سوريا على طريق ثورة الكرامة والحرية

2011-03-18:: الجزيرة نت

 لفت صمت الشعب السوري أمام اندلاع ثورة الكرامة والحرية في تونس ومصر وانتقالها المدوي إلى جميع الأقطار العربية، بما فيها دول الخليج النفطية الغنية، والملكيات الأكثر رسوخا في بعض الأقطار، نظر جميع المراقبين في العالم. وتبارى كثير من هؤلاء في تحليل الأسباب التي منعت رياح الحرية المنعشة التي هبت على المنطقة العربية، وألهبت حماسة شعوبها، ووحدت فكرهم ومشاعرهم وإرادتهم، كما لم يحصل في أي زمن سابق، من التأثير في مجرى الحياة السورية.

ولعل النظام السوري اقتنع أيضا بالأطروحة التي روجتها الصحافة هنا وهناك، واعتبر أن التفاف الشعب السوري حول قيادته بسبب مواقفها الحميدة من القضايا القومية، أمر مفروغ منه يجنبه المساءلة في قضايا الحكم والسياسة الداخلية والحريات، ويوفر عليه الإصلاحات التي ما كف عن الوعد بها منذ بداية العقد الماضي، من دون إظهار أي رغبة، مهما كانت محدودة، في تحقيقها.

ورغم مرور ثلاثة أشهر على ثورة شعبية عربية عارمة أدهشت العالم وأصبحت محور اهتمام المنظومة الدولية بأكملها، من سياسيين ومثقفين وفلاسفة وخبراء في السياسة والإستراتيجية، ومن مشاهد الشعوب التي حررت نفسها بقوة إرادتها وعزيمتها وتصميمها، في مواجهة أعتى النظم القمعية، فقد ظل النظام السوري صامتا تماما كما لو أن ما يجري من حوله لا يعنيه بتاتا، أو أن سوريا منيعة كليا على أي تأثيرات عربية أو عالمية.

وبينما لم يبق نظام عربي واحد لم يبادر إلى تقديم تنازلات سياسية والوعد ببرامج إصلاح أو الدعوة إلى حوارات وطنية، لم يجد المسؤولون السوريون ضرورة حتى للتوجه بخطاب أو بكلمة أو ببيان للشعب، واكتفوا بما تنشره أو تبثه وسائل الإعلام السورية عن إنجازات النظام الاستثنائية، الوطنية والاجتماعية والاقتصادية.

وبينما بادرت نظمٌ لا تقل ثقة بقوة الردع التي تتمتع بها أجهزتها الأمنية، إلى إطلاق سراح معتقلين واتخاذ إجراءات فورية لتبريد الأجواء والتخفيف من الضغوط والتوترات التي تعيشها الجماهير المتفجرة توقا إلى الانعتاق، وأعلن بعض الزعماء فيها عن عدم رغبتهم في إعادة ترشيحهم لولاية أخرى، وبادر بعضهم الآخر إلى كف يد الأجهزة الأمنية عن الملاحقات التعسفية واستخدام القوة والعنف مع المتظاهرين، وأقر بعض ثالث بضرورة تنظيم انتخابات نزيهة وحرة، ضاعفت أجهزة الأمن السورية من تشددها تجاه النشطاء السياسيين، وزجت المزيد منهم في السجون لأدنى الأسباب، وها هي تتورط في مواجهة المظاهرات بالرصاص بعدما كالت لهم تهما تساوي الخيانة الوطنية.

وحتى في الملكيات الراسخة والغنية، لم يجد القادة بدا من اتخاذ إجراءات سياسية جديدة بالإضافة إلى الإجراءات الاجتماعية والاقتصادية، وشعر قسم منهم، لم يعتد مخاطبة الجمهور ولا مغازلته، بضرورة أن يتحدث لشعبه ويخاطبه، كتعبير عن الاعتراف بوجوده أو التظاهر باحترام رأيه. وأعلن ملك المغرب الذي لا يشك أحد بما يتمتع به في بلاده من شعبية، نظرا لما شهدته بداية حكمه من انفتاحات ديمقراطية مهمة، عن مشروعه الجديد لتقليص كبير في صلاحيته السياسية وربما التمهيد لإقامة ملكية دستورية.

بالمقابل، لم يتردد الرئيس السوري في أن يؤكد خلال مقابلات حديثة مع الصحافة الأجنبية، أن الإصلاح السياسي في سوريا مسألة طويلة وصعبة، ولن يكون من الممكن تحقيقه قبل مرور جيل جديد.

