ضرورة الخروج من التبسيطية الايديولوجية, رد ختامي على موضوع العلاقة بين الديمقراطية والليبرالية

2005-07-14:: الرأي

كنت أعتقد أن النقاش حول علاقة الليبرالية بالديمقراطية قد انتهى بعد الرد التوضيحي الذي نشرته بعنوان رد على الليبراليين العرب. ولكن الذي أعادني إلى الموضوع من جديد عدد كبير من الأسئلة تمنى على الأستاذ كمال عباس الإجابة عنها على سبيل التحديد الدقيق لنقاط الاختلاف ونقاط الالتقاء في إطار العمل في سياق مشروع التحويل الديمقراطي المشترك في سورية. ومن هذه الأسئلة ما يتعلق بموقفي من الاشتراكية والماركسية وتقييمي تجربة الاتحاد السوفياتي وبقية التجارب الاشتراكية وما مدى اشتراكيتها الفعلية، وفي ما إذا ما كان من الأفضل لهذه البلدان أن تعمق الرأسمالية على الطريقة الليبرالية بدل بنائها على الطريقة الماركسية التي أدت إلى ما نعرفه من إخفاق. ومنها ما يتعلق بالاختراق الذي شكلته الراسمالية على هذا الكوكب والمكان الذي يمكن أن تحتله الديمقراطية الاجتماعية في التاريخ. ومنها أيضا ما يتعلق بمشروع الشرق الأوسط الكبير ودور الولايات المتحدة الأمريكية. وأخيرا ما يتعلق بما ذكرته في مقالي السابق عن إمكانية بلورة سياسات اقتصادية وطنية ودولية بديلة في ظل العولمة الحالية.ومن الواضح أن هذه الأسئلة ليست هي المقصودة بالذات ولكنها استخدمت كمدخل من أجل تأكيد أطروحتين. الاولى أن الطريق الرأسمالي الليبرالي يخدم العمال والطبقات الشعبية وربما يقود إلى المساواة والعدالة التي تطلبها الاشتراكية أكثر من الاشتراكية الفاشلة نفسها والتي لم تكن في النهاية إلا رأسمالية بمظهر آخر. والثانية أنه، بعكس ما يمكن أن يفهم من مقالي السابق، لا يوجد خيار ثالث أمام السوريين بين الاستبداد والليبرالية. فليس هناك سوى نهجين لا ثالث لهما: نهج قديم لا يزال يفكر بمنطق الحرب الباردة والصراع ضد الأمبريالية يشترك فيه البعثيون والناصريون والاسلاميون، ونهج جديد يرى ان سوريا تعاني من الاستبداد وتحتاج الى دفعها بشكل سلمي وتدريجي نحو دولة تعاقدية وتداولية يعكس موقف الليبراليين. أما النهج الثالث أو أي نهج ثالث محتمل فهو في نظره وهم بالمعنى النظري ولا وجود له.
بداية أود أن أفصح عن حقيقة أنني لم أكتب مقالي حول الليبرالية والديمقراطية اعتراضا على الليبراليين العرب الذين كنت أعتقد دائما أنهم يستخدمون مصطلح الليبرالية بمعنى الديمقراطية التي هي حافزهم الرئيسي للعمل، كما هو واضح من وضعهم جميعا لها في مقابل الاستبداد وليس في مقابل السياسات الاقتصادية الاجتماعية، وإنما كتبته كرد فعل على انتقادات مثقفين يساريين عرب يعتقدون هم أيضا أنه لا يمكن تبني الفكرة الديمقراطية من دون تبني الفلسفة الليبرالية. أردت أن أبين لهؤلاء اليساريين من ماركسيين وقوميين يساريين وإسلاميين أيضا أن ما يعتقدون أنه مترادفات ليس كذلك تماما، من دون أن يعني ذلك أنه ليس هناك علاقة تاريخية أو منطقية بين الديمقراطية والليبرالية. وللمفارقة جاء رد اليساريين العرب ايجابيا جدا على المقال بعكس رد الليبراليين. فبقدر ما شعر اليساريون أن تمييز الديمقراطية عن الليبرالية يسمح لهم بالانفصال عن النظم الديكتاتورية التي لصقت بهم بالفعل وأودت بحركاتهم السياسية ويمكنهم من استعادة روح العمل من دون التضحية بالقيم الرئيسية التي تميز سياستهم أعني العدالة والمساواة، شعر الليبراليون أن فصل الديمقراطية عن الليبرالية يفرض عليهم القبول بالاشتراك مع الأطراف اليسارية والقومية والاسلامية الأخرى المنافسة في الساحة السياسية في رأسمال الحرية وقيمتها. وبالتالي يحرمهم من إمكانية الاستحواز لوحدهم على هذا الرصيد المعنوي ومن الشرعية الاستثنائية التي يمكن أن يقدمها لهم احتكار شعار الحرية في حقبة يسود فيها الإجماع على إدانة الاستبداد والديكتاتورية. هنا أيضا يمكن أن نلحظ روح الانتصارية التي تطبع الحركة الليبرالية العالمية منذ انهيار التجربة السوفييتية ونزعتها إلى أن تجب ما قبلها أو تتجاوزه وتفرض منطق الرأي والفكر الواحد من جديد.
