في أسباب انحطاط المناظرة الوطنية وفسادها في العالم العربي

2002-11-17:: الوطن

 
بالرغم مما يتعرض له العالم العربي من ضغوط خارجية هائلة تهدد بزعزعة مستديمة لتوازناته الداخلية الأساسية والعميقة لا يزال النقاش الوطني في البلاد العربية يتدهور بشكل متسارع ويخرج أكثر فأكثر عن أي معايير نقاش عقلية أو إنسانية. ففي أكثر من بلد عربي تكاد المناظرة الوطنية تتحول إلى تراشق للاتهامات وتبادل للشتائم. ولا شك عندي في أن هذا التدهور يعبر عن تفاقم الأزمة الفكرية والعقائدية في المجتمعات العربية عموما, وأن هذا التفاقم في الأزمة العقائدية وما يخلقه من مناخ الحرب الفكرية يرجع - فيما وراء النزاع السياسي بين الحكم والمعارضة, وإلى حد كبير - إلى طبيعة النظام الثقافي الذي نشأ ونما في العقود القليلة الماضية في العالم العربي. لكن من الصحيح أيضا أن هذا النظام هو في المحصلة التعبير المباشر عن اختيارات النظام السياسي الذي ساد في معظم الأقطار العربية, وهي الاختيارات القائمة على منع الحوار والجدل والنقاش والتفكير المشترك وفرض الأمر الواقع الفكري والعقائدي على الجميع عبر الاحتكار الرسمي لوسائل الإعلام وفي بعض البلدان على تأكيد شعارات الجيش العقائدي والمدرسة العقائدية والدولة العقائدية أي المتحزبة لفريق سياسي وأيديولوجي واحد. وكل ذلك يعني ببساطة إلغاء استقلالية الحياة الثقافية وربطها مباشرة بالسلطة واستخدامها كأدوات للتمكين لهذه السلطة وضمان بقائها.
هذا هو الاصل العميق لنشوء الجو الفكري الراهن المشحون والمتوتر الذي يدفع البعض إلى مواقف موتورة كما يدفع البعض الآخر إلى تضخيم هذه المواقف والمبالغة في حجمها ويجعلنا نعيش جميعا في حالة من الخوف والمواجهة الفكرية والنفسية والثقافية المستمرة ويحول مجتمعنا الواحد إلى مجتمعات منفصلة ومتعددة متنابذة لكل منها ثقافته وقيمه وتطلعاته وآماله وآلامه. وهذا هو الوضع الذي يفسر حالة الفقر في المواهب والأطر والقيادات والناشطين الناجحين من كل صنف. فتحويل الثقافة إلى أداة لخدمة السلطة السياسية والدفاع عنها والحفاظ عليها, لا يمكن أن يقود إلى شيء آخر سوى إلغاء الثقافة نفسها كمكان وفرصة للتواصل والتقارب والتداول الإيجابي وبالتالي للتراحم والتآلف والانسجام بين الأفراد والجماعات الناشئين في ظروف وبيئات ثقافية واجتماعية مختلفة ومتباينة بالضرورة. أي لا يمكن أن يقود بالتالي إلا إلى ترك الأفراد من دون أرضية ولا مرجعيات مشتركة وموحدة. وليس التكفير المتبادل الذي يتزايد اللجوء إليه عند قطاعات متعددة من الرأي العام العربي سوى التجسيد المادي للعجز الذي يعاني منه الأفراد داخل هذا النظام الثقافي عن التعرف على أنفسهم والتحقق من العناصر الجامعة لهم فعلا والاعتراف المتبادل فيما بينهم. إذ لا يبقى شيء يجمع هنا ويربط بين أفراد المجتمع المكون بشكل أساسي من مجتمع الدولة وما يحيط به ويلتف حوله والمجتمع المهمش والمستبعد الذي تسعى ثقافة السلطة أو الخاضعة آليا للسلطة إلى عزله وإخضاعه وتحييده. وليس رفض الاعتراف المتبادل إلا الجواب الطبيعي على هذا العجز عن التعارف بسبب القضاء على وسائط التعاون والتبادل والتواصل وبالتالي التفاهم الفعلي والعقلي بين البشر.
وليس من قبيل الصدفة أن السلطة المطلقة التي تدفع بسياسات السيطرة الأحادية التي تمارسها إلى الانقسام والتشظي الاجتماعيين هي أكثر من يستخدم نتائج هذا التشظي لتبرير وجودها كسلطة مطلقة مفروضة من فوق والدفاع عن حقها في التمديد الأبدي لنفسها. فهذا التفكيك العملي للمجتمع هو الذي يسمح لها بالوجود والبقاء ويضفي على سياسة الاحتكار والانفراد التي تمارسها قسطا من الشرعية الوهمية أو الكاذبة.
