عندما تطرح أوروبا سؤال العلمانية .. أوفي جدلية الدين والمجتمع

2000-04-02:: الاتحاد

 تحت الحاح بعض الأصدقاء غالبت تعبي وأخذت القطار البطيئ الى مدينة ستراسبورغ في شمال فرنسا لالقاء محاضرة في جامعتها حول موضوع يلخص مخاوف الأوروبيين الرئيسية في الوقت الحاضر في مواجهة تطورات العالم العربي ، وهو الاسلام والسياسة ويكاد يكون من البديهي اليوم عند الرأي العام هنا أن يرتبط الاسلام في هذا الميدان بالعنف والعداء للأجنبي والخلط الأصلي والأصيل بين ما هو روحي وما هو زمني ، أو بين الدولة والدين ومن الصعب أن تقنع أوروبيا ًعادياً أن مفهوم الدولة الاسلامية الذي هو الهدف المعلن للعديد إن لم نقل لجميع الحركات الاسلامية السياسية مفهوم جديد وحديث تماما . وأن العرب والمسلمون لم يشعروا في أي حقبة أن من واجباتهم الدينية أسلمة الدولة ، أو أن الدولة يمكن أن تكون اسلامية أو مسيحية بمعنى أن تكون لها هوية دينية ، ولكنهم نظروا لها كأداة وآلة يستخدمها المسلمون لحماية الدين من دون أن تكون هي نفسها ذات صفة دينية .

والدليل على ذلك أنه لم تخطر ببال أي أسرة عربية أو غير عربية نجحت حتى منتصف القرن العشرين ، في الاستيلاء على السلطة وتأسيس حكم جديد ، أن تسمي دولتها دولة اسلامية أو تعلن قيام المملكة الاسلامية مثلا ، ولكنها أطلقت عليها دائما أسماء تعلن و تكرس سيطرة الأسرة الحاكمة الجديدة . هكذا أطلق المؤرخون على الدولة الاسلامية الجنينية التي تكونت في ظل الخلفاء الراشدين الأربعة الخلافة من دون أي اضافة أخرى . والمقصود خلافة الرسول في وظيفته القيادية السياسية ، وأطلقوا اسم الدولة الأموية على حكم الأمويين واسم الدولة العباسية ، نسبة الى عباس عم الرسول صلى الله عليه وسلم على دولة العباسيين ، ونستطيع أن نعد ما لايحصى من الدول التي نشأت عبر تاريخ المسلمين وارتبط اسمها باسم الأسر التي استولت على السلطة مثل دولة البويهيين ودولة المماليك ودولة محمد علي وأخيراً في القرن الماضي دولة آل سعود أو الدولة السعودية بالرغم مما اتسمت به هذه الدولة من دعوة وهابية متشددة وما زالت تعلنه من التزام دقيق بتعاليم الاسلام وقرآنه . فشعار الدولة الاسلامية هو ثمرة نقل لمعنى الدولة كما طورته الفلسفات القومية الى الفكر الاسلامي. فهذه الفلسفات هي التي ربطت بين الدولة وبين هوية المجتمع وثقافته وقيمه ، لأنها جعلت من هذه الدولة تعبيرا عن الأمة . أما في الماضي فقد كانت الدولة منفصلة في الذهن عن الأمة ، ولاتمثل بالنسبة اليها سوى أداة مادية خارجية ، وبالتالي لاتتصف بصفات خلقية أو فكرية ولكنها تتكون أساسا من تقنيات ممارسة الحكم والاحتفاظ به ، ومن الممكن تعميم نموذجها كما حصل عبر التاريخ بصرف النظر عن طبيعة المجتمعات ودياناتها وثقافاتها .