ومهما كان الأمر، تستحق الأطروحتان اللتان تركز عليهما الليبرالية المنتصرة، خاصة العربية منها، أعني تلك التي تقول ببساطة : الليبرالية هي الحل، وتلك التي تقول إن ما هو مطروح على السوريين هو أمر واضح تماما ولا يحتاج إلى نقاش، أعني الاختيار البديهي بين الاستبداد والليبرالية أو الديمقراطية، أقول تستحق هاتان الأطروحتان النقاش من دون شك.
وبداية أقول إن المشكلة في التأكيدات التي تعبر عنها الأطروحتان المذكورتان ليس خطأها بالمطلق ولكن اختلاط مضمون المفاهيم المستخدمة من جهة وعموميتها التي تجعل منها تبسيطا كبيرا لا يفيد التأكيد عليه شيئا بالمطلق، أي خارج إطار الزمان والمكان. وقد اعتقدت دائما ولا أزال أننا لن نستطيع أن نجد طريقنا نحو الحرية ولا نحو التنمية الاقتصادية ولا نحو الوحدة الوطنية أو القومية بالتمسك بأدوات تفكير أو بمجموعة مفاهيم قديمة تنتمي للقرن التاسع عشر لم يعاد العمل عليها من جديد على ضوء التجربة البشرية لما يقارب القرنين شهدا تحولات علمية وتقانية وجيوسياسية واجتماعية واقتصادية هائلة. ويبدو لي أن من الصعب أيضا استيعاب المشاكل التي تواجهها مجتمعاتنا اعتمادا على الاشكاليات التقليدية ذاتها التي تعارض بين الاشتراكية والليبرالية كما لو كانتا أشياء بديهية تجريبية لا مفاهيم يقصد منها ترجمة مسارات ووقائع تاريخية واجتماعية معقدة ومتطورة أيضا. وفي اعتقادي أن هذه المفاهيم وتلك الاشكاليات قد أصبحت معيقة للفكر أكثر مما هي مساعدة له في حركته وتطوره.
وكنت منذ عام 1977 قد سعيت إلى شق طريق آخر عندما كتبت كتابي الأول "بيان من أجل الديمقراطية" من دون أن أغير قناعاتي اليسارية. فقد بدا لي بالفعل أن ما تدعو له الاشتراكية قبل أي شيء آخر ليس نمط تنظيم إقتصادي قائم على ملكية الدولة، حتى لو أثبت هذا النمط جدارته ودفع إلى معدلات تنمية عالية، وهو لم يثبت ذلك في النهاية، وإنما هو مجموعة من القيم الإنسانية لا يمكن أن تتحقق من دون الحرية، أعني قيم االعدالة والمساواة. وفكرت أن المساواة القانونية والأخلاقية مستحيلة بين الأفراد إذا كان بعضهم حر وبعضهم الآخر فاقدا للحرية، بعضهم يتمتع بحقوقه كاملة ويتحكم بالسلطة العمومية وبعضهم الآخر محروم حتى من حق التعبير أو التنظيم أو الاحتجاج أو الاعتراض. وهذا ما دفعني إلى القطع مع النظم الديكتاتورية مهما كانت برامجها والأهداف التي تسعى إليها والانخراط في مراجعة فكرية قادتني إلى تبني فكرة الديمقراطية كشرط لأي ممارسة اجتماعية أو فكرية. وهو الذي جعلني أكتشف أيضا قبل سقوط الاتحاد السوفييتي بعقود أن الاشتراكية القائمة على القهر السياسي والفكري ونظام الحزب الواحد ليست حلا لمشاكل المجتمعات العربية وأنه من دون بناء النظام السياسي على أسس ديمقراطية لن يمكن تحقيق أي هدف من الأهداف الانسانية التي نشأت من أجلها وفي ظلها النظريات الاشتراكية بما فيها النظرية الماركسية والشيوعية. وقد بينت في هذا الكتاب أن التهميش السياسي للأفراد والجماعات هو المدخل لاستعبادها وتحدثت فيه لأول مرة في ظاهرة الاستعمار الداخلي التي ستصبح إحدى المقاربات الرئيسية في النظرية الاجتماعية لما بعد الحرب الباردة.
