في انتظار معجزة بعثية في دمشق

2003-10-26:: الوطن

 

ما كادت العمليات العسكرية التي بدأت في العشرين من مارس 2003 بمساعدة قوات المارينز تصل إلى نهايتها حتى فتحت الإدارة الأمريكية ملف النظام السوري الذي اتهمته باستقبال مسؤولين عراقيين فارين أو بإرسال متطوعين للمشاركة في الحرب العراقية الأمريكية أو بإيواء منظمات إرهابية أو بإنتاج أسلحة الدمار الشامل. وبصرف النظر عن جدية هذه الاتهامات بدا الأمر في ذلك الوقت خطيرا جدا حتى توقع البعض أن تكون سوريا هي الهدف الثاني للخطة الأمريكية بعد العراق. وبدت السلطات السورية التي كانت تتبنى خطاب مقاومة جذرية ضد الحرب ثم ضد الاحتلال الأمريكي للعراق مهتمة كثيرا بدفع التهم عنها والاستعداد للتجاوب السريع والتعاون الكامل مع ما تطلبه واشنطن. وجاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي كولن باول إلى دمشق في مايو 03 بعد أقل من أسبوع على التهديدات، وما ساد المباحثات الأمريكية السورية من أجواء إيجابية في المظهر وما أعقب ذلك من ميل إلى التهدئة، لتغير كثيرا في المزاج السوري والعلاقات السورية الأمريكية. وتكاثرت تصريحات المسؤولين السوريين التي تؤكد على أن سوريا لم تتلق أي مطالب من واشنطن وأن ما جرى بين الدبلوماسيتين هو حوار جدي وشبه ندي، وأن الولايات المتحدة لم تفرض على سوريا أي تغيير في سياساتها كما أن سوريا لن تقبل بالتخلي عن أي من ثوابتها. وشيئا فشيئا عادت إلى الصحافة السورية لهجة التهوين مما حدث في العراق واستبعاد أن يكون له أثر مهم على تطور الأوضاع السورية.