وبالمثل ، لقد حاولت أن أبين في محاضرتي كيف أنه بالرغم من غياب أي فلسفة علمانية نجح المسلمون بالتجربة المحضة ، في التمييز الواضح ، منذ الأمويين ، بين مهام السلطة الدينية أو رجال الدين ومهام السلطة السياسية أو رجال الحكم . فمن الصعب القول أن حكم معاوية وأحفاده من الأمويين كان حكما ًدينيا ًأو معتمدا ًعلى الدين ، وهو الحكم الذي نشأ في الصراع ضد البيت الهاشمي وعلى أنقاضه . كما أن من الصعب القول أن حكم العباسيين بالرغم مما شابه من نزوع لدى بعض الخلفاء للتشبه بالأكاسرة والقياصرة والفراعنة ، أي للادعاء بأنهم ظل الله على الأرض وأن كلمتهم مقدسة وطاعتهم من الدين ، كان حكماً ثيوقراطيا ً. وكذلك الحال بالنسبة للمماليك والعثمانيين وغيرهم من الدول التي نشأت في المشرق . لكن ربما اختلف الأمر قليلاً ، وجزئيا ًفي المغرب العربي مع نشوء دول مثل دولة الموحدين ودولة المرابطين التي ولدت في رحم حركة دينية وطرق صوفية أو شبه صوفية . إنما هذا الشذوذ عن القاعدة له ما يفسره ، وهو المجابهة الشاملة والمستمرة التي حصلت بين المغرب العربي واسبانية الكاثوليكية المتدينة . وحاجات التعبئة السياسية التاريخية في وجه الكاثوليكية الصاعدة والتراجع المستمر في مواقع الدول الاسلامية الأندلسية .
هذا يعني أن من الضروري التفريق بين الدنيوية وبين العلمانية . فالدنيوية ، أي الاعتراف بوجود ميادين أو مجالات محددة خاضعة للفكر التجريبي والعقلي ، ولا يدخل الدين في تنظيمها وتحديد ما ينبغي العمل فيها ولكنه يترك الاختيار للمسلمين حسب تقديراتهم العقلية ، هي جزء لا يتجزأ من الاعتراف بالجدارة الإنسانية وبقدرة الانسان على التوجه في العالم بالاعتماد على ملكاته العقلية . أما العلمانية فهي عقيدة ونظرية سياستان مستمدتان من التجربة الأوروبية التي شهدت صراعا تاريخيا طويلا بين سلطتين سياديتين " سلطة الدولة وسلطة الكنيسة ، انتهى بالمجتمعات إلى إدراك القاعدة النظرية لحسن سير التنظيم الاجتماعي . أعني التمييز بين مجال الشؤون الدينية التي تخضع لمعيار الوحي أو النقل ، ومجال الشؤون الزمنية والاجتماعية التي تخضع لمعيار العقل والتجربة والخطأ ، فالعلمانية هي الوعي النظري الواضح الذي تطور في التجربة الأوروبية بما بقي يشكل في المجتمعات الشرقية ، ومنها الاسلامية ، قاعدة ممارسة عملية لاواعية أو غير منظر لها . فالصراع بين سلطتين سياديتين قاد الى التنظير لضرورة فض الاشتباك بين السياسة والدين ، وتأسيس القاعدة العلمانية .

ونتيجة ذلك في الواقع كانت اخضاع السلطة الدينية في المستوى الاجتماعي السياسي للسلطة الزمنية . وإجبار رجال الدين على الاكتفاء بسلطة شخصية أو خصوصية وجزئية لاتطمح ولا يمكن أن تطمح إلى أن تكون قيمة على السلطة العمومية ، ومسؤولة عن تنظيم الشؤون الاجتماعية . واذا كانت الفكرة العلمانية لم تظهر ولم تتطور في البلاد الاسلامية فذلك بالضبط لأن هذا الصراع بين السلطتين قد حسم بسرعة نتيجة للظروف المميزة للتجربة الدينية والسياسية الاسلامية . وذلك منذ انتهاء عصر الخلافة الراشدة ، وانتصار الأمويين وفرضهم قاعدة أسبقية السلطة الزمنية وموقعها السيادي المتحكم بكل ما يحصل في المجتمع . ومما ساعد على ذلك هو عجز رجال الدين المسلمين عن تأسيس سلطة روحية مركزية وشرعية ، أي قائمة على أسس دينية واضحة . والحال أن التفسير الذي غلب على الحياة الاسلامية هو ذلك الذي يقول بتحريم العقيدة الاسلامية للكهنوت وتأكيده لرفض الوسائط بين المؤمن وخالقه وتأكيده على المسؤولية الفردية لكل مسلم عن أعماله وصلته المباشرة مع ربه .