وما قلته في السبعينيات وسمح لي بالتحرر من النظرية الفاسدة للاشتراكية الواحدية أقوله الآن بخصوص النظرية الليبرالية التي تجعل من الرأسمالية كلمة السر والمفتاح السحري لجميع الخزائن الحضارية من تنمية اقتصادية وحرية سياسية وضمانات دستورية وقانونية. وفي كتاب "الاختيار الديمقراطي في سورية" الذي نشرته عام 2003 ميزت منذ البداية بين نظام السوق الذي هو نظام سابق بكثير على نظام الرأسمالية ومتجاوز له والرأسمالية التي هي نمط إنتاج إقتصادي يقوم على آلية تراكم رأس المال المرتبطة هي نفسها بمنطق السعي وراء تعظيم الأرباح من قبل طبقة مشاريعية واستثمارية تعرف أن بقاء رأس المال من دون توظيف يقضي عليه كرأس مال ويحوله إلى ثروة مصيرها الكنز أو الاستهلاك والانفاق. فالرأسمالية علاقة اجتماعية وليست نظاما آليا أو منطقا يتجاوز الشروط الخصوصية التي تعيش فيها المجتمعات. ومنها أشكال وتشكيلات مختلفة ومتعددة بتعدد المجتمعات والسياقات الاجتماعية والاقتصادية. ولا شك أن التقاء السوق بآلية تراكم رأس المال قد غير في محتوى السوق وآلياته معا لكنه لم يلغ استقلاله وتنوع الأشكال التي يمكن أن يتخذها إقتصاد السوق.
وبالمثل ليس هناك أي تطابق منطقي أو عملي بين مفهوم الليبرالية والرأسمالية. فالليبرالية تعني مجموعة السياسات التي تراهن على تحرير رأس المال من القيود حتى يتمكن من التراكم السريع على أمل أن يقود ذلك إلى تعظيم الاستثمار والنمو الاقتصادي وبالتالي أن يقود إلى خلق فرص العمل المطلوبة، بينما تعني الرأسمالية تشكيلا اقتصاديا قائما على آلية تراكم رأس المال وديناميكيته في تحقيق التطور والنمو. وليس هناك أي علاقة طردية تلقائية بين الليبرالية والرأسمالية. فمن غير المؤكد ولا المضمون أن يؤدي التوسع في الحريات الاقتصادية، أي تحرير أرباب العمل من القيود القانونية على حساب الضمانات الاجتماعية والحريات السياسية، إلى نشوء رأسمالية حية ونشيطة، أي تراكما منتجا لرأس المال وتوسيعا مطردا لدائرة الاستثمار وبالتالي للنمو الاقتصادي وخلق فرص العمل الجديدة. وهذا ما بينته تجارب البلاد النامية والفقيرة وجعلتها تصبح دولا نامية وفقيرة بالفعل. فتبني العديد منها للسياسات الليبرالية لم يساعدها على الخروج من حالة الركود الاقتصادي وتطوير الاستثمار بقدر ما ساهم في خلق طبقة رأسمالية كبمرادورية تقوم على ضخ الأموال من الداخل الوطني لتحولها إلى رأسمال في السوق العالمية وتبقي البلدان التي نزحت عنها من دون موارد ولا آليات تنمية اقتصادية حقيقية. لقد أدت السياسات الليبرالية هنا إلى رأسماليات مشوهة وتابعة غير منتجة لنمو اقتصادي مستمر ولا خالقة لفرص عمل ولا مطورة لمهارات تقنية وإبداعات فنية وعلمية يعتد بها. وهذا هو سبب إعادة إنتاج الفقر والتخلف والبؤس الاجتماعي فيها. وبالفعل لم تكن نتائج السياسات الليبرالية في البلدان الصغيرة التي تعاني من تأخر استثنائي في عناصر تراكم رأس المال على جميع المستويات كما تعاني من تأخر كبير في تقاليدها القانونية والاجتماعية أكثر من نمو رأسمالية فجة قائمة على المضاربة وبعيدة كل البعد عن أن تستقل بنفسها عن تلاعبات السلطة السياسية. وليس النجاح الاقتصادي الذي عرفته بعض الدول الحديثة التصنيع مثل نمور آسيا راجع للسياسات الليبرالية فحسب ولكن إلى توفر شروط أخرى عديدة مثل أخلاقيات العمل ومستوى التأهيل العلمي وقبل هذا وذاك في نظري العلاقات الاستراتيجية الدولية. فمن الممكن لبلد أن يتبنى نظاما اقتصاديا ليبراليا من دون أن ينجم عن ذلك أي نمو جدي لرأسمالية نشيطة وتنافسية.
