عودة المثقفين

2003-05-19:: BG.BLOG

تدفع الأزمة المفتوحة التي أدخلت فيها السياسات الأمريكية الجديدة المحافظة أنظمة الحكم في الشرق الأوسط إلى ارتفاع أسهم المثقفين من مفكرين ومحللين سياسين وصحفيين في سوق العمل العمومي. واحتل هؤلاء بعكس ما كان يجري في السابق الصفحات الأولى من الجرائد المقروءة كما غزا بالمعنى الحرفي للكلمة نشرات الأخبار وبرامج الفضائيات العربية وأبعدوا النخب العسكرية والبيرقراطية العقائدية القديمة إلى مؤخرة المسرح. لكن هذا النجاح المتزايد الذي يعرفه المثقفون، بعد فترة تهميش كادت تكون لا نهائية، يعيد من جديد طرح التساؤلات الكثيرة والتقليدية حول وظيفتهم الاجتماعية وحدود تأثيرهم بالإضافة إلى الأسئلة الجديدة التي يطرحها الوضع العربي الخاص وفي هذه المرحلة الاستثنائية أيضا.
ومن هذه الأسئلة التي يطرحها الرأي العام العربي على نفسه وربما على المثقفين أيضا : أي دور يمكن للمثقفين العرب أن يلعبوا في معركة التغيير المفتوحة وهم الذين حيدوا طويلا وعزلوا عن الساحة السياسية بل غيبوا إلى درجة الموت والنسيان ولا يزال محرم عليهم التواصل مع جمهورهم العريض وايصال وجهة نظرهم إليه ؟
والواقع أن تداعيات الموقف العربي والدولي وتهاوي الوضع الإقليمي عموما قد غير وسوف يغير بشكل متسارع من فرص العمل والمبادرة لدى المثقفين ولدى غيرهم من قطاعات النخبة العربية الناشطة هنا وهناك. وليس هناك شك في أن التفكك الذي يعرفه النظام العربي الراهن وما يبدو من إفلاس في قيادته الفكرية والسياسية قد خلقا منذ الآن شروطا ملائمة لإعادة الاتصال بين المثقف وجمهوره. فعلى عكس السنوات الماضية التي كان الرأي العام ميالا فيها الى الابتعاد عن كل ما هو سياسي وكل ما هو جديد، لما كان ينطوي عليه ذلك من تهديدات لأمنه وسلامته، يميل الجمهور العربي اليوم، بسبب انعدام امنه وسلامته هذا بالضبط وخوفه من المستقبل وما يتضمنه من اخطار لا حدود لها، الى البحث عن كل الاقتراحات والتصورات والرؤى والافكار الجديدة التي تساعده على تهدئة قلقه أو الإطمئنان على مصيره.
ومن ناحية ثانية رفع انهيار أو انحلال انظمة الحزب الواحد الرسمي أو المقنع في العديد من الاقطار العربية كابوس الارهاب الفكري الذي كان سائدا في السنوات الماضية والذي كان يمنع المثقفين على اختلاف اتجاهاتهم من الافصاح عن آرائهم باستثناء افراد قلة يتمتعون الى حد ما بحصانات استثنائية بسبب مواقعهم الخارجية او الداخلية. فلم يبق هناك شك في ان المثقفين اصبحوا يشعرون بحرية اكبر في الحركة وبحق اكبر في الكلام، في الوقت نفسه الذي حصل فيه، بالمفردات الاقتصادية، تطور كبير في الطلب على النقد والتأمل السياسي والفكري.
ومن ناحية ثالثة اعتقد ان ما حصل من تطور كبير في وسائل الاعلام والاتصال العربية في السنوات الماضية كسر احتكار السلطات المحلية لوسائل الاعلام. وهذا ما يسمح اليوم للافكار الجديدة في العالم العربي بأن تنتقل عبر الحدود رغما عن ارادة اجهزة الامن التي نجحت في العقود الاخيرة في عزل الرأي العام على نحو شبه كامل في كل قطر عربي عن التطورات الفكرية والسياسية الاقليمية والعالمية. هذه التحولات التي عرفناها في السنوات القليلة الماضية بسبب تدهور الاوضاع بشكل رئيسي خلقت شروطا أفضل لنمو حركة المحاسبة الوطنية في العالم العربي وهي التي يصعب تصورها من دون التلاقي لهذه العوامل الثلاثة أعني المثقفين والرأي العام ووسائل الاتصال والاعلام.
