في النزاع السوري الأمريكي

2005-07-28:: الرأي

 لا يمكن لأي محلل سياسي أن لا يطرح في مواجهة ما ينبغي أن نسميه حوار الطرشان المستمر إلى ما لانهاية بين واشنطن ودمشق السؤال الرئيسي نفسه الذي لا تتوقف الدبلوماسية السورية عن طرحه على واشنطن وعلى نفسها معا أعني سؤال ماذا تريد واشنطن من دمشق بالضبط. تقول الدبلوماسية الامريكية باستمرار أن ما تريده من دمشق هو التعاون بشكل أفضل في محاربة الارهاب سواء ما تعلق منه بالعراق أو ما تعلق منه بفلسطين واسرائيل. لكن سورية ترد على ذلك بالقول، وهي على حق، بأن واشنطن تتجاهل الجهود الهائلة التي تبذلها الحكومة السورية للتجاوب مع المطالب الأمريكية، ومن هذه الجهود وليس أقلها من حيث الأهمية انسحاب الجيش السوري الكامل من لبنان وتطبيق القسم الذي يخصها من قرار مجلس الأمن 1559. ومنها التعاون الواسع مع السلطات الأمريكية والعراقية لوقف التسلل إلى العراق عبر الأراضي السورية لدرجة تنازلت فيها دمشق عن جزء من سيادتها وقبلت بوجود شريط عازل بين البلدين تحت إشراف دولي لمراقبة الحدود ووقف عمليات التسلل المحتملة. ومنها المساهمة السورية الواضحة في دفع حركات المقاومة الفلسطينية الاسلامية إلى التفاهم مع السلطة الوطنية ومنظمة التحرير لوقف العمليات القتالية وخلق مناخ ملائم للانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من غزة. ومع ذلك لا يبدو أن الضغوط الأمريكية في طريقها إلى أن تتناقص على دمشق بل هي في تزايد مستمر. فهل يكون هدف الولايات المتحدة في النهاية إسقاط النظام السوري نفسه لما يمثله من رمزية قومية وما يتمسك به من قيم ومواقف هي ثوابت وطنية في السياسة السورية بدل أن يكون، كما تردد كوندليزا رايس إجبار الحكومة السورية على تغيير سياساتها القديمة أو القومية؟

اعتقدت الولايات المتحدة في المرحلة الأولى ولا يزال فريق كبير منها يعتقد أن بأن سلاح الضغط والتهديد وزعزعة الاستقرار سوف يقود لا محالة إلى تركيع النظام الذي يعاني داخليا من مشاكل تواصل كبيرة مع المجتمع أو، إذا لم يحصل ذلك، على إفراز فريق من داخله يقبل التعاون معها لتحقيق أهدافها فتصبح سورية سلاحا في يدها لإعادة هيكلة المنطقة بدل أن تكون عقبة في وجهها أو ثغرة في نظام إقليمي جديد تلاقي صعوبات كبيرة في بنائه. هكذا انفتح باب المواجهة الأمريكية السورية التي تعرضت فيها دمشق لسلسلة الإجراءات العقابية والتهديدات السياسية والضغوط العسكرية التي تهدف إلى كف يد السوريين في العراق ثم إخراجهم من لبنان وردعهم عن دعم المنظمات الفلسطينية الجهادية.