وهذا يعني أن سلوك المجتمع بقطاعات رأيه المختلفة بما فيها المعارضة تجاه الدولة وتجاه ممثليها أو المرتبطين بها أو المشتبه بارتباطهم بها, فالأمر واحد, لا يمكن أن يفهما بمعزل عن سلوك السلطة ذاتها تجاه المجتمع وقواه السياسية والفكرية المعارضة وغير المعارضة. لا يمكن مثلا لسلطة أن تنتظر أن تتلقى مديح أصحاب الرأي وهي تخنف أي رأي يختلف مع تصورات منظريها وأصحابها. وبالمثل إن لكل سلطة أو نظام سلطة نمط المعارضة الذي يستحقه لأنه هو المسؤول عن وجوده في الظروف والأوضاع التي يوجد فيها وأسلوب عمله معا. فالمعارضة التي تتربى في مدرسة الديمقراطية والنزاهة الوطنية والشفافية السياسية والاقتصادية وتقاليد الاحترام للقانون والقضاء المستقل والصحافة الحرة والتوازن الصحيح بين السلطات في إطار احترام الدستور وعدم التلاعب به وتحت إشراف صحافة حرة تعكس مختلف تيارات الرأي العام وتساهم في بلورتها وتقدم لها فرص التعبير الحر عن نفسها تختلف اختلافا نوعيا ومطلقا, ولا بد أن تختلف, عن المعارضة التي تنمو كنبتة وحشية في مناخ من القهر والقمع والتعذيب الجسدي والنفسي وسيف الاعتقالات والتجريم المسلط باستمرار والمحاكمة على النوايا والاعتقادات واستسهال الاتهام بالعمالة للسفارات الأجنبية وباللاوطنية لأبسط اختلاف في المواقف والآراء, بل والتهديد الدائم بالموت.
وعلينا أن نكمل القول المأثور المعروف : كيفما تكونوا يول عليكم, بقول آخر أثبتته التجربة التاريخية الحديثة هو : كما يول عليكم تكونوا, أي إن أسلوب الحكم والولاية هو العامل الأول في تكوين أخلاق الناس العامة وسلوكهم الاجتماعي. فكما أن نظام الحرية السياسية هو مدرسة لتخريج الأفراد الأحرار والمسؤولين تظل الديكتاتورية هي المدرسة المثلى لتخريج الأفراد المنافقين والانتهازيين والخائفين وعديمي الشعور بالمسؤولية الفردية والاجتماعية معا. والسلطة التي تتبنى نمط حكم لا يعترف بحقوق الأفراد ولا يحترم حرياتهم واستقلالهم لا ينبغي أن تنتظر من مواطنيها أن يعترفوا بحقوقها عليهم ولا أن يحترموها ولا أن يقدروها ويطيعوها. وعندما تستسهل السلطة الخروج على القانون أو الالتفاف عليه لإخراس الناس أو حرمانهم من حقهم في التعبير عن الرأي أو المنافسة والمشاركة السياسية الطبيعية فهي تعلمهم في الوقت ذاته استسهال الخروج على القانون أو الالتفاف عليه والعبث به. وليس هناك منطقة في العالم اليوم تلجأ فيها السلطة العامة إلى تخوين الأفراد المختلفين معها في الرأي كما هو الحال في منطقتنا, وبالمثل ليس هناك منطقة يتنكر فيها الرأي العام علنا وصراحة للحكومات ويتهمها بالضلوع في المؤامرات مع الدول الأجنبية كما هو الحال في هذه المنطقة.