وهكذا لم يحصل في التاريخ الاسلامي ، قبل ثورة الخميني الاسلامية بالفعل ، أن تنازع رجال الدين الحكم مع السلاطين أو طالبوا به ، فقد كانوا في حجر المذاهب السنية والشيعية معا يعتقدون ، لأسباب متباينة ، أن الحكم السياسي من اختصاص رجال الحكم والسياسة أو هو من حق الامام الغائب وحده . وبالمثل ، لم يحصل لسلطان أو ملك عربي أو مسلم أن جنح الى الاعتداء على اختصاص العلماء والفقهاء وادعى قدرةً خاصةً أو حقاً متميزاً في تأويل الآيات وتفسير الأحاديث واصدار الفتاوى ، فقد اعترف السلاطين منذ الأمويين بهذا الحق لرجال الدين المسلمين . وعندما كانوا يريدون فتاوى متماشية مع مصالحهم السياسية ماكان عليهم الا أن يعينوا ، كما هو الحال في عصرنا هذا ، رجال دين في خدمتهم ، كما فعل العثمانيون عندما ابتدعوا وظيفة مفتي السلطة ووظيفة شيخ الاسلام . وربما كان الاستثناء في ذلك حالتين ‘ نزوع الخوارج الى الخلط التام بين رجل الدين ورجل السلطة وجعلهم الامام في الوقت نفسه إماماً روحياً وإماماً زمنياً معاً . ومحاولة المأمون فرض مذهب المعتزلة في خلق القرآن على بقية المسلمين والفقهاء .
وكان هدفي من هذا التحليل أن أبين أن الحركات الاسلامية السياسية المعاصرة ليست تعبيرا عن استمرار تقليد تاريخي اسلامي قديم ولاهي نتيجة عودة الأنماط القديمة والتقليدية أو الروح الاسلامية المكبوتة كما يشيع الكثير من الباحثين العرب والأجانب . وإنما هي تصور جديد ومستحدث يجد تفسيره في الظروف الخاصة التي تعيشها المجتمعات الاسلامية اليوم ، وهي ظروف التحرير من دون الحرية وتعميم أنماط الاستهلاك الجماهيرية من دون تطوير الانتاج الذي يليها ، وبناء دول قومية من دون أمة حقيقية ذات وعي وارادة موحدة ، محترمة ومصانة ، وإطلاق الفردية من دون تنمية القيم الانسانية وتدمير التقاليد والعصبيات المحلية من دون تأسيس فعال للأطر القانونية . باختصار ظروف التحديث من دون حداثة . النتيجة الرئيسية لذلك كله هو تعميق التناقضات وتكسير التوازنات الاجتماعية وتفاقم الإحباطات ومشاعر البؤس والحرمان الماديين والروحيين معاً فالعودة للدين في ثياب البحث عن دولة العدالة والحرية والمساواة والأمن هي ردة فعل ضد حداثة فقدت معناها ومشروعيتها بقدر ما تحولت الى حداثة لا إنسانية تضاعف من عبودية الفرد بدل أن تدعم تحرره وانعتاقه ، وتحطم التضامنات الاجتماعية بدل أن تقيم المؤسسات التكافلية ، وتكرس الاستبداد والتعسف والحكومات الشخصية بدل أن توسع دائرة سيطرة القانون واحترام المساواة والعدالة والمواطنية المتساوية .
قلت ليس هذا التطور إذن نتيجة قرار ديني أو عقدي ، ولكنه ثمرة صيرورة تاريخية بما تضمنته من نزاعات وانتصارات أطروحات البعض وهزيمة أطروحات البعض الآخر .