لعل القادة السوريين ارتأوْا أن من الأفضل أن لا يتحدثوا في السياسة حتى لا يفتحوا على أنفسهم باب التفكير في الإصلاح السياسي، أو لعل بعضهم اعتقد بالفعل أن تجهيزاتهم وجاهزيتهم الأمنية قوية بما يكفي لردع السوريين عن القيام بأي عمل لا يرضى عنه النظام، أو بأن شعبهم قد فقد تماما الشعور، وأصبح جثة سياسية، أو أنه تحول إلى سائبة لا تعني لها الكرامة شيئا ولا تثيرها رياح الحرية.

أو لعلهم اعتقدوا بأن خوف الشعب بعضه من البعض الآخر، وتخويفه بالحرب الأهلية بسبب الانقسامات المذهبية او الجهوية، سيعطل إرادته ويشله عن القيام بأي مبادرة عملية.

هكذا صم النظام السوري أذنيه تماما عن نداءت - هي أشبه بالاستغاثة- صدرت عن بعض من لا يزال على قيد الحياة السياسية، في شعب يكاد يختنق من شدة ضغط أجهزة الأمن التي تحصي على الأفراد أنفاسهم بالمعنى الحرفي للكلمة، ولا يكاد فرد - سواء أكان ناشطا سياسيا أو بعيدا عن أي نشاط- يخرج من تحت السيطرة الأمنية المباشرة، ولا نشاط، مهما كان صغيرا أو كبيرا، تجاريا أو ثقافيا، يمكن أن يمر من بين شبكات المراقبة الضيقة وشكوكها المرضية وملاحقاتها الدائمة واليومية.

الإشارة اليتيمة التي قبل النظام أن يقدمها في هذه الظروف التاريخية التي تلهب مشاعر العرب جميعا وتدفعهم لركوب كل المخاطر بما فيها حمل السلاح لمقاتلة أعداء الحرية، كما حصل في ليبيا، هي إطلاق سراح هيثم المالح الناشط الحقوقي المسن، بعد سنوات من المحاكمات والاعتقالات التنكيلية.

وحتى في هذه الحالة، استكثر النظام أن يطلق المالح بعفو خاص، فجمله في عفوه العام الدوري عن الجرائم والجنح المدنية، وأكد أن الأصل فيه هو السن المتقدم، حتى لا يضفي على هذا العفو عن شخص واحد طابعا سياسيا يغذي أوهام الناشطين الحقوقيين والسياسيين بأن من الممكن تعميمه في المستقبل أو توسيع دائرته.

أكثر من الإحباط، أثار هذا الانغلاق السياسي، العميق الدلالة، ذهول الأوساط السياسية والثقافية جميعا، ليس في سوريا فحسب ولكن في العالم العربي بأكمله. وفجر صمت النظام روح الثورة الكامنة، بما أبرزه من عدم الاحترام للشعوب، والاستهتار بمشاعر الناس، وتجاهل تطلعاتهم، والاستهانة بمخاوفهم وقلقهم على مستقبلهم، والاستمرار في المراهنة على كسر إرادتهم، من أجل الإبقاء على إذعانهم، وتمديد حالة الحصار المفروض عليهم، وتحويلهم إلى أسرى محتجزين داخل ذواتهم هم أنفسهم.

ومن هذا الإحباط وانغلاق الآفاق وقتل الآمال، انطلقت يوم 15 مارس/ آذار الجاري أول شرارة في حركة يخطئ النظام إذا اعتقد أن من الممكن القضاء عليها بوضع من شارك فيها في السجن وإضافة معتقلين جدد إلى عشرات المعتقلين السابقين.

ليس ما حدث ويحدث في دمشق وبانياس ودرعا وحمص والقامشلي سوى الإرهاصات الأولى لثورة الكرامة والحرية التي حملت بها سوريا منذ وقت طويل، دون أن تجد وسيلة لإخراجها.

وأصبح أصعب فأصعب اليوم، في سياق الانتفاضة الشاملة للشعوب العربية، إخماد نارها بالوسائل والأساليب القديمة التي اعتادت على استخدامها الأجهزة الأمنية، من عنف مفرط وضرب وشتم، بل لن يزيدها ذلك إلا اشتعالا، بمقدار ما تساهم هذه الأساليب في تأكيد الواقع الذي يثير ثائرة الشعوب اليوم في كل مكان، ويدفعها للانتفاض على حكامها، وجوهره حكم الناس بالقوة والقهر، واحتقار آرائهم، وتسفيه خياراتهم، والتضحية بكرامتهم، والاستهتار بوجودهم.

ليس السوريون هم وحدهم الذين لفت جمود النظام وصممُه أنظارهم، ولم تقتصر المقالات والتعليقات النقدية على السوريين، وإنما أصبحت، أكثر، شاغلا رئيسيا لكتاب ومثقفين ومفكرين عربا كانوا ولا يزالون يعتبرون أنفسهم حلفاء أو أصدقاء للنظام.

