درس إعلامي من فرنسا

2001-10:: الوطن

 

كلمات متقاطعة

دعيت من قبل برنامج >كلمات متقاطعة< على قناة فرنسا الثانية للمشاركة في ندوة تلفزية حول أفغانستان· وهو برنامج سياسي وفكري تدعى إليه عادة الشخصيات السياسية الفرنسية لترد على أسئلة صحفية معروفة وقديرة هي أرليت شابو التي لا تتردد في مواجهة المدعوين وتذكيرهم بما كانوا قد ذكروه في حلقات سابقة ومحاسبتهم عليه· وقد فوجئت مفاجأة سارة بالدعوة التي تكاد تكون من بين دعوات نادرة لمشاركين عرب أو من أصل عربي أو مسلم في مناقشات وسائل الإعلام الفرنسية حول الأحداث الدولية· وبالرغم من مرض الزكام الذي أصابني في ذلك اليوم فقد قررت الذهاب إلى الاستديو اعتقادا مني بأن علينا أن لا نتأخر عن تلبية طلب قناة تلفزية أجنبية عندما يكون ذلك ممكنا وأن يكون لنا حضور دائم فيها·

وقبل ذهابي إلى الاستديو تحدثت مع أحد الأصدقاء الصحفيين وذكرت له الموضوع فقال لي هذا برنامج مهم· لكن لن يتركوك تتحدث· قلت لا أعتقد ذلك فقد تحدثت مسؤولة البرنامج معي في الهاتف لأكثر من ربع ساعة وحاولت أن أعتذر بسبب زكامي فقالت أنني أتذرع بالزكام· وذكرت لي أنه قيل لها أنني أفضل من يمكن أن يتحدث في هذا الموضوع في برنامج تلفزيوني ولن تقبل مني غير ذلك··

وعندما وصلت إلى الاستديو وجدت معي خمسة مشاركين آخرين معظمهم من المسؤولين الأمنيين السابقين الذين يتابعون مسائل الحرب الافغانية منذ بداياتها، أي منذ أكثر من عشرين عاما· وقسم آخر اختص، أو ادعى أنه مختص بحياة بن لادن ومعاركه، وألف في ذلك بعض الكتب· وآخرون يطلق عليهم مسؤولوا البرامج التلفزيونية اسم محللين استراتيجيين مثل جيرار شاليان، الاسم المعروف في العالم العربي بسبب ما ترجم له في فترة الستينات القومية من مقالات في موضوعات الثورة القومية والاشتراكية· لكن شاليان اليوم قد أصبح النقيض الكامل لشاليان الستينات· فهو يحلل العالم الان من منظور قومي أوربي يميني لا يرى في العالم العربي والاسلامي إلا العداء للغرب والحضارة·

وقد بادرت محررة البرنامج شاليان بسؤال غريب من نوعه إذ ذكرت له أنها استضافته منذ خمسة عشر يوما، وهو الموعد السابق لبرنامجها، وأنه قدم لها تحليلا متشائما تماما حول مستقبل الحرب الغربية في أفغانستان، وقد دلت الوقائع أن هذا التحليل كان خاطئا إذ لم يقاوم طالبان كثيرا وسقطت معظم المدن الأفغانية من بين أيديهم في أقل من خمسة أيام· ارتبك الصحفي المعروف واعترف بأنه لم يصب بتحليله السابق· بينما انتزع الكلام منه زميله ليقدم الجواب فقال جاءت المفاجأة بسبب تخلي الشعب الأفغاني بسرعة عن طالبان ولم يكن أحد يتوقع ذلك· أما شاليان فذهب إلى المزاودة من جديد بالقول إنه واثق من أن الأفغان من المحيطين ببن لادن سوف يسلمونه للأمريكيين لأنه عربي أجنبي أساء لهم· وقد ألح مرارا على أن مشكلة هذا الأخير نابعة من كونه من أصول عربية أي على أنه أجنبي عن البلاد·