والواقع أنه كان من الممكن لواشنطن أن تنجح في هذه المراهنة لو أنها حققت انتصارا واضحا في العراق أو خرقا في فلسطين يؤهلانها لمتابعة مشروعها الأساسي الرامي إلى إعادة هيكلة الشرق الأوسط من وجهة نظر مصالحها وخططها الاستراتيجية الكبرى. لكن الوضع ليس في صالحها في الوقت الراهن ولا قدرة لها على فتح جبهات جديدة في الوقت الذي يتعرض فيه الرئيس الأمريكي، مثل حليفه الرئيسي توني بلير، لضغوط متزايدة في الكونغرس في سبيل سحب قواته من العراق أو تحقيق انتصارات ملموسة هناك. ومن هنا كانت جميع الدلائل تشير إلى أنه ليس أمام واشنطن خيار آخر سوى القبول بالتعايش في الشرق الأوسط والعراق مع النظام السوري كما قبلت التعايش بعد ضغوطات كبيرة مع النظم العربية الأخرى لقاء تنازلات داخلية شكلية لا تغير كثيرا من موازين القوى الاقليمية أو السياسية الداخلية. وهي تنازلات لا يعارض نظام دمشق في تقديمها ولا يتردد في إظهار حماسه للتعاون مع واشنطن لتحقيقها.
لكن على عكس ما جرى مع البلدان العربية الاخرى يبدو لي أن ما يعرقل التوصل إلى تفاهم سريع بين الطرفين يتلخص في أمرين. الأول استهتار واشنطن الواضح والمستمر بالمصالح الوطنية السورية الرئيسية المتمثلة في استعادة الجولان، مما يجعل هذا التفاهم في نظر السوريين استسلاما مباشرا لا يمكن تبريره أمام الرأي العام السوري والعربي وتعاونا من دون مقابل مع سياسة أمريكية محورها الحقيقي خدمة المصالح الاسرائيلية. والثاني الشعور القوي الذي لا يزال يتملك النظام السوري بأنه يملك ما فيه الكفاية من الأوراق الإقليمية التي تسمح له بأن يرفض خيار التسليم والاستسلام هذا وينحو من دون مخاطر كبيرة منحى المقاومة أو الممانعة، واثقا من أن الرأي العام يقف إلى صفه وأن الحكومات العربية الحليفة لواشنطن ستكون مضطرة هي الأخرى لعدم التخلي عنه مهما وصل إليه من العزلة الدولية.