بل إن العديد من المسؤولين السوريين اعتقد أن من الممكن التفاهم مع واشنطن على كل الأمور التي تثيرها وأن ما تطلبه لا يتعارض في شيء مع الثوابت السورية إن لم تكن سوريا قد قامت به مسبقا كالقطيعة مع نظام صدام حسين في العراق الذي تحرص على تمييزه عن نظام البعث السوري، وتجميد عمل مكاتب المنظمات الفلسطينية والتعاون ضد الإرهاب. ولم يخف بعض هؤلاء المسؤولين في ذلك الوقت أملهم في أن تؤدي المباحثات الأمريكية السورية إلى تعاون حقيقي في العراق يفضي إلى فتح أبواب التجارة العراقية على السوريين. وقد بدت النخبة السورية الحاكمة بالفعل أكثر اطمئنانا وسيطرة على مخاوفها وشكوكها من قبل. وقد أثار هذا التطور الإيجابي في العلاقات الأمريكية السورية فضول الكثير من المراقبين السوريين والأجانب لمعرفة ما إذا كان قد حصل بالفعل تفاهم سوري أمريكي حول الخطوط العريضة لتعديل السياسات السورية أو أن سوريا نجحت في إقناع الولايات المتحدة بقدرتها على التفاعل إيجابيا مع معطيات الوضع الجديد كما دعاها إلى ذلك كولن باول مرارا.
ليس هناك شك في أن حملة التهديدات الأمريكية قد أربكت القيادة السورية التي وجدت نفسها لأول مرة في وضع تكاد تفتقر فيه إلى أي خيار. وكان من الطبيعي أن يثير هذا الموقف الصعب نقاشات واسعة داخل الدولة والإدارة وأن يحرك من جديد التوتر العميق الذي ميز النظام السوري منذ عقود والقائم على المزاوجة الصعبة بين تقاليد الهرب إلى الأمام في مواجهة التحديات والاستسلام السريع أمام القوة. ومن الواضح أن خيار التسليم للقوة الغاشمة الجاثمة على مقربة من دمشق هو الذي انتصر، كما بدا الأمر على الأقل، في المرحلة الأولى. وهكذا أعلنت الحكومة السورية على لسان وزير الخارجية استعدادها للتعاون والحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أغلقت الحدود مع العراق وقبلت حسبما جاء في تصريح المسؤول السوري بما يقبل به الفلسطينيون فيما يتعلق بملف التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، ملمحة بذلك إلى أن دمشق سوف تسحب يدها من النزاع الفلسطيني الإسرائيلي وتكف عن دعم المقاومة الفلسطينية, وقد رافق ذلك إعادة انتشار القوات السورية في لبنان والتلميح من قبل الرئيس بأن لبنان تعافى ومن الممكن للقوات السورية المرابطة هناك أن تفكر في الانسحاب. وقد أكد هذا التحول الإيجابي في العلاقات الأمريكية السورية التصريح الذي أعرب فيه الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش عن ارتياحه من أن سوريا قد فهمت الرسالة. وفي موازاة ذلك بدأت جلسات الحوار السورية الأمريكية بمساعي السفير الأمريكي السابق في دمشق السيد دجرجيان التي عمقت الاعتقاد لدى الرأي العام السوري والعالمي بأن اتفاقا مبدئيا قد حصل بالفعل بين البلدين وأن الطريق سالك لتحقيق المزيد من التفاهمات الأمنية والسياسية.
لكن هذا الاتجاه ما لبث أن انقلب من جديد اعتبارا من شهر سبتمبر من العام نفسه. فقد عادت العلاقات إلى التوتر فجأة في الشهرين الأخيرين، فاتهمت واشنطن سوريا بأنها لم تقم بما كان عليها أن تقوم به وأنها لا تتعاون مئة بالمئة ضد الإرهاب، كما اتهمتها بالسماح لمقاتلين عرب بعبور حدودها نحو العراق. بينما ترددت تصريحات عديدة على لسان رئيس الجمهورية ووزير الخارجية ووزير الدفاع السوريين تتبنى مواقف معادية صراحة للاحتلال الأمريكي للعراق وتطالب بنقل السيادة إلى حكومة عراقية منتخبة وترفض الانصياع لمطالب الإدارة الأمريكية المتعلقة بإغلاق مكاتب المنظمات الفلسطينية في دمشق. والواقع أن الرأي العام العربي لم يعرف ماذا حصل بالضبط فأشعل التوتر من جديد في العلاقات السورية الأمريكية بعد أن بدت لفترة وكأنها تنحو نحو التفاهم والتطبيع. ومع تأييد واشنطن إسرائيل، إن لم نقل تشجيعها على استخدام القوة ضد سوريا ثم موافقتها على تمرير مشروع قانون محاسبة سوريا في الكونجرس الأمريكي، انتقل الخلاف السوري الأمريكي من مرحلة التوتر والضغط إلى مرحلة التدخل العسكري وامتحان القوة.

يبدو لي أن عاملين رئيسيين قد أثرا على الموقف السوري ودفعا نحو إعادة توتير العلاقات السورية الأمريكية، العامل الأول هو من دون شك قراءة مبسطة لنتائج الارتباك المتزايد الذي أخذت تعيشه سلطة الاحتلال الأمريكية في العراق بسبب تصاعد فعالية المقاومة المسلحة الموجهة إليها وتخبطها في إدارة البلاد وبسط الأمن والسلام والقانون فيها. فمما لا شك فيه أن دمشق اعتقدت أن أمريكا المتورطة في وحل العراق لم تعد قادرة على أن تشكل تهديدا لسوريا أو أن من مصلحتها أكثر من ذلك أن تتفاهم مع سوريا لربح معركتها في العراق. أما العامل الثاني فهو تردد الولايات المتحدة في فتح حوار جدي مع السوريين يطمئن النخبة الحاكمة ويقدم لها ما يسمح لها بتعزيز موقفها الداخلي في وجه منتقديها ومتهميها في الوقت الذي تتعرض فيه لموجة متصاعدة وعميقة من الاحتجاج الاجتماعي والسياسي على أسلوب ممارستها للإدارة والحكم. وأمام عجز الولايات المتحدة أو رفضها تقديم ثمن ما للنظام يخفف من العبء السياسي للتنازلات المطلوبة منها، نجح تيار التشدد في العودة بدمشق إلى شعارات "الصمود والتصدي" التقليدية.