لا عجب إذن إذا وجدنا مناظرتنا الفكرية السياسية تراوح منذ عقود حول التخوين والتكفير. السلطة تخون الإسلاميين الذين أصبحوا قوة المعارضة الرئيسية في ظروف انعدام إمكانية نشوء معارضات ديمقراطية وتتهمهم في وطنيتهم وتربطهم بخدمة المصالح والقوى الأجنبية بينما يكفر الإسلاميون السلطة ويتهمونها بالمروق والخروج على الدين وترك الشريعة والخضوع للإرادة الأجنبية في سبيل البقاء في الحكم واستغلال النفوذ. فمناظرتنا السياسية الفكرية تحولت إلى تخوين متبادل ولا شيء غير ذلك على الإطلاق. فلم يعد هناك مجال لا لمناقشة السياسات العملية ولا لبلورة التصورات الاستراتيجية الوطنية بعقلانية ولا للمشاركة في المناقشة العالمية حول مصير البشرية بروح التواصل والمشاركة الإنسانية. وإذا كانت أطراف من المعارضة الإسلامية قد كفرت دينيا وتكفر فئات من السلطة ومن المعارضة غير الدينية أيضا, فإن كثيرا من نظم السلطة المطلقة تكفر سياسيا وعقائديا المجتمع كله عندما تعتبر أن المؤمنين الوحيدين بالوطنية والقومية والموثوقين من خدمة المصالح العليا للدولة والأمة والمجتمع هم المنتمون إلى حزب السلطة الحاكم وعقيدتها فقط, أما ما تبقى من الشعب فهو متهم ومحروم عمليا من حقوقه المدنية والسياسية ما لم يثبت العكس ويعلن جهارا نهارا عن ولائه وخضوعه وتسليمه الأمر للقيادة الملهمة والتاريخية.
إن السلطة العمومية لا تستطيع أن تتبع سنة خاطئة وتعممها إلى ما لا نهاية من دون أن تخلق المناخ المناسب كي تتبع أطراف أخرى في المجتمع سننا مشابهة أو قريبة منها ولو كان ذلك لأهداف أخرى. ذلك أن الدور الأساسي للدولة بالتعريف هو تحديد القواعد والمعايير التي تسير المجتمع في جميع مستوياته وجميع أعضائه. فإذا كانت هذه القواعد ظالمة أصبح الظلم هو القاعدة والعدل هو الاستثناء وإذا كانت عادلة سرت عدوى العدل في النظام المجتمعي كله. ولا يستطيع أحد أن ينكر أن نظما كثيرة قد أعطت لنفسها الحق في العقود الماضية, تحت تأثير أيديولوجيات وتنظيمات مستوردة بالمعنى الحرفي للكلمة, سواء من المعسكر السوفييتي أو من التقاليد الفاشية وأجهزتها ومؤسساتها, في إلغاء حرية التعبير والتفكير بوضعها اليد على كل الصحافة ووسائل الإعلام وتجييرها كليا لخدمة عقيدة واحدة وفرض هذه العقيدة على الأفراد بل على الأطفال الصغار الذين تحرم جميع المواثيق الدولية تجييشهم العقائدي قبل أن يكتمل نموهم العقلي وتتكون ملكاتهم التمييزية والنقدية. كما أعطت لنفسها الحق في فرض نمط الحكم والنظام السياسي من دون أن تترك للمجتمع أي فرصة للمراجعة أو المساءلة أو المعارضة واعتبرت أن قرارات الحكومة أو الحزب صائبة بالضرورة ولا يمكن مناقشتها ولا نقدها ولا مراجعتها.
فهي بالتالي كلام ملهم مقدس لا يدخله الباطل. لا بل إن كثيرا من السلطات العربية تعتبر سياساتها الاقتصادية نفسها خارجة عن إمكان واحتمال النقد. وحتى عندما غيرت بعض النظم العربية الاشتراكية سياساتها تماما وقررت أن تنمي اقتصاد السوق وأن تفتح أبواب البلاد على الشركات العالمية الرأسمالية وتعتمد على صناديق التمويل الدولية وعلى جذب الاستثمارات الأجنبية التي كان مجرد الحديث فيها يعتبر عمالة للإمبريالية والصهيونية, لم تجد أن من المفيد إن لم نقل من الضروري فتح نقاش وطني, بل تقني بين المختصين المختلفين, حول الموضوع, ولا تقديم أي شرح أو تفسير للرأي العام, ولو من باب سقط العتب والاعتذار لأنصارها المشبعين بالاشتراكية والعداء للرأسمالية عن تغيير النهج والاعتقاد.
والدرس الوحيد الذي ينبغي أن نستخلصه الآن من هذا التقهقر الخطير في مستوى مداولاتنا العامة في القضايا الوطنية هو أنه لا مخرج لنا ولا لأحد منا من دون تنمية روح الاحترام المتبادل بيننا, وأن أساس أي احترام هو الاعتراف بالآخر وأن هذا الاعتراف لا قيمة له ما لم يعن التسليم بحقوق متساوية. هذا هو أساس نشوء آلية الاحتكام للعقل في كل الظروف والمجتمعات. ومن دونه لا يمكن أن يوجد مجال آخر للتعامل بين الناس إلا القوة السافرة أو المقنعة. وهو ما يدين مجتمعاتنا بالتغريز في الحروب الداخلية والتأخر والانكفاء والتراجع أمام جميع الأعداء القائمين والمحتملين.