لا يكفي أن يكون الحق في جانبنا لننتصر

2019-09-28:: العربي الجديد

بالرغم من أنني لم أكن أرى في اللجنة الدستورية سوى وسيلة لكسب الوقت، بانتظار حسم المعركة العسكرية (في سورية)، إلا أنني لم أفاجأ أيضا بالإعلان عن تشكيلها بعد سنتين من الصراع على تحديد قائمة أعضائها. فمن الصعب تصوّر شروط لتشكيل لجنة صياغة دستور، وهيئة ذات أهلية وتمثيلية لوضع ميثاق وطني، يساعد على الخروج من الحرب، وإرساء أسس السلطة الشرعية، التي لا يقوم من دونها نظام سياسي، أسوأ من التي رافقت ولادة هذه اللجنة. ومن الصعب أيضا أن يتصوّر المرء أن هيئةً على هذه الدرجة من عدم التجانس وتنازع الرؤى والأهواء والمواقف، مع غياب الخبرة القانونية والسياسية، وانتفاء التفاهم والافتقار لأي تكليف أو تأييد شعبي، وبالتالي لأي نوعٍ من الشرعية، وافتقار معظم أعضائها، أكثر من ذلك، للشعور بالمسؤولية، كما يدل على ذلك قبولهم العمل بهذه الشروط، قادرة فعلا على تحقيق مثل هذا الإنجاز.
(1)
لكن من الواضح أن الهدف من هذه اللجنة لم يكن صياغة دستور يعيد توحيد السوريين المتنازعين، ولا إعادة بناء سورية التي لا تزال تمزّقها الحرب، الداخلية والخارجية، وإنما التغطية على غياب الدستور، بالتوافق مع الهدف الأول لرعاة إنشائها، وهو إعادة تاهيل النظام القائم والحيلولة دون التغيير السياسي المنشود. ومن الطبيعي في هذه الحالة ألا تحتاج صياغة الدستور "الجديد" والعاملين به للأهلية القانونية والسياسية ولا للتمثيلية من أي نوع. المطلوب هو لجنة شكلية توحي بانتهاء حقبة الحرب والدخول في حقبة السلام الذي يحتاج الروس القائمون على الأمر السوري إلى تأكيدهما من أجل تكريس مكاسبهم والحصول إذا أمكن على إجازة إعادة الإعمار من الدول الممولة، ومن وراء ذلك شرعنة النظام الجديد الذي أنتجته الحرب، والذي يجمع بين مصالح البيرقراطية العسكرية والأمنية والمليشيات المحلية والأجنبية ومصالح الانتداب الأجنبي، الروسي والإيراني، والضامن لمصالح أطراف دولية مشاركة في ترتيب دعم المشروع الجديد وتمويله.
لذلك، كل ما وجهه الناشطون من انتقاداتٍ إلى اللجنة وطريقة تشكيلها واستحالة أن يصدر عنها دستور يلبي الحد الأدنى من مطالب التغيير صحيح، لكنه لا يضير صانعيها بشيء، فهذا هو المقصود بالضبط. وهو ما يؤكد عليه ممثلو النظام، عندما يصرّون على أن هذا الأخير لن يقبل بأكثر من تعديلاتٍ طفيفة على الدستور الحالي، لا تمس المقدّسات، وأولها مركز الأسد. وهم يعتقدون أن ذلك مضمون سلفا لما يملكه النظام داخل اللجنة العتيدة من أغلبية مضمونة تحرم المحسوبين على المعارضة من تحقيق أي تعديل لا يوافق عليه النظام. كما أن الروس الذين يقفون وراء هذه اللجنة وتشكيلها لا يخفون هدفهم في تثبيت النظام القائم وعدم المساس به، مع فتح إمكانية مشاركة محدودة للمعارضة، تعادل انعدام وزنها العسكري والسياسي المتزايد، في مؤسساته لا تهدّد استمراره. وليس لدى الغرب اليوم، على الرغم من حديثه الشكلي عن ضرورة الانتقال السياسي، مطامح أو تطلعات أو سيناريوهات أخرى لاحتواء الوضع السوري سوى التي يعرضها الروس، ولا يقوم الخلاف إلا على الثمن الذي يريد هؤلاء تدفيعه للغرب لقاء حصارهم النار السورية. فالهدف المشترك اليوم للروس والغربيين معا هو النظام، بمعنى السيطرة على الوضع، أي وجود جهاز حكومي وأمني وعسكري قادر على ضبط المجتمع، وعلى التعاون مع الأجهزة الأمنية والسياسية الدولية في مكافحة الإرهاب الذي أصبح اليوم البند الأول في جدول أعمال السياسة الدولية. وليس في جدول الأعمال هذا أي بند يتعلق بإزالة الغبن عن الشعب السوري، والحد من تغييبه الكامل عن قراره ومصيره، فما بالك بمساعدته على تأسيس حياة ديمقراطية جديدة، وتمكينه من تحقيق تطلعاته الإنسانية. وبالمثل، ربما ساعد الإعلان عن تشكيل هذه اللجنة، بصرف النظر عن مآلات أعمالها وقدراتها، منظمة الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية التي تعمل، بالتنسيق معها، على تجاوز الشعور بالذنب، نتيجة فشلها الذريع في الاستجابة للكارثة، ومناسبة للتخفيف من الانتقادات المتزايدة الموجهة لمبعوثيها لإخفاقهم المستمر منذ أكثر من ثماني سنوات، ومن الاتهامات الموجهة لها بالشلل والعطل وانعدام الصدقية.