لكن هل صحيح أنه لا يوجد لدى النظام السوري خيار آخر سوى خيار المجابهة أو الاستسلام؟
لا أعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد بدلت من أهدافها تجاه سوريا بسبب مواقف دمشق الأخيرة. فالقضاء على النظام القائم في سوريا بشكله الراهن كان ولا يزال هدفا ثابتا من أهداف إدارة الرئيس بوش التي تسيطر عليها فئات تعتقد أن أمن إسرائيل هو جزء من الأمن الأمريكي. إلا أن ما تبدل هو استراتيجية التعامل الأمريكي مع المسألة السورية. فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تتمتع بأي سمعة إيجابية في أوساط الرأي العام السوري ولا تملك أي نفوذ لدى المعارضة ولا تتحكم بأي قوى معارضة تابعة لها يمكن اعتمادها كحصان طروادة للنفوذ إلى داخل المجتمع السوري، أقول كانت الولايات المتحدة تميل إلى اتباع مقاربة استراتيجية ملتوية مع النظام السوري.

فبعكس ما فعلت في العراق ضد نظام صدام حسين المعزول داخليا وخارجيا كانت تأمل في أن تساهم الضغوط والمغريات معا في دفع النظام إلى تغيير نفسه من الداخل والاصطفاف خلف الراية الأمريكية لإنقاذ نفسه من الغرق. وكانت تراهن في ذلك على الانقسام الذي يمكن أن تحدثه الضغوط داخل هذا النظام بحيث يمكن النفاذ إليه وإعادة تشكيله مع الاحتفاظ بهيكليته العامة وتفريغه التدريجي من محتواه، معتمدة في ذلك على التهميش المحتمل للحرس القديم وما يشمله من بيروقراطية الحزب والدولة المترهلة والصعود المتزايد للكوادر ومجموعات الأعمال الجديدة الشابة، البراجماتية والمنفتحة على الأطروحات والأفكار الأمريكية والقابلة للتفاهم معها والتعاون العملي لتطبيق جدول أعمالها.
ولعل القيادة السورية قد أدركت هي أيضا أن التهديدات التي كانت تطلقها واشنطن ضد دمشق لم تكن تهدف إلى الضغط والاحتواء فحسب في سبيل انتزاع مكاسب جزئية ولكنها كانت وسيلة للتغيير. فهي استمرار بوسائل أخرى للحرب العسكرية التي شنت على بغداد والتي تعتقد واشنطن أنها ليست بحاجة إلى تكرارها لإسقاط مقاومة أنظمة أخرى. وإنما يكفي التلويح بها وبمثيلتها كي تضمن تسليم الأنظمة المترددة أو الخائفة ودفعها إلى التعاون الإيجابي والجدي الواسع معها. والواقع لا يعني التسليم بالأوراق التي يطالب بها الأمريكيون والمتمثلة في الانسحاب السياسي من المسألة الفلسطينية والتخلي عن أي دور في العراق والانسحاب من لبنان وتصفية حزب الله وتدمير أسلحتها الاستراتيجية من دون أن تقدم واشنطن لدمشق أي حل لمشكلات الاحتلال في الجولان ولا لمشكلات الشرق الأوسط الأخرى، أقول لا يعني ذلك سوى قبول نظام البعث بتجريد نفسه ذاتيا من آخر أدوات الضغط والمناورة الخارجية والداخلية التي يملكها ليصبح عاريا أمام المعارضة الداخلية المتنامية ونوايا إسرائيل المبيتة معا، أي ليحفر قبره بيده.
وبالمقابل يشكل التأييد الأمريكي للغارة الإسرائيلية على دمشق والتصويت في الكونجرس على قانون محاسبة سوريا تدشينا لاستراتيجية جديدة لهذا التغيير لا تستبعد الوسائل العسكرية إن لم تَمِلْ إلى الاعتماد الموسع عليها. وهذا يعني أننا ربما نشهد بداية الحرب التي تضع واشنطن آلتها موضع العمل شيئا فشيئا في سبيل قلب الأوضاع السورية، حتى لو اتخذ هذا القلب شكلا مختلفا عما حدث في العراق.
