غطرسة القوة هي المسؤول الأول عن تهافت استراتيجية الحرب الامريكية

2003-04-08:: الوطن

 

بصرف النظر عما سوف تسفر عنه الحرب في النهاية، لم يعد هناك شك عند أحد بعد عشرة أيام من الحرب الأمريكية على العراق،  بما في ذلك في الولايات المتحدة الامريكية نفسها وعند جنرالات البنتاغون بالذات، أن المرحلة الاولى من الحرب قد انتهت  ب"فياسكو" سياسي وعسكري أمريكي. وليس هناك شك أيضا بأن سبب هذا الفياسكو الذي لا يمكن ان تطمس معالمه الهجومات الانتقامية المتزايدة بالصواريخ وأمهات القنابل على المدن العراقية هو خطأ القيادة العسكرية والسياسية الامريكية في جميع الحسابات التي أملت عليها استراتيجيتها  الحالية بل شجعتها على التفكير في شن الحرب العدوانية.  ولا نبالغ إذا قلنا إن كل ما حصل جاء معاكسا تماما لتوقعات القيادة الامريكية ونفيا منظما لجميع الفرضيات الاستراتيجية التي انطلقت منها واعتمدت عليها في اتخاذ قرارها.

 فقد أخفقت القيادة الامريكية أولا  في توقعاتها بشأن قدرتها على ايجاد التفطية السياسية بل إضفاء الشرعية القانونية الاممية على ما ينبغي تسميته من دون تردد بعملية السطو المسلح على آبار النفط العراقية  التي كانت تعتقد أنها ستمر من دون صعوبة تذكر ولا اعتراض على العالم كله.  ولم يكن هناك ما يمكن أن يزعزع ثقة هذه القيادةا التامة بأن الدول الغربية الحليفة وأهمها الاتحاد الاوروبي سوف تصطف في النهاية وراء الاستراتيجية الامريكية كما فعلت في حرب الخليج الثانية، أو سوف تبقى، في أسوأ الاحوال، على الحياد. ولم يخطر ببال أي قيادي أمريكي أن حلفاء واشنطن التقليديين يمكن أن يقفوا حجر عثرة أمام تنفيذ ما اعتبره البيت الأبيض مخططا لخدمة المصالح الغربية ومصالح جميع الدول الصناعية. وحصل أن ألمانيا التي كانت لصيقة تماما بالولايات المتحدة قد وقفت بحزم ضد الحرب وشجعت فرنسا كما شجعت الاتحاد الروسي على الذهاب بعيدا في العداء لخطط الحرب إلى درجة التلويح باستخدام حق النقض في مجلس الامن ضد أي قرار يمكن أن يضفي الشرعية على الحرب في الظروف الراهنة. وهكذا اضطرت الإدراة الامريكية إلى أن تسحب قرارها قبل التصويت وأن تخوض الحرب مع حليفتها الوحيدة بريطانيا  وفي مواجهة معارضة عالمية لم تلبث حتى تحولت إلى ما يشبه الإجماع الدولي الشعبي والرسمي ضد إرادة القتال المعلنة من دون ضرورة ولا مسوغات عقلانية.

وأخفقت الإدارة الأمريكية ثانيا في تقدير موقف الحكومة التركية وقدرة الرشوة والضغوط السياسية في إقناع جميع الأطراف بالاصطفاف وراء الولايات المتحدة. وكان من نتيجة ذلك تعثر فتح ما تسميه القيادة الامريكية بالجبهة الشمالية لوضع بغداد بين فكي كماشة من الشمال والجنوب. وبالعكس زادت احتمالات سيطرة الحركات الكردية على المنطقة ومن ورائها احتمالات تورط تركيا في التدخل في شمال العراق لقطع الطريق على قيام دولة كردية.