ليس الهدف من تخفيض مستوى توقعاتنا من تشكيل هذه اللجنة على مسار الخروج من الكارثة زرع اليأس بين ظهرانينا، وإنما بالعكس التأكيد على أننا لا ينبغي أن نأمل كثيرا من المسارات الدولية المتعلقة بإحلال السلام، بعد أن أذاقتنا السنوات الثماني الماضية طعم العلقم نتيجة خيباتنا المتتالية. وعلينا بالتالي الكف عن طلب الحل، كما لا يزال شائعا في كتاباتنا وانتقاداتنا وتعليقاتنا في الصحافة ووسائط التواصل الاجتماعي، من الدول الكبرى الصديقة وغير الصديقة، والتي أصبحت ترى فينا حصانا خاسرا لا يستحق أن يوضع عليه أي رهان، أو من الأمم المتحدة. وكذلك التوقف عن رهن مصيرنا لإرادة القوى الدولية، بذريعة أننا أصحاب حق، من واجب المجتمع الدولي أن يدعمنا، والعودة في المقابل إلى بديهيات السياسة وقوانينها. وهذا يعني الاعتماد بشكل أكبر على الذات، والمراهنة على استعادة روح المسؤولية لدى ناشطينا وسياسيينا ومثقفينا، والتعويل أكثر فأكثر على مبادراتنا، والعمل على تطوير خططنا وتوسيع خياراتنا السياسية. وفي السياق ذاته، لم يعد من المجدي والمفيد التخفي وراء إصبعنا ورمي مسؤولية الفشل على المعارضة السياسية الممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وقيادات الفصائل العسكرية وهيئة التفاوض، التي هي ثمرة إخفاقنا في التفاهم فيما بيننا على قواعد عمل واضحة وثابتة، لتبوّء مركز القيادة ومعايير حمل المسؤولية. وهذا ما لا نزال نعيش آثاره القاتلة. وبالمثل، لا جدوى من الاستمرار في إلقاء اللوم على قيادة هيئة المفاوضات، أو على الشخصيات السورية التي قبلت عضوية لجنة الدستور التي لا تعكس إلا الحالة المزرية التي وصلت إليها قوى الثورة والمعارضة، بسبب انعدام التنظيم وقلة الاحترام المتبادل والنزعة الفردية وسيطرة مشاعر الغيرة، والتناحر، والحسد، وحب الوجاهة، وانعدام النيات الطيبة والروح الجماعية.
ليست انحرافات مؤسسات المعارضة وتهلهل مواقفها سوى الانعكاس المباشر للتدهور الكبير الذي أصاب قوى المقاومة الشعبية السياسية والمسلحة وانحلال عزيمتها، وهو الذي أدى إلى استسلام بعضها والتحاق بعضها الآخر بالدول الراعية لمسار أستانة وسوتشي وحميميم وموسكو والقاهرة وغيرها. وهذا يعني أنه، في ما وراء المعارضة وتنظيماتها المتراجعة، ينبغي توجيه اللوم أيضا وأولا إلى أنفسنا، نحن نشطاء الثورة والمعارضة الذين نشكل الكتلة الاكبر من الجمهور المناصر لقضية الحرية، وأن نسأل أنفسنا، كل واحد منا، عما فعلناه من أجل مواجهة الكارثة، وماذا كان دورنا ومساهمتنا للخروج منها، ولاستكمال مهام الثورة التي ألهبنا مشاعر الشعب للمشاركة فيها. فما نحصده اليوم على مستوى أداء المعارضة السيئ ومؤسساتها ليس منفصلا عن ثقافتنا السياسية البائسة وسلوكنا، أفرادا أو جماعات، وعن أسلوب عملنا وتفكيرنا ونوعية مشاركتنا في الصراع السلمي أو العسكري، خلال السنوات الطويلة الماضية، والذي غلبت عليه الانفعالية والمشاعر السلبية. لقد كان ضعف المعارضة وتفككها وانعدام صدقية الشخصيات التي تصدرت قيادتها الثمرة الطبيعية للعدمية السياسية التي طبعت الكثير من مواقفنا وسلوكاتنا والتي درجت على تحطيم أي رمزية وتشويه سمعة أي شخصية بارزة أو لديها فرص البروز والقيادة، وزرع الحزازات والضغائن لدى النشطاء فيما بينهم، وتأليب بعضهم على بعضهم الآخر، وضرب الثقة المتبادلة بين أبناء المؤسسة أو الحزب أو الفريق الواحد، والتشكيك في صدق أي رواية وإدانة أي متطوع للقيادة، حتى أجبر المخلصون على الانكفاء وأصبحت الساحة فارغة والطريق سالكا أمام المتسلقين وأصحاب الأطماع والمصالح الشخصية المستعدين للتعاون مع من يقدّم لهم الوعود ويبرزهم، من منظمات وحكومات، على حساب المصالح الوطنية والنضالية.