ما هي اختيارات النظام السوري الممكنة في مواجهة هذه الحرب التي ليست في الحقيقة إلا وسيلة لفرض سياسة أمريكية جديدة على المنطقة وعلى سوريا بشكل خاص، باعتبارها إحدى الدول النادرة التي لا تزال تصارع في المشرق العربي من أجل الاحتفاظ بهامش مبادرة وطنية مستقلة تجنبها الوقوع في فخ الحلول الأمريكية الإسرائيلية المهينة وغير المضمونة لقضايا النزاع العربي الإسرائيلي المتعددة الجوانب والمستويات؟
بالتأكيد لن يفيد التنازل أو الخضوع للأمريكيين في شيء. فهو وإن ساهم في تخفيف الضغوط مؤقتا عن دمشق إلا أنه لن يوقف آلة الحرب التي أخذت في المسير. ولن تتوقف الإدارة الأمريكية التي تعتقد أنها أمام فريسة سهلة أكثر عن تعقب النظام السوري لإجباره على الاستسلام وفرض الوصاية الأمريكية عليه بعد تقليص جميع خياراته أو إلغائها في العراق وفلسطين ولبنان معا.
وما زلت أعتقد أنه "في ظروف انعدام أي خيارات أخرى لدمشق، التي ضيعت على نفسها فرصة نادرة في السنوات الثلاث الماضية كان بإمكانها استثمارها لإحداث تغيير إرادي ومنظم في الأوضاع لصالح الانفتاح على المجتمع وتطبيع الوضع الوطني وتوسيع هامش اختياراتها الداخلية وتحسين نظام دفاعاتها الاستراتيجية، ليس هناك أي شك في أن استمرار الضغوط الأمريكية على النظام وعلى جميع الجبهات سوف يدفع إلى تفكك النظام. وإذا لم يكن ما يسمونه بالحرس القديم أي بيروقراطية الدولة والحزب الحاكم هو الضحية الأكيدة لهذا التفكك فلن يحول شيء دون لجوء الولايات المتحدة الأمريكية، بالمشاركة مع إسرائيل أو من دونها، إلى الضغوط والتدخلات العسكرية المباشرة أو غير المباشرة لإحداث تغييرهم المنشود الذي أصبح البديل الذي يرونه للتغيير الوطني الديمقراطي الذي رفضت السلطة النقاش فيه وحالت دونه في السنوات الماضية قوى الأمر الواقع والدفاع عن المصالح الخاصة". كما كتبت بعد احتلال العراق مباشرة.
باختصار، لم يعد لإنقاذ الحد الأدنى من المصالح السورية سوى العودة إلى المجتمع والشعب والإعداد لانتخابات تشريعية حقيقية تسبق الانتخابات التشريعية العراقية تنجم عنها حكومة وطنية منتخبة تتسلم مقاليد الأمور وتسعى إلى فتح مفاوضات مع الحكومة الأمريكية باسم الشعب السوري وفي سبيل ضمان حريته واستقلاله وسلامة أراضيه. فلم يعد هناك في نظري أي أمل حقيقي في تجاوز أزمة الثقة العميقة التي انتهت إليها العلاقات السورية الأمريكية في ظل النظام الراهن والعودة إلى حوار جدي يقطع الطريق على الاستعدادات الحربية الإسرائيلية الأمريكية.
وعلينا أن نعرف جميعا أن ما هو مطروح اليوم ليس الحفاظ على الحكم البعثي أو تغييره وإنما: لصالح من سيتم هذا التغيير والخروج من الحقبة البعثية، ومن الذي سيكون المستفيد منهما: إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية ومشروع سيطرتهما الإقليمية أم الشعب السوري. فهل يظهر البعث في سوريا روحا وطنية وبصيرة تاريخية أقوى مما أظهره البعث العراقي الذي انهار بسبب ما وسم سلوكه من تصلب وجمود وانغلاق على شعبه وافتقار إلى روح المبادرة الوطنية والاستراتيجية معا؟