وكما أنه لا يوجد تطابق بين مفهوم الرأسمالية والليبرالية كذلك ليس هناك تناقض بين السوق والاشتراكية. فمن الممكن أن تعني الاشتراكية التقيد بتقاليد السوق واقتصاديه، وهنا بالتأكيد السوق الرأسمالية الحديثة، لكن مع الاهتمام بقيم العدالة الاجتماعية ومع السعي إلى تحقيق هذه العدالة كما فعلت الديمقراطيات الاشتراكية الأوروبية التي قادت مع الديمقراطية المسيحية مشروع إعادة إعمار أوربة في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية من خلال برامج إجتماعية وسياسات ضرائبية وخدمات عامة ومعونات اجتماعية ساهمت بشكل كبير في إعادة توزيع الثروة لصالح قيم العدالة والمساواة من دون أن تمس آليات عمل السوق ولا أن تقضي على اقتصاد الرأسمالية.
باختصار، كما أن الحديث عن الاشتراكية بشكل مجرد ومن دون رؤية الظروف والشروط التي تتحقق فيها، شروط احترام الفرد وحرياته الأساسية ووجود الضمانات القانونية والصيغ الدستورية التي تتيح للمجتمع ان يعيد النظر في سياساته وخياراته ويصححها عند اكتشاف الخطأ، لا يعني شيئا، كذلك فإن الحديث عن الرأسمالية لا يعني شيئا كبيرا أيضا من دون النظر إلى ظروف تحقيقها أو وجودها داخل مجتمع معين، من شروط سياسية واقتصادية واجتماعية واستراتيجية أو جيواستراتيجية. فالرأسمالية بهذا المعنى هي تشكيلة إقتصادية خاصة ونسبية تعكس في كل حالة درجة تطور ونضج القوى الانتاجية والاجتماعية وطبيعة السياسات الاقتصادية التي تصوغها وتطبقها حكومة أو سلطة تؤمن بأن توظيف الأموال أو تشجيعها على الاستثمار هي الوسيلة الرئيسية لتحقيق النمو في الناتج الوطني. وهذه السياسات لا يمكن أن تكون قياسية أو من نموذج واحد لأن ما يصلح في سياق تاريخي واجتماعي معين لا يصلح بالضرورة، كما هو، في سياق آخر. ولهذا ليست السياسات المرتبطة بتشجيع الاستثمار الخاص واحدة ولا متماثلة. فهي تختلف من فترة إلى أخرى وتتبدل بتبدل الأحوال والاوضاع، أي بتبدل الشروط التي تتحكم بتوظيف رأس المال وبالاستثمار. ولو كان الامر بالبساطة التي يتصورها الايديولوجيون لكان من المفروض أن تحقق جميع السياسات الاقتصادية الرأسمالية نتائج واحدة ايجابية. والحال إن كثيرا من السياسات الرأسمالية لا تحقق أهدافها وربما أدت إلى استفحال الأزمات الاقتصادية بما في ذلك أزمات الركود والتقهقر الاقتصادي. فجميع بلدان العالم تطبق اليوم سياسات اقتصادية ليبرالية، من الصين الشيوعية إلى الولايات المتحدة. لكن قسما منها يحقق نتائج كبيرة مثل الصين، بالرغم من افتقار سياساتها الاقتصادية إلى نظام الحرية السياسية، بينما لا ينجح القسم الثاني من البلدان الصناعية القديمة في أوروبة من تجاوز أزمة البطالة وضعف النمو بل أحيانا انعدامه. وداخل البلاد التي تطبق الرأسمالية ولم تطبق غيرها خلال تاريخها كله تتنافس وتتصارع نماذج مختلفة من السياسات الاقتصادية. فسياسة الإدارة الامريكية الراهنة هي سياسة ليبرالية لكن سياسة إدارة الرئيس السابق كلينتون لم تكن اشتراكية. والفرق بين السياستين أن كل منهما يركز على عوامل مختلفة لتشجيع حركة الاستثمار وإطلاق ديناميكية النمو.