لا يهدف التركيز على المثقفين هنا تمييزهم عن عناصر النخبة الأخرى أو التقليل من دور هذه العناصر في المرحلة القادمة. فلا يسد المثقف مسد رجل السياسة ولا رجل الإدارة والتسيير ولا رجل الاعمال في بناء الحركة التغييرية المطلوبة. ولا يعوض بناء الرؤية النظرية مهما كانت درجة اتساقها وجدتها عن بناء حقل السياسة الذي يشكل مهمة السياسيين بالدرجة الأولى. فالذي يميز موقف رجل السياسة عن موقف رجل الثقافة الذي يتعامل أساسا مع الوعي العام هو أنه يتعامل من منطلق ميزان القوة وفي سبيل تكوين القوة المنظمة التي تستطيع وحدها القيام بفعل وتحقيق برنامج سياسي.
بيد أن الذي يعطي للمثقفين دور الريادة اليوم في عملية التغيير الديمقراطي وبالتالي يلقي عليهم مسؤولية أساسية واستثنائية في دفع عجلة التغيير والإصلاح هو الحاجة الماسة لدى الجمهور إلى مهماز يغذي الوعي وينهضه ويحييه. وهذه هي وظيفة الثقافة الرئيسية. ومن دون هذه النهضة الفكرية والفكرية السياسية التي تقوم على تجديد الأسئلة أكثر مما تقوم على وضع الإجابات الجاهزة والناجزة لن يكون من الممكن تصور تغيير في معنى السياسة ولا في أساليب ممارستها، وهو هدف التغيير وما نصبو إلى تحقيقه في المستقبل. ثم إن المثقفين ليسوا فقط مثقفين بل هم مواطنون كذلك. وفي هذا المعنى ليس هناك ما يمنعهم، وهذا ما هو حاصل اليوم بالتأكيد، من ان يكونوا عناصر فعالة في اعادة احياء العمل السياسي نفسه من خلال مساهمتهم في بناء القوة الاجتماعية والسياسية التي لا بديل عنها لاحداث اي تغيير. ونعرف من تاريخ السياسة الحديثة في العالم العربي ان المثقفين لعبوا دورا كبيرا منذ عصر النهضة وخلال حقبة الكفاح ضد الاستعمار في تكوين الاحزاب السياسية في مختلف اتجاهاتها الليبرالية والاشتراكية والقومية، وخلال معركة التحرر والاستقلال.
لكن مهما كان الحال، اعتقد اننا نعيش بداية حقبة جديدة يتوقف مصيرها على التعاون الجدي بين المثقفين واصحاب الرأي من جهة، وبين السياسيين ورجال الاعمال والاقتصاديين وسواهم من اعضاء النخبة الاجتماعية الواسعة من جهة ثانية. لذلك فانني بقدر ما اؤكد على اهمية عمل المثقفين وخصوصية دورهم في صوغ افكار التغيير او مفهوم التغيير اؤكد بالقدر نفسه على اهمية التعاون بين فئات النخبة الاجتماعية المختلفة. وبالعكس إن ما تسعى اليه السلطات الداعية إلى الحفاظ على الوضع القائم هو عمل كل ما تستطيع لمنع التواصل بين فئات النخبة الاجتماعية المتعددة وعزل الواحدة عن الاخرى وربما وضع كل منها في مواجهة الفئة الاخرى. وليس هناك بديل من هذا العمل المشترك بين أطراف النخبة الاجتماعية المتعددة لبناء القوة الاجتماعية المنظمة التي ستصنع التغيير واعادة بناء النظام العربي داخليا واقليميا على اسس جديدة مختلفة عما شاهدناه الى الآن فحسب وإنما أكثر من ذلك لاستعادة صدقيتها وثقة المجتمع بها بعد فترة طويلة من العزلة والانعزال.
وما نقوله في مسألة تعاون أطراف النخبة الاجتماعية المتعددة المهارات والصلاحيات ينبغي أن نقوله أيضا في مسألة تعاون النخب الاجتماعية ذات الأصول الجهوية والثقافية المختلفة أيضا. فليس هناك شك في أن رهان قوى السيطرة الاجنبية سوف يقوم بشكل رئيسي على تعبئة الحساسيات الطائفية والأقوامية كما يقوم على استخدام كل التناقضات والنقائص والتوترات الموجودة في مجتمعاتنا والعمل عليها لتفجير هذه المجتمعات وفسح المجال أمام القوى الخاريجية لتعزيز سطوتها وتوسيع قاعدة نفوذها.