وبالفعل، كما أن عجز الولايات المتحدة عن تحقيق الانتصار في العراق قد حرمها من القدرة على اتخاذ مبادرات أو بالأحرى مغامرات عسكرية جديدة والتهديد الجدي بزعزعة الاستقرار من دون أن يزيل ما تمثله من ضغط قائم ومستمر على الحدود السورية وفي الساحة الدولية، فإن نجاح مناورات النظام الداخلية وضعف المعارضة قد مكنا الحكم السوري من الاستمرار والبقاء من دون أن تفتحا امامه أي نافذة أمل للخروج من الأزمة والتغلب على الانهيار الاستراتيجي الذي أحدثته التحولات الجيوستراتيجة الكبرى. وقد دفع هذا المأزق المزدوج وسوف يدفع أكثر فأكثر طرفي النزاع إلى مراجعة حسابيهما وربما إلى السعي نحو تفاهم جديد يخفف من الضغوط الدولية الواقعة على النظام السوري ويقطع الطريق على خيارات الحرب كما يمكن الولايات المتحدة من الاستفادة من التعاون السوري الكبير في المسألة العراقية. وهو ما كرسته تصريحات كوندوليزا رايس الأخيرة التي تصب في هذا المعنى وتجعل من مساعدة النظام على تغيير سياساته الهدف المعلن والرسمي لواشنطن.
في هذا السياق الذي سمح للنظام بالتقاط أنفاسه ينبغي تفسير استعادة ثقة السلطة بذاتها، كما ينبغي تفسير التحولات المتسارعة داخل الحزب والدولة لصالح تغيير الوجوه القديمة وفي موازاة ذلك السعي لاسترجاع زمام المبادرة السياسية في الداخل عن طريق التشدد مع المعارضة وإسكات الأصوات النقدية وتشتيت المثقفين والسعي لإخضاعهم عبر ممارسات مهينة مثل الحبس والضرب والتهديد والملاحقات المستمرة وإغلاق آخر منتدياتهم الحوارية (منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي) وتشويه سمعة رموز المعارضة بوسمهم بالعمالة للدول الأجنبية. وفي هذا السياق يقع أيضا الهجوم الإعلامي المكثف ضد نشطاء المنظمات المدنية وفي سبيل تحصين المجتمع والرأي العام السوري ضد آمال التغيير التي بعثتها ضعضعة النظام في الأشهر الماضية. وفي هذا السياق ذاته يتخذ التراجع عن الوعود المتعلقة بالحريات السياسية وحقوق الانسان مكانه ومعناه. وفي هذا السياق أيضا، وعلى أمل استعادة جزء من المبادرة الإقليمية وتوسيع الثغرة التي بدأت تظهر في دائرة القرار الأمريكي بين أنصار متابعة الحصار على سورية والتيارات الأكثر واقعية التي تريد الاستفادة بالعكس من إمكانياتها في سبيل مساعدة واشنطن على الخروج بسلام من العراق، ينبغي تفسير السياسة الجديدة تجاه لبنان.
فبفرضه الحصار الاقتصادي على لبنان يريد الحكم السوري أن يظهر أنه لا يزال يملك عصا تمكنه من إلحاق الأذى بالقوى الخصم. وبنشاطه المتزايد على الأرض لتفكيك شبكات المقاومة و"الإرهاب" في العراق وفلسطين وسورية يريد النظام أن يبرهن لواشنطن على ما يمثله من قدرة وقوة بناءة واستعداد حقيقي للتعاون من منطلقات واقعية وبراغماتية. وعلى العموم يأمل النظام السوري أن تشكل الرسالتان، السلبية والايجابية معا، على حدود لبنان وعلى حدود العراق، برهانا على أنه لم يمت كما يعتقد خصومه ولا يزال يتمتع بالعكس بقدر لا بأس به من القوة والقدرة على رد الفعل.
والواقع أن التطور الحاصل في الموقف السوري قد يمهد الطريق بشكل قوي تحو تفاهم سوري أمريكي. فطالما توقفت دمشق عن ربط التعاون الايجابي على حدود العراق وضد شبكات الارهاب بالمفاوضات حول الجولان لم يعد هناك عقبات كبيرة تمنع الحكومة السورية من التوصل إلى التفاهم نفسه الذي توصلت إليه العواصم العربية الأخرى التي تعرضت لضغوط أمريكية مماثلة في السنين الماضية مع واشنطن.
ففي النهاية ليس هناك ما يميز حالة خلاف دمشق مع واشنطن كثيرا عن حالة خلاف العاصمة الأمريكية نفسها مع الرياض والقاهرة وطرابلس الغرب من قبل سوى هذه المسألة الاستراتيجية الكبرى. فالعامل الذي أعطى للنزاع بين العاصمتين صورة أكثر حدة هنا هو سعي دمشق بالفعل إلى ربط التعاون مع واشنطن بفتح مفاوضات جدية حول الأراضي السورية المحتلة ورفض التعاون من دون ثمن واعتباره خدمة مجانية للمصالح الأمريكية والاسرائيلية. وقد رفضت واشنطن هذا الخيار لأنه يتعارض مع الارتباط العميق والموضوعي لأجندة السيطرة الأمريكية في سورية مع أجندة الاحتلال والتوسع الاسرائيلي في الجولان وهو ما يصر عليه فريق من الإدارة الأمريكية يعلن العداوة لسورية ويسعى بجميع الوسائل إلى إهانتها وإضعافها لصالح تل أبيب من حيث هي بلد وليس فقط كنظام. وفي اعتقادي لو أن الدبلوماسية السورية أظهرت بصيرة أكثر وعبرت منذ البداية عن استعدادها للقبول بالتفاوض على مواقعها الإقليمية الثانوية التي أجبرت على التخلي عنها في ما بعد بالقوة، على حدود العراق وعلى الجبهة الفلسطينية وفي لبنان، لكانت حصلت على تفاهم أفضل بكثير مع واشنطن يوفر عليها ما شهدته من زعزعة الاستقرار مع ضمان بقاء النظام وربما مع أمل كبير باستعادة الجولان. وهو ما يبدو اليوم هدف بعيد المنال. ففي النهاية هذا هو الرهان الاستراتيجي الرئيسي لسورية في هذه المناورة الاستراتيجية الكبرى في الشرق الاوسط والتي لم تكن شعارات الاصلاح وبرامجه الخيالية سوى غلالة تخفي الرهانات الحقيقية. فبعكس ما بدا على السياسة الأمريكية من اهتمام بمسألة الاصلاح والتحويل الديمقراطي، لا يزال هناك من الأسباب التي تدفع في اتجاه الإبقاء على الزواج القائم بين النظم القائمة والسيطرة الأمريكية في المنطقة العربية أكثر بكثير مما توجد من دوافع لحصول القطيعة أو الطلاق بينهما. والضحية الرئيسية لهذا الزواج كان ولا يزال المسألة والمصالح الوطنية.