من هنا، لم يعد يجدي كثيرا الاستمرار على معارضة الرأسمالية بالاشتراكية وإنما لا بد أيضا للمتحدثين في الليبرالية أن يميزوا في أنماط السياسات الرأسمالية نفسها. فلم يعد يكفي في الطور الذي وصلنا إليه لتعريفها بمعارضتها البسيطة والتي لا تعني شيئا كثير في ذاتها بالاشتراكية. وفي هذه الحالة من الممكن أن تكون السياسات الليبرالية، أي التي تراهن على تحرير رأس المال أكثر ما يمكن من المحددات والالتزامات الاجتماعية وتحويله إلى الفاعل الرئيسي في النمو الاقتصادي أو محوره، حلا لمسألة الركود الاقتصادي في هذا البلد أو ذاك، لكن من الممكن أيضا أن تكون ذات نتائج كارثية. فليس هناك شك في أن الاندماج في اقتصاد السوق العالمي والمشاركة فيه هو المدخل الرئيسي اليوم للتراكم الرأسمالي بسبب ما يقدمه من فرص الاستثمار ونقل الخبرة والتقنية وتامين أسواق واسعة لكن من المؤكد في الوقت نفسه أنه إذا لم يترافق هذا الاندماج في البلدان الضعيفة النمو وتراكم رأس المال بتأهيل حقيقي يمكن الاقتصاد الفقير والصغير من مواجهة رياح المنافسة الدولية العاتية فستكون النتائج إفلاسا كاملا للصناعات والشركات القائمة وتعميما للبطالة وتعميقا للتبعية والاعتماد على المعونات الخارجية التي ستصبح ضرورية لمواجهة مخاطر التمرد والثورات الاجتماعية.
ليس من المبالغة القول إن أخطر ما يواجه شعوبنا هو الوصفات الجاهزة، سواء اكانت رأسمالية أم اشتراكية، وعدم النظر إلى الواقع كما هو واستنباط الحلول منه. ويتطلب التغلب على نزعة الاستغراق في نماذج ثابتة معروفة والتهرب من السعي إلى معرفة القدرات المتوفرة والفرص الواقعية الموجودة انفتاحا ذهنيا كبيرا ورفضا لكل أنواع الدغمائية والوصفات المبسطة السهلة وقدرة على التركيب بين الخيارات المتوفرة بهدف الحصول على أفضل نتائج ممكنة، أي القدرة على إبداع حلول ووصفات وسياسات وخيارات ليست بالضرورة تقليدا لما هو قائم هنا وهناك ولكن استجابة لحاجات ومتطلبات التنمية المحلية. وفي هذه الحالة سيطرح موضوع المعيار الأساسي الذي يحدد هذه الحاجات الاجتماعية والمتطلبات التنموية : هل هو معيار التراكم الرأسمالي نفسه بأي ثمن ومهما كانت النتائج الاجتماعية والسياسية والوطنية ام هو الانسجام المجتمعي والتفاهم الداخلي الذي يتطلب حدا ادنى من احترام معايير التضامن والتكافل الاجتماعيين.
عندئذ لن يعود هناك معنى للاستمرار في المفاضلة بين اختيار نهج الليبرالية أو نهج الاستبداد ولا بين الرأسمالية والاشتراكية. فهذا الخيار لم يعد مطروح في الواقع. ذلك أن الاستبداد ليس خيارا يدافع عنه وليس هناك من يدافع عنه بل هو الماضي السائر نحو الزوال تماما كما أن الاشتراكية لم تعد موضوعا مطروحا لا في سورية ولا في غيرها بالمعنى الذي كانت مطروحة فيه، أي كنظام اقتصادي قائم على التخطيط وإلغاء آليات السوق. إن المطروح اليوم هو أي سياسات ينبغي تطبيقها في سورية القرن الواحد والعشرين في إطار تبني إقتصاد السوق - من دون حتى كلمة اجتماعي لأنها لا معنى لها ولا تعبر إلا عن خجل مطلقيها من العودة إلى منطق الاقتصاد العادي والطبيعي نفسه وهو منطق السوق - وعلى أساس الأخذ بالنظام الديمقراطي كنظام سياسي. باختصار إن السؤال المطروح لا يتعلق بالاختيار بين اقتصاد السوق والاقتصاد المخطط ولا بين الديمقراطية والاستبداد ولكنه يتعلق بمعرفة أي إقتصاد سوق وأي نظام ديمقراطية وحريات فردية؟ أي ما هي الصيغ والمعادلات والتوافقات التي نحتاج إليها أيضا حتى لا يتحول إقتصاد السوق الذي نريده إلى إقتصاد نهب منظم، هذه المرة باسم القطاع الخاص بعد أن كان يدور حتى الآن باسم القطاع العام والاشتراكية، وحتى لا يتحول نظام الحرية والحريات الفردية إلى نظام الأنانية المعممة بامتياز.