(2)
ما العمل؟ لا يرتبط الانتقال السياسي بتشكيل أي لجنة دستورية، وإنما بدرجة حضور الشعب والجمهور المعني بالانتقال في الميدان. ومن هنا، يبدأ الرد على تشكيل لجنة تزوير الدستور، لا وضعه أو صياغته، أعني من التفكير في تشكيل القوة السياسية التي تؤسس لهذا الحضور، والعمل على ذلك، وتبني وسائل الفعل الحر والمستقل. وإذا كان هناك درس كبير يمكن وينبغي علينا أن نتعلمه مما حصل فهو أن موقف الدول من أي شعب يتوقف على قوة الشعب وتنظيمه، لا على قوة قضيته وأحقيته في التضامن والدعم. وأن دعم الأصدقاء لا ينفي الحاجة إلى الاعتماد على القوة الذاتية، بل يؤكدها. فمن الممكن لأصدقائنا أن يتحوّلوا إلى أصدقاء لخصومنا، إذا تأكدوا من ضعفنا واضطرتهم الظروف، أو وجدوا في تخليهم عنا مصلحة لهم، سواء تعلق الأمر بقوى سياسية أو حكومات، وأن ضعاف النفوس يزدادون قوة وشراسة واستعدادا للتسلق على أي قضية عامة وعادلة، إذا ما خلت لهم الساحة، ووجدوا المجال مفتوحا أمامهم للسيطرة على مواقع القيادة والمسؤولية لخدمة مصالحهم الخاصة، من دون أن يسألوا أنفسهم عمّا إذا كانوا يستحقونها أم لا. ويمكن للجنة هزيلة كتلك التي شكلت في الأيام الماضية أن تتحوّل إلى لجنة أكثر تماسكا في وجه التلاعب الخارجي، إذا وجدت في مواجهتها، أو بموازاتها، أو وراءها، قوة سياسية منظمة وقادرة على مراقبتها ومحاسبتها. وهذه هي القوة التي لا نزال نراهن على تكوينها منذ سنوات، ولا أمل لنا بتحقيق أي تقدّم على أي صعيد، وفي أي ميدان، ما لم ننجح في توليدها. وهذا هو أيضا التحدّي الذي يواجه المعارضين الديمقراطيين اليوم، وينبغي أن يكون أيضا قاعدة الرد على فضيحة مشروع شرعنة نظام حرب الإبادة الجماعية والاحتلال.
ففي ما وراء معركة اللجنة الدستورية الكاذبة، هناك المعركة الأكبر والأطول لتقويض المشروع الرئيسي الذي تسعى هذه اللجنة إلى تمريره، مشروع إعادة إنتاج نظام الإكراه والوصاية والقمع، مع الأسد أو من دونه. وفي مواجهته والصراع لإفشاله، يمكن لهذه القوة السياسية المستقلة والحرّة التي تحمل بذور الانتقال والتغيير السياسي أن تتخلق وتنمو. والمنطلق توجه النخب السورية الضائعة والمضيعة، أو التي فرضت على نفسها الحصار داخل فضاء وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي، العودة إلى الميدان السياسي والعمل مع الجمهور الشعبي على تنظيم شؤون الأحياء والقرى والنواحي ومخيمات اللجوء وساحات الهجرة والاغتراب، وصولا إلى بناء القوى السياسية الفاعلة على الساحة الوطنية. ففي التفاعل مع الشعب، ونسج العلاقة الايجابية معه، ومن خلال مساعدته على حل أموره اليومية والأساسية، تتكوّن النخب الوطنية التي يقع عليها عبء قيادة المجتمع في العقود المقبلة، وإرساء أسس الدولة الديمقراطية المنشودة، فالدولة قبل أن تكون مؤسسة وأجهزة هي مشروع سياسي يبنى بالشعب ومع الشعب ومن أجله. وهذا هو أيضا أساس القيادة وجوهر السياسة.
والنتيجة، لا يكفي أن يكون الحق في جانبنا حتى تتحقق العدالة. ينبغي أن تكون لدينا أيضا القوة التي تكفل انتصار الحق.