المساوي للمحافظة والتقوقع والجمود من قلوب الناس أو الأغلبية الساحقة منهم ، فليس لهذه المجتمعات أمل آخر للخروج من التأخر والتراجع سوى تكوين نخب متحررة من تأثير الدين ومنفصلة تماما عن الثقافات العربية والاسلامية المحجوزة بالدين وغير القادرة على الاستقلال عنه .

وعن هذه الافتراضات تنبع نتائج عدة ، أولها وأخطرها أن الحداثة أو تحديث المجتمعات العربية والاسلامية تعني مواجهة الاسلام ولاتتم من دون ذلك . والنتيجة الثانية هي أن فصل النخب عن مجتمعاتها هو الطريق الوحيدة لإعادة تأهيل هذه المجتمعات ودمجها في الحياة العصرية والحديثة . لذلك تكاد جميع الأبحاث التي تنشر والندوات التي تعقد في اطار دراسة علاقة الاسلام بالظواهر الاجتماعية تنتهي الى أحد استنتاجين ، الأول ، حتمية الصراع مع الاسلام في أي محاولة جدية للتقدم على طريق الحداثة وتحقيق المعاصرة .

والثاني ، وهو موقف المعتدلين من الباحثين الذين لايعتقدون بضرورة خوض معركة تحطيم سلطة الدين أو مؤسساته . ضرورة البحث عن استراتيجيات بديلة للصراع وقادرة على تحديد مقاومة الاسلام لعملية التحديث والحداثة .

أما فيما يتعلق بعملية فصل النخب المحلية واستيعابها وتغريبها الفكري والثقافي فيكاد يكون هناك إجماع على أنه شرط لابد منه ، ومن هنا فان الدعوة إليه وممارسته من قبل المثقفين والباحثين والمسؤولين السياسيين المهتمين بشؤون المجتمعات العربية والاسلامية يحصلان من دون أي تأنيب للضمير أو شعور بالذنب ، فهما يبدوان وكأنهما ، بالعكس ، يعبران عن التزام أخلاقي بمصلحة هذه الشعوب وتقدمها وعدم تركها تسقط الى هاوية التخلف والرثاثة التاريخية . وهكذا يمكن لسياسة الاحتفاظ بالسيطرة عن طريق الاحتواء الثقافي للنخب الثقافية أن تمارس علنا ومن دون أي تردد ، بل مع الشعور المتزايد براحة الضمير كلما ظهر من بين أبناء هذه النخب المغربة  فرد يتجرأ على اعلان القطيعة ، بصورة استعراضية أو عدوانية عن ثقافته وجماعته الأم ، ويدين ما يبدو له مصدرا للتأخر والجمود والانحطاط الأخلاقي ، والأمثلة على ذلك كثيرة ،أما الذين يرفضون مثل هذا الاعلان ، أو الذين لايبدو عليهم مظهر الانفصال وتأكيد انفصالهم عن مجتمعهم وثقافتهم الأصليين ، فينظر اليهم على أنهم أخفقوا بالرغم من كل الجهود المبذولة في التحول من قرد الى انسان ، ولا يستحقون لذلك أن يعاملوا معاملة الآخرين ولا أن يسمح لهم باستخدام وسائل الاعلام أو الموارد الضرورية التي تتيح لهم ممارسة فنهم أو علمهم الساقطين .

اذا كان من الصحيح أن نوع الاعتقاد في الاسلام هو وحده القادر على تفسير الأوضاع السياسية والاجتماعية العربية الراهنة ، فهذا يعني أن الاسلام يشكل ماهية العرب والمسلمين الثابتة وغير المتحولة ، كما يعني أن دين المسلمين ، يعكس كل الظواهر التاريخية الاجتماعية الأخرى ، عصي عن أي تغيير أو تأويل . ولايترك هذا مجالا أمام المدافعين عن الحداثة ، أعني أمام المجتمعات بأكملها وليس النخب وحدها كما يعتقد الباحثون الغربيون ، الا الاختيار بين أمرين ، التبعية الشاملة ضد الاسلام باعتباره أصل التأخر والتخلف والاستبدلد واستعباد المرأة ، وهناك أنصار كثر لهذا المذهب اليوم في كل مكان ، خاصة في البلاد العربية والاسلامية ذاتها ، أو الدخول في معارك لاتنتهي حول تفسير الاسلام والكشف عن معانيه المتباينة والمختلفة . ومحصلة ذلك قطع الطريق على تطوير أي موقف علمي حقيقي من القضايا الاجتماعية والسياسية الى التخبط الى ما لانهاية في التفسيرات والتأويلات الدينية للنصوص ، وشق صفوفها بين مدافع عن الاسلام من خلال تفسيرات معتدلة أو ديمقراطية ومقاوم له من خلال تفسيرات سوداوية ومتطرفة . ومتى مادخل النقاش في مسائل المجتمع في تأويل النصوص الدينية ضاع في كل الاتجاهات ذلك أنه ليس للتأويل أي حدود. ومن الممكن الذهاب الى أبعد نقطة وأدنى نقطة انطلاقا من النص القرآني ذاته الذي اعتبره الامام علي وهو مرجع لايعلى عليه حمال أوجه ، ولو تأملنا في معظم الأدبيات الصادرة في موضوع الدولة والمجتمع في العقدين الأخيرين لوجدنا أن هذا ماهو حاصل اليوم بالفعل على أوسع نطاق ، حتى لكأن الثقافة العربية تحولت الى فقه تأويلي ، وانتقل معها المثقفون العرب الى فقهاء ومفسرين ومأولين .