والقصد أن اشتغال الرأسمالية لا ينفصل هو أيضا عن طبيعة النظام السياسي القائم ولا عن العقلية والثقافة والأخلاقيات السائدة. كما أن النتيجة لن تكون هي ذاتها عندما تطبق السياسات الرأسمالية دون تمييز في بلاد صغيرة وفقيرة كالصومال أو في بلاد عظيمة وكثيفة الموارد البشرية والطبيعية كالصين. فمن الأسهل للصين تحقيق نتائج كبيرة نظرا لحجم السوق الذي تمثله والفرص المفتوحة. وبالمثل لن تكون النتائج واحدة عندما تكون البلاد الصغيرة مدعومة استراتيجيا من قبل دولة صناعية كبرى كما هي حالة نمور آسيا أو عندما تكون معزولة ومحاصرة كسورية. ولو كانت المسألة مسألة تطبيق الرأسمالية أو الاشتراكية والمفاضلة بينهما لكانت جميع الدول التي لم تطبق الاشتراكية في نصف القرن الماضي صارت بمستوى أوروبة وأمريكا وجميع الدول التي طبقت الاشتراكية صارت مثل الاتحاد السوفييتي أو روسيا الاتحادية التي تبقى دولة كبرى بالرغم من إخفاق تجربتها الشيوعية.
مسائل تنمية المجتمعات وتحريرها يحتاج إذن إلى أكثر من النقاش في المسائل الايديولوجية البحتة ويتطلب التقليل أيضا من قيمة النقاشات الايديولوجية نفسها عندما تكون منفصلة عن الحيثيات العينية ويستدعي كذلك قبل هذا وذاك التحرر من الدغمائية اليسارية واليمينية. فليس هناك شك في أن سورية بحاجة إلى إطلاق ديناميكية المبادرة الفردية التي حطمتها عقود طويلة من الإدارة البيرقراطية العقيمة والمعقمة. لكن لا ينبغي لهذا الخيار السليم والمطلوب بأسرع وقت أن يتحول إلى عقيدة دينية تجعل من أي مسعى تقوم به الدولة لدفع عجلة الاقتصاد وتطوير الاستثمار كفرا اقتصاديا أو سياسيا أو محرما أو خطا أحمر يمنع عبوره كما تعلمنا نظمنا الراهنة. إن الدولة تبقى في جميع البلدان التي لم تتطور فيها رأسمالية قوية ولم يحصل في داخلها تراكم كبير لرأس المال فاعلا رئيسيا إن لم تكن الفاعل الرئيسي في الحياة الاقتصادية. فعليها تقع مهمة العناية بالبنى التحتية والخدمات العمومية وتشجيع الاستثمار وربما المشاركة الفعالة فيه لما تملكه من موارد طبيعية وريوع استثنائية وتطوير علاقات التعاون والمشاركة التي تسمح بتطوير الاستثمارات الخارجية بالإضافة إلى دورها الذي لا غنى عنه في تأمين الأطر التعاقدية بين المنتجين وأصحاب الرساميل والاهتمام بنظم الرعاية والضمانات الاجتماعية للعاملين. ولا يتناقض هذا مع اقتصاد السوق ولا يلغي منطق الشفافية والمنافسة الذي يراهن عليه لدفع عجلة التنمية والتحسين الاقتصادي. بالتأكيد تملك سورية كما نعرفها اليوم وبما يميزها من تشكيلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وتقانية وثقافية فرصا أكبر للتقدم في ظل نظام اقتصادي يتحرر من عقدة الاقتصاد المخطط الذي تحول إلى حقل للنهب والسلب من دون رقيب ولا حسيب لصالح النخبة الحاكمة وربيبتها البيرقراطية العسكرية والمدنية. لكن نجاح اقتصاد السوق أو الانتقال إلى اقتصاد سوق ناجح يفتح بالفعل أفق الاستثمار والتنمية ولا يصبح مرتعا للصوصية من نوع جديد يتوقف أيضا على وجود طبقة من رجال الأعمال النشيطين والأكفاء الذين يقبلون بان يلعبوا اللعبة على أصولها، أي يقبلون باحترام قواعد الاستثمار الرأسمالي وأخلاقياته ولديهم القدرة والذكاء للتكيف السريع مع السوق العالمية وضمان حد أدنى من التفاهم فيما بينهم لمكافحة الفساد والمحسوبية وروح الإثراء السريع والفاحش القائم على منطق السرقة واضرب واهرب الذي ساد وترسخ في العقود الماضية داخل القطاع الخاص والعام معا. ومن دون ذلك يمكن أن يكون التحرير الاقتصادي مأساة حقيقية للأغلبية الاجتماعية وللاقتصاد الوطني بشكل عام.