وأخفقت الإدارة الأمريكية ثالثا في تقديراتها بشأن أثر الصدمة التي يمكن أن يحدثها التفوق التقني العسكري الساحق. فقد بنت خطتها العسكرية وتحمست لها ضد جميع حلفائها بل ضد مجلس الأمن والأمم المتحدة والرأي العام العالمي بأجمعه لأنها اعتقدت أن لديها من التفوق التقني العسكري النوعي ما يكفي حتى يدفع مجرد استعراضه في ما أطلق عليه استراتيجيوا الحرب الاستباقية الامريكية ضربة الصدمة والإذهال إلى استسلام النظام العراقي وتسليمه لاقتناعه بأنه لا جدوى من أي مراوغة أو استمرار في القتال. ولم يكن في الإدارة الأمريكية مسؤول واحد يشك بأن نظام صدام حسين المعزول والمفقر والفاقد للصدقية بعد حربين كبيرتين مخفقتين جلبا الدمار على العراق والعراقيين سوف يجرؤ على المقاومة بل على مجرد التفكير فيها. وكانوا على عجلة من أمرهم لتسليم مفاتيح البلاد التي قرروا أن يحكموها بأنفسهم "ضمانا لأمن شعبها واستقراره" لدرجة أنهم أعلنوا إسم القائد العسكري الأمريكي الذي عينته الإدارة الامريكية مسبقا حاكما على العراق قبل فتحها وأعطوا للصحافة الدولية نبذة عن حياته ومعارفه العربية. بل إن الثقة بإمكانية خوض حرب قصيرة إلى أبعد الحدود بسبب كثرة الصواريخ والقنابل الذكية والجراحية من جهة وتهافت النظام العراقي السياسي والعسكري قد دفعت بالإدارة الامريكية إلى تبني استراتيجية عسكرية جديدة هي في الواقع أشبه باستراتيجية الإنقلاب العسكري لا الحرب. وفي هذا السياق وجه الامريكيون ضربتهم الأولى التي أرادوا لها أن تكون الحاسمة والقاصمة على مقر القيادة العراقية وأعلنوا عن اعتقادهم بمقتل العديد من أعضاء هذه القيادة بما فيهم صدام حسين نفسه وولديه.

لكن تماسك النظام العراقي بعد هذه الضربة "الجراحية" جعل من الصعب تجاوز ما سوف يسمى  عملية الصدمة والإذهال التي استخدم فيها الامريكيون المئات من صواريخ  كروز وتوماهوك في غارة واحدة متواصلة على بغداد. وكان من الواضح أن رمسفيلد قد راهن بالدرجة الأولى على هذه الضربة من أجل زعزعة إرادة القتال عند صدام حسين ودفعه إلى التسليم انطلاقا من البرهان الساطع على الخلل الهائل في ميزان القوة. وهذا ما دفع الأمريكيين إلى مواكبة هذه الضربة بالإعلان على لسان حلفائهم عن خطط لتوفير ملجأ آمن لصدام حسين وأبنائه داخل العراق أو خارجه إذا قبل بالتنازل عن الحكم وتسليم الأمر للقيادة الأمركية. لكن ما ظهر من عدم تزعزع النظام العراقي وصموده بعد الضربة قد خيب آمال القادة الأمريكيين وأثار حنقهم وغضبهم. فقرروا أن يركزوا كل خطتهم على الزحف على بغداد وفي سبيل إعداد المناخ السياسي لهذا الزحف وتهديم معنويات النظام العراقي ومعنويات قواته أضافوا إلى ورقة التفوق العسكري التقاني ما اعتقدوا انه يشكل ورقة تفوق ثانية، وهي ما أوحوا به للرأي العام ولأنفسهم أيضا من تعلق العراقيين أو أغلبيتهم بمشروع "التحرير" الامريكي للعراق من نظام الديكتاتورية الجائر. وهكذا تم الإعلان في جميع وسائل الإعلام الدولية عن استعداد القوات الحليفة لدخول البصرة بهدف استخدام منظر الترحيب من قبل السكان بالقوات الأمريكية كوسيلة للضغط على النظام وإفقاده صدقيته ومبرر وجوده.