ولم يتردد هؤلاء في تذكير المسؤولين السوريين بأن المواقف الخارجية الحميدة لا ينبغي أن تكون بديلا للاعتراف بحقوق الشعب السوري وحرياته، وأن تقديرهم لسياسات النظام السوري الخارجية، وحرصهم عليها وعليه، هما اللذان يدفعانهم إلى تحذير المسؤولين من مخاطر هذه السياسة ويناشدونه القيام بإصلاحات سياسية سريعة وفورية تلتقي مع آمال الشعب السوري وترد على تطلعاته المشروعة، قبل فوات الأوان.

كما هو واضح، لم يدرك القادة السوريون أن شعبهم قد تغير تماما، في أتون الثورة المستمرة التي يعيشها بكل جوارحه عبر القنوات التلفزية، ويشارك فيها ساعة ساعة، حتى وهو قابع في بيوته أو في مقاعده الدراسية.

كما أنهم لم يدركوا أن العالم نفسه قد تغير بفضل الثورة العربية ذاتها، وتغيرت معه أيضا الجامعة العربية، كما أبرز ذلك المثال الليبي. ولم يعد أحد يقبل اليوم مشاهد الحرب التي يشنها مسؤول أو زعيم سياسي على شعبه لمجرد طموحه في البقاء في السلطة أو حماية بعض الامتيازات.

ولقد فات الوقت الذي كانت سيادة الدولة فيه تعني حق أي حاكم أو نظام حكم - مهما كان أصله ومصدر شرعيته- في أن يستفرد بشعبه ويفرض عليه الإذعان.

ولم يعد من الممكن للرأي العام العالمي، في نظام العولمة الراهن والتواصل المباشر عبر وسائل الإعلام، أن تتنكر حكوماته لواجب التضامن مع الجماعات والشعوب المعرضة لمخاطر الإبادة والاستعباد، أو أن تستهتر بمصادرة إرادتها من قبل جماعات خارجة على العرف الدولي والقانون، سواء اعتمدت في إخضاع شعوبها على القوة العسكرية النظامية أو الأجهزة الأمنية، ومن باب أولى على عصابات المرتزقة وأمثالهم.

مهما تأخر الوقت، لا يستطيع نظام متكلس يرجع نموذجه إلى حقبة سابقة كثيرا على ثورات التحرر والديمقراطية والانتفاضات الشعبية العربية، أن يستمر. لقد أصبح أثرا من آثار ما قبل التاريخ.. تاريخ الحرية الجديد الذي يحرك الشعوب ويلهمها.

والسوريون ليسوا أقل جدارة من الشعوب الأخرى، وليسوا أشباه رجال، أو نمطا خاصا من الشعوب التي لا تعنيها الكرامة ولا تعرف معنى الحرية، ولن يقبلوا أن يكونوا أنصاف مواطنين. وما ينشدونه هو ما تتمتع به جميع شعوب العالم اليوم وتنشده أيضا: حكم قائم على المشاركة والاعتراف بأهلية الشعوب وحقوقها وحرياتها الأساسية، والتخلص من عسف المخابرات وتسلطها البغيض على حياة الناس ومصادرة أحلامهم وآمالهم. وليس في هذا أي مطلب استثنائي أو تعجيزي.. بالعكس إنه العودة إلى الحالة الطبيعية، أي السليمة.

لكن إذا لم يكن من الممكن المحافظة على نظام يرجع في نموذجه إلى عصر الحرب الباردة، فليس هناك ما يمنع أصحابه أو الذين آمنوا به من أن يجنبوا أنفسهم مصيرا شبيها بمصير الخارج على القانون الذي تحول إليه القذافي - الزعيم الملهم- بعدما غامر بشن الحرب على شعبه وأراد أن يفرض نفسه عليه بالقوة، ولا حتى بمصير بن علي ومبارك اللذين اضطرا إلى الانسلال أو التسلل خوفا من الغضبة الشعبية.

والسبيل إلى ذلك ليس بالأمر الصعب والخطير.. إنه ببساطة ملاقاة مطامح شعوبهم وتطلعاتها الإنسانية الطبيعية، والتجرؤ على إعلانها شعوبا حرة، والاعتراف بأهليتها في حكم نفسها واختيار ممثليها بحرية، وتسهيل انتقالها الحتمي نحو الديمقراطية، والمساهمة في تخفيض تكاليف هذا الانتقال المادية والمعنوية.

ولا أعتقد أن كثيرا من القادة السياسيين - بمن فيهم مسؤولون كبار في أجهزة الأمن- من الذين أتيح لي مقابلتهم بمناسبة العديد من التحقيقات التي يشاركني فيها أغلب عناصر النخبة الثقافية، غير قادرين على مثل هذا الخيار، أو غير آبهين بمستقبل شعوبهم وراغبين في تجنيب بلادهم مخاطر العنف والحروب الداخلية، ومن ورائهما احتمال الانزلاق نحو التدخلات الأجنبية القابعة وراء الباب.