إن ما هو مطروح على السوريين اليوم، كما هو مطروح على جميع شعوب العالم بعد انهيار التجربة الشيوعية وتعميم سياسات الليبرالية الاقتصادية، هو الاختيار بين نهج ليبرالي أو نيوليبرالي يؤكد مركزية تراكم رأس المال ويركز على تامين الشروط القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية لهذا التراكم الذي يهدف إلى تعزيز موقف الشركات الصناعية الكبرى المنخرطة في منافسة عنيفة في ما بينها في إطار السوق العالمية الواحدة. وهو النهج الذي يسيطر أكثر فأكثر في الدول الصناعية الداخلة في هذه المنافسة التي ستحسم موقع ومكانة كل منها في العقود القادمة وحجمها في الاقتصاد العالمي. ونهج اجتماعي ديمقراطي يؤكد، في سياق اقتصاد السوق نفسه وبهدف تعظيم الاستثمار وخلق فرص العمل وتحقيق التراكم الرأسمالي السريع، على مركزية المجتمع ويركز على تأمين شروط تحقيق التكافل والتضامن العميق بين أفراده كأساس لتعزيز مؤسسات المجتمع المدني وإشراكها في تخفيف الأعباء عن الدولة وأخذ المبادرة ومن ثم إطلاق دينامية العمل والابداع الجماعي. وهو ينظر إلى الاتساق الاجتماعي بوصفه عاملا أكثر أهمية من عامل رأس المال في إطلاق دينامية الجهد والابداع في بيئة عمل تسيطر عليها أكثر فاكثر عوامل المعرفة والمبادرة والمشاركة المدنية والحرة. وفي هذه الحالة نحن لا ننظر إلى رأس المال نظرة مالية (نسبة إلى المال) أو مادية ولكننا ندخل فيه أيضا رأس المال الاجتماعي وقوة التماسك الوطني والتفاعل الانساني أيضا.
لا يعني الاختيار المطروح أن لدينا ثقة كاملة بأن هذا النهج أو ذاك هو الذي سيقدم النتائج المرضية والمطلوبة. ولو كانت الامور واضحة إلى هذا الحد لما كانت هناك حاجة للحديث عن اختيار. فالاختيار يعني بالتحديد أننا لا نعرف جميع العوامل الفاعلة ولا نملك السيطرة الكاملة على الأوضاع ولا المعرفة الحقيقية بالواقع وأننا نسعى حسب ما نمتلكه من معلومات وتحليلات إلى بلورة النهج الذي يتفق بشكل أكبر مع معطياتنا والقيم الأساسية التي تلهمنا وتتحكم بسلوكنا. وليس هناك شك في أن للخيار الليبرالي منطقه. ذلك أن تعزيز موقف الشركات الصناعية تجاه الشركات المنافسة الأخرى يتطلب تقليل كلفة العمل سواء بتجميد الأجور أو تقليل الضمانات الاجتماعية وتوسيع هامش حرية أصحاب المشاريع في تسريح العمال وتبديلهم بسهولة وسرعة أكبر. بيد أن من الممكن أيضا لمثل هذا النظام أن يقود إلى عكس ما يهدف إليه إذا استغل الرأسماليون ضعف قوة المفاوضة عند المنتجين في سبيل تأمين هامش ربح كبير يعوضهم عن بذل الجهد الضروري لتطوير الإدارة والتقنية وتوسيع الاستثمار. وبذلك يكونوا قد حققوا بقاءهم ونجحوا في المنافسة مع شركات البلدان الاخرى على حساب تضحيات العمال والمنتجين بالدرجة الاولى لا بسبب قدراتهم التطويرية والتحديثية. وفي هذه الحالة يكون الضغط على عامل العمل والعمال لصالح الرأسماليين والذي يشكل جوهر الاستراتيجية الليبرالية الجديدة، سببا في التخلف التقني للرأسمالية القائمة بينما كان من الممكن لتنامي الضغوط العمالية وتصاعد مطالب المنتجين واحتجاجاتهم أن تشكل سوطا يدفع أصحاب المشاريع إلى الإبداع وشحذ العزيمة والهمة.