ومرة ثالثة سوف تمنى توقعات الإدارة الأمريكية بالفشل وتدفعها إلى الإحباط. فبدل ترحيب سكان البصرة بالقوات الغازية ورشقها بالزهور والأرز احتفاءا بها سوف تتلقى القوات الأمريكية والبريطانية صفعات متتالية من قبل قوات مقاومة عراقية أبدت من سهولة الحركة وسرعتها وقوة التصميم والجرأة ما فاجأ جميع المراقبين والمحللين السياسيين وفرض على القيادة الامريكية تغيير استراتيجياتها بل الحديث عن توقف العملية لبعض الوقت. وكانت إخفاقات القوات الحزينة في بسط سيطرتها على القرى والمدن الصغيرة التي عبرتها مثل بلدة أم  قصر الصغيرة قد قضت تماما على آخر حلم لها بالتحول إلى قوات تحرير وتحويل السكان العراقيين إلى حلفاء ضد النظام. وتم  تغيير مخطط "دخول" البصرة لما يمكن أن يكلفه ذلك من "ضحايا كثيرة للسكان المدنيين" وأعلنت القيادة أن هدف القوات الحليفة هو دخول بغداد التي تتقدم في اتجاهها بسرعة. لكن بغداد القريبة والتي لا تبعد سوى عشرات الكيلومترات سوف تبدو بعيدة اكثر فاكثر كلما تقدمت القوات منها مبتعدة عن قواعدها الرئيسية في الكويت.

 وشيئا فشيئا انهار مفهوم الحرب الصاعقة المعتمدة على القنابل والصواريخ الذكية القادرة على اقتلاع النظام من دون التأثير حتى على شروط حياة السكان، واضطرت القيادة الحليفة إلى العودة إلى مفهوم الحرب التدميرية القائمة على القصف المستمر على الأهداف العسكرية والمدنية في سبيل تطويع وتركيع النظام والشعب العراقيين معا.  وفي أقل من عشرة أيام تحولت حرب تحرير العراقيين من الديكتاتورية وقيادتهم نحو التقدم والديمقراطية إلى حرب دمار شامل والابتزاز بالدمار الشامل.

لقد تبدلت الأمور بسرعة كبيرة. وما بدا نزهة ربيعية لاجتثاث الشر تحول هو نفسه إلى شر مطلق. فإلى جانب الضحايا المدنيين والعسكريين الكثر تحذر جميع الهيئات الدولية الإنسانية اليوم من خطر كارثة إنسانية لا مثيل لها في البصرة والعراق عموما نتيجة انعدام الماء والغذاء في الوقت الذي يؤكد فيه الخبراء العسكريون أن الحرب التي بدأت لتنتهي في أيام معدودة سوف تستمر على الأقل ستة أشهر أخرى.

كيف يمكن تفسير هذا الفشل المذهل للقيادة الأمريكية السياسية والعسكرية الراهنة في جميع التقديرات المتعلقة بحرب لا تزال تعلن نيتها في شنها على العراق منذ سنوات عديدة، وبشكل يومي ودائم منذ تولي جورج بوش الابن للسلطة في واشنطن؟

في اعتقادي إن الإحباط الذي منيت به الاستراتيجية الامريكية الأصلية يرجع إلى عامل رئيسي واحد هو المقاومة العراقية سواء أجاءت من طرف النظام أم من طرف المواطنين العراقيين. فكل الخطة الأمريكية كانت قائمة على الاعتقاد بأن الجمهور العراقي سوف يلتف حول قوات الحلفاء وأن النظام لن يتحمل الصدمة الأولى للحرب التكنولوجية الجديدة.  لكن قصور الاستراتيجيين الأمريكيين في توقع حصول مقاومة عراقية ليس هو نفسه سوى ثمرة الاستهتار بالأطراف الأخرى نتيجة غطرسة القوة سواء أعبرت هذه الغطرسة عن نفسها من خلال الايمان الأعمى بقدرة التقنية العسكرية الجديدة على أن تحسم جميع المشاكل التي تواجهها أو يمكن أن تواجهها القوات الغازية أو من خلال قدرة الولايات المتحدة على خداع الشعب العراقي وتمرير الاحتلال والسيطرة على النفط كما لو كان مشروعا لتحرير العراق من الديكتاتورية وإعطاء الشعب العراقي الديمقراطي على طبق من فضة.  