فالتاريخ ليس ترجمة فورية لعقائد دينية ، ولكنه ثمرة ديناميات وتفاعلات اجتماعية . وما حصل في العالم الاسلامي الكلاسيكي حصل في العديد من المجتمعات الشرقية والآسيوية التي كانت تميز بالسليقة والتجربة بين ميدان عمل العقل وبين ميدان عمل الوحي . وهكذا أمكن لنا أن نتمتع بأشعار الغزل وقصص ألف ليلة وليلة وتراث عظيم من الأدب لاعلاقة له سلبا أو ايجابا بالدين . وهكذا بقيت أيضا نظرية الحرب والسياسة والصناعة والحرفة والتجارة تنهل الى حد كبير من مصادر فلسفية وعقلية بعيدة عن مصادر الوحي ومن دون أن تصطدم بالضرورة به أو تشعر أن اختلافها عنه انتقاص من قدره أو تقليل من عمومية دائرة نفوذه . من بين الأسئلة والاعتراضات التي أثارتها المحاضرة استوقفني سؤال هو في الوقت ذاته اعتراض لأحد أسلتذة اللاهوت البروتستنتي قال فيه ، ربما كان صحيح ما تقوله تاريخيا ، لكن ماهو أثر نموذج البداية ، أقصد بداية الدين ، كمرجعية على سلوك المسلمين ؟ وبدايات الدين التي قصدها هي ارتباط الدعوة المحمدية للاسلام منذ الهجرة الى المدينة باستخدام الحرب أو ما يعرف في التاريخ الاسلامي بغزوات الرسول أو مغازيه . ألا تؤثر هذه الصورة على مخيلة المسلم ؟ أو بالأحرى ، هل العامل المؤثر بشكل أقوى على مخيلة المسلم هو نموذج الاسلام التاريخي الذي نشأ وتطور عبر القرون وميز بين الزمني والروحي أم هو نموذج العهد النبوي الذي ارتبط في ذهن المسلم بغزوات الرسول وباستخدام السيف الى جانب الكلمة لإقناع المشركين وتقريبهم من عتبة الايمان برب العالمين ؟ والمقصود كما هو واضح ، هو التساؤل إذا لم تكن هناك صلة مباشرة بين نموذج الايمان المسلح إذا صح القول في العهد الاسلامي الأول ونموذج الاسلام السياسي الحربي في حقبتنا الراهنة . ألايمثل أسلوب عمل أنصار الحركات الاسلامية السياسية الثائرة استعادة لنموذج اسلامي أول لايزال حياً في المخيلة الدينية الجمعية و قادرا على تحريكها ؟ إن الجواب بالايجاب على هذا التساؤل ينسف كل نظريتي التي تقول أن تفسير الناس وتأويلهم لاعتقاداتهم الدينية لاينبعان من الفهم المجرد لهذه الاعتقادات ،ولكنهما يستجيبان لظروف ومطالب اجتماعية تتغير وتتبدل حسب موقع الناس في التراتب الاجتماعي وحسب العصور والقيم الأخلاقية والسياسية والاجتماعية السائدة ، لكن في الوقت نفسه ، وهنا تظهر مشروعية اللاهوتي البروتستنتي ، إذا كانت الظروف الاجتماعية والتاريخية هي التي تحدد تفسير الناس لاعتقاداتهم وتشترط سلوكهم ، قأين يكمن إذا ًالتأثير المستقل للاعتقاد الديني ؟ وبمعنى آخر هل الناس هم الذين يستعملون الدين ويستخدمونه لخدمة أغراضهم أم أن الدين هو الذي يتحكم بهم ويعيد تأهيلهم وتكوينهم على ضوء القيم التي يحملها ؟
جوابي أن التأثير المستقل والخاص للدين ونمط القيم التي يحملها حقيقي وقائم ، بيد أن هذا التأثير المستقل ، أو إذا شئنا فرض وجود مستقل للدين أو للاعتقاد الديني مرتبطة هي نفسها أيضا ًبالظروف الاجتماعية والتاريخية ؟ إن الأثر المستقل للدين يزداد وتزداد معه بالتالي فرص تحويل وتغيير عقلية الناس وسلوكهم بقدر ما يحصل انتشاره في مجتمعات تعيش أزمة روحية وفكرية وسياسية ومدنية عميقة تزول فيها أي سيطرة ايديولوجية مستقرة وبالعكس . بقدر ما تستقر المجتمعات وتعود الى الزمانية العادية والطبيعية ، نتيجة تمكنها من دين ما وتمكن الدين منها ، أي بسبب ما يقدمه لها الاعتقاد الديني الواحد من أسس الاستقرارالنفسي ووحدة الفكر الذين يساعدانها على تجاوز الأزمة التاريخية العملية . يتبدل اتجاه الجدلية بين العقيدة والواقع الاجتماعي التاريخي ، فالعقيدة الدينية التي غيرت من سلوك الناس وتفكيرهم وثقافتهم لاتلبث حتى تصبح هي نفسها أداة في يدهم يستخدمونها ويتلاعبون بنصوصها وتأويلاتها حسب ما تقتضيه مصالحهم التاريخية الفردية والجماعية والاجتماعية معا .