بالمقابل يشكل التضامن الاجتماعي والمشاركة النشطة والفعالة في الحياة العمومية السياسية والمدنية كما تفترض الديمقراطية الاجتماعية، وهي لا علاقة لها على الإطلاق بالديمقراطية الشعبية سيئة الصيت، ولكنها تشير إلى أهمية رؤية المجتمع ككل وليس رأس المال كفاعل رئيسي في تنظيم الحياة العمومية وتأمين شروط التنمية، وما يرتبط به من تطوير عمل هيئات المجتمع المدني التطوعية، محركا قويا لبذل الجهد والارتفاع بمستوى التعاون بين الأفراد للوصول إلى أهداف تنمية اقتصادية أسرع وأكمل. لكن ليس هناك شك أيضا في أن ثمن تحقيق مجتمع التضامن قد يكون كبيرا بالنسبة لبناء قدرة الشركات الصناعية على المنافسة في سوق مفتوحة وهمجية. وهذا هو الذي يفسر لماذا تميل الحركات الاجتماعية المعاصرة إلى التشكيك بسياسات العولمة وإلى التمسك بشكل أكبر من أصحاب المشاريع الصناعية الكبرى بالأطر الوطنية للسوق الاقتصادية. وهذا ما عبر عنه التصويت السلبي على الدستور الاوروبي في فرنسا وهولندا الشهر الماضي والذي لم يكن يستهدف الاتحاد الأوروبي كمشروع تاريخي وإنما سياسات الحكومات الليبرالية التي أجبرتها مهام التكيف مع السوق العولمية المفتوحة على التقليل من مكاسب المنتجين والعمال التقليدية او تجميدها. وأنا أعتقد ان النموذج الاجتماعي للديمقراطية الذي يراهن على التضامن الاجتماعي وتعزيز دور الفرد ومكانته في الحياة السياسية والمدنية هو الذي يتفق بشكل أكبر مع الأوضاع التي تعاني من ضعف الهياكل والمؤسسات الصناعية وغياب طبقة رجال الأعمال القوية والنشيطة التي يمكن المراهنة عليها لتحقيق المنافسة في السوق العالمية بقدر ما يجعل من المجتمع المدني ومبادراته الجمعية الخاصة وانخراطه الواسع في عملية البناء المؤسساتي والاقتصادي المحور الرئيسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. لكن هذا لا يعني أن تعزيز المجتمع المدني ينبغي أن يتم على حساب تأهيل وتطوير الشركات الصناعية أو أنه يشكل بديلا عنها. إنه المكمل لها والمخفف من آثار ضفعها على مسيرة الاندماج الصعبة المطروحة الآن على البلاد في الاقتصاد العالمي.
وفي الختام أود أن أقول إن الموقف من الليبرالية والديمقراطية الاجتماعية يتوقف على ما نعنيه بكليهما. هل نعني بالليبرالية مجموعة السياسات الاقتصادية التي تخضع شروط حياة المجتمع وأفراده لمنطق التراكم الرأسمالي أو منطق الربح أم نعني بها التوسع في الحريات الفردية وفي الضمانات القانونية لهذه الحريات. لكن مهما كان الأمر، المهم أن نؤمن أن التاريخ لا يكرر نفسه ولا يستنفد أو يستغرق في ما أبدعه. فهو منتج أبدي لصيغ وتركيبات وتوليفات لا نهاية لها هي أساس إبداعه. وعلينا وحدنا يتوقف أمر إخراج هذه التوليفات من رقادها وتكييفها مع الواقع الذي تستجيب لمعطياته. ولا يتطلب منا ذلك سوى أن نظل منفتحي الذهن مستعدين لتقبل الجديد واحرار الضمير.