فهذه الثقة المبالغ فيها بالقوة وأثرها على معنويات الآخرين هي التي  دفعت القادة الامريكيين إلى الاعتقاد بأن النظام العراقي سوف ينهار لمجرد حشد الجيوش على الحدود العراقية ثم بعد ذلك بتوجيه ضربات مركزة على مقار القيادة والحرس الجمهوري والقوات المسلحة. وهي ذاتها التي أوحت للقادة الامريكيين أن من غير الممكن أن يقاوم الأوروبيون الذين استفادوا من مشروع مارشال ومن الحماية الامريكية ضد الاتحاد السوفييتي السابق إرادة القوة والعزيمة الامريكية. وكما كانوا يعتقدون بأن الجيش العراقي قد فقد قدرته على القتال وإبداع تكتيكات جديدة في مواجهة الغزو الجديد كان لديهم اعتقاد لا يتزعزع بأن الأوربيين سوف يرضخون في النهاية للأمر الواقع حتى لو كانوا متأكدين من أن الحرب استراتيجية أمريكية لتحقيق أهداف أمريكية. لقد تصرف الامريكيون تجاه حلفائهم الأوربيين تماما كما يتصرف أسد الغابة في مواجهة منافسيه من الحيوانات المفترسة الأخرى. إنه ينتظر منهم أن يسمحوا له بالحصول على حصته، حصة الأسد، وأن يقبلوا بما يتركه لهم من فتات في الشرق الاوسط. 

وغطرسة القوة وما تنطوي عليه من ثقة متزايدة بالنفس وقدرة على إقناع الذات هي التي صورت للقادة الأمريكيين أن العراقيين سوف يلتحقون بمشروع الاحتلال الأمريكي للعراق لمجرد عدائهم للنظام العراقي القائم أي أنهم سيختارون الاستعمار على الاستبداد. 

وهذه الثقة ذاتها، إن لم نقل الايمان الأعمى بحل الصعوبات بمزيد من استخدام القوة، هي التي ستدفع بالقادة الأمريكيين إلى الانزلاق نحو حرب يصبح فيها الشعب العراقي برمته في معسكر العدو وبالتالي إلى حرب تدمير شامل للعراق شعبا واقتصادا وبنية تحتية. فليس أمام العسكرين الامريكيين الذين يطالبون بتقديم نتائج وانتصارات من قبل قادتهم السياسيين في مواجهة المقاومة المتصاعدة لشعب كامل يرفض الخضوع طريقا آخر سوى المزيد من استخدام القوة للحفاظ على الصدقية. وشيئا فشيئا سوف تسير الولايات المتحدة على طريق آرييل شارون في فلسطين. فشارون أيضا يريد دولة فلسطينية وانقاذ الفلسطينيين من الارهاب أو تخليصه من منظماته الإرهابية بما فيها السلطة الفلسطينية، وهو لا يرى وسيلة أنجع لتحقيق هذا الهدف سوى تدمير الأسس التي يقوم عليها المجتمع الفلسطيني حتى يمكن إلحاقه بالإرادة وإخضاعه لحاجات الاستراتيجية الإسرائيلية. وشريط الاحداث المتعاقبة في العراق بما تشمله من أفعال أمريكية وردود أفعال عراقية يبين بوضوح أننا نسير على طريق تعميم نموذج الحرب الذي طوره آرييل شارون في فلسطين، باستثناء إقامة المستعمرات. ومنذ الآن تبنت القيادة الأمريكية خطاب شارون او نموذجه في تبرير حربها على العراق التي أصبحت تعتبرها الآن حربا ضد الإرهاب الذي لا يصدر عن النظام ولكن عن المجتمع نفسه أيضا.

الرهان الأعمى على القوة حكم على القادة الأمريكيين بالانفصام عن الواقع وتحويل رغباتهم إلى وقائع وأدان استراتيجيتهم بالفشل. لكن من المؤكد أيضا أن الرهان الأعمى على القوة هو المخرج الوحيد لقضية من الصعب الدفاع عنها بمنطق الحق والقانون. فبؤس الاستراتيجية نابع هو نفسه من بؤس القضية والمشروع: السيطرة السافرة على موارد شعب آخر في سبيل ضمان المصالح الخاصة وتأمين التفوق والأسبقية في الصراع على القيادة العالمية.