وبعد أن استعرضت المحررة كل التفاصيل حول أساليب تعبئة القاعدة للشبان ووسائل عملها مع المشاركين الآخرين، انتقلت إلى لتسألني فيما إذا كان بن لا دن قد أصبح بطلا وأسطورة في نظر الشعوب الاسلامية والعربية· قلت إن بن لا دن لم يكن بطلا ولا أسطورة، بل لم يكن يذكره أحد تقريبا بين قادة الحركات الاسلامية قبل عملية الحادي عشر من سبتمبر· ولكنه أصبح بالفعل شخصا استثنائيا بسبب ما حصل من تركيز متواصل عليه من قبل وسائل الاعلام والسياسيين الغربيين· ونحن الآن في هذا الاستديو الذي يناقش مصيره نساهم أيضا في تحويله إلى بطل وأسطورة· فردت متسائلة: لكن هل هو الآن أسطورة لدى الشعوب العربية أم لا ؟ هو كذلك بالنسبة لقسم لا بأس به من الرأي العام المسلم، لكن استمرار هذه الاسطورة يتوقف على الطريقة التي سوف تعالج بها الولايات المتحدة والمعسكر الغربي عموما الأبعاد السياسية للحرب· فأشاحت بوجهها عني وانتقلت إلى مشارك آخر لتعيد السؤال حول احتمال القبض السريع على زعماء القاعدة· وكان من الواضح بالنسبة لي أن دوري قد انتهى وكان المطلوب مني كعربي أن أكون شاهد زور، أي أن أثبت ما يقوله الآخرون وأصمت· ترددت قليلا ثم قلت مقاطعا هل لدي حق في الكلام أم لا ؟ عادت محررة البرنامج تصغي إلي· قلت لقد أدهشني أنه خلال أكثر من ساعة من النقاش لم يتعرض أحد للأبعاد السياسية للحرب واقتصر النقاش على الجوانب الفنية والتقنية لحرب القوات الخاصة وكيفية عملها للقبض على شخص معزول في الجبال والصحارى· وعندما حانت الفرصة للدخول في تحليل الجانب السياسي اقتصر الكلام على جملة واحدة·

رد على مشارك آخر أزعجته فكرة الجانب السياسي للحرب، فقال إن تحطيم شبكات التمويل المصرفي للقاعدة وتدمير بنياتها في أفغانستان هو الأساس· فقد نجحت هذه المنظمة في توحيد العديد من المنظمات الاسلامية الأخرى مثل الجماعات الاسلامية والجهاد، والقضاء عليها يعني تلقين مثل هذه الحركات درسا لن تنساه في المستقبل، سوف يمنع الاخرين من الاقتداء بها· قلت بالتأكيد لا ينبغي الاستهانة بمثل هذا العمل لكنه غير كاف لوحده· ولو كنت سياسيا مسؤولا في هذه البلاد لكان مبعث قلقي الأكبر ليس تنظيم القاعدة ذاته، فالتنظيمات تولد وتموت وتتحطم، لكن ما حصلت عليه من تعاطف كبير من قبل قطاعات واسعة من الرأي العام الاسلامي· وهذا التعاطف لم ينبع من تأييد أفكار القاعدة بالضرورة ولا من التمسك بمشروعها السياسي الديني ونموذج حكمها بقدر ما نبع من عملها الذي بدا لهذه القطاعات كرد فعل على سياسات دولية وأجنبية صعبة الاحتمال· وهذا التعاطف لا يمكن أن يعالج من خلال تحطيم شبكات التمويل المصرفي ولا تدمير هياكل المنظمات وقواعدها العسكرية· إنه يقتضي معالجة سياسية للأمور· وفي الشرق الأوسط هناك مسألتان لا يمكن من دونهما الخروج بنتائج كبيرة من الحملة العسكرية على طالبان، وهما موضوع فلسطين وموضوع الاستهتار الواسع بالحقوق المدنية والسياسية للسكان· وعلى طريقة معالجتنا لهاتين المسألتين يتوقف مصير الأسطورة التي تتحدثون عنها·  ستبقى الأسطورة مستمرة لدى قسم من الرأي العام المسلم إذا بقيت التوترات والنزاعات والاحباطات السياسية التي فجرت الارهاب على حالها· لكن هذا الرأي العام نفسه سوف ينساها بسرعة إذا نجحت قوات التحالف الغربي في تجاوز الجانب العسكري المحض ودخلت في معالجة عمق المسائل المطروحة على المنطقة التي أنتجت وتنتج الارهاب، سواء أكان ذلك في أفغانستان أو في العالم العربي·

وأضفت : أما بخصوص الخطأ الواضح في تقدير الخبراء الاستراتيجيين الغربيين لوجهة تطور الوضع فسببه الاعتقاد السائد عند الجميع هنا بأن نظام طالبان هو النظام المثالي في نظر المسلمين وأن جميع مسلمي العالم يحنون إلى نظام يفتقر للقانون ويعتمد على حكم الميلشيات وتعميم الفوضى والفساد· والحال أن الحرب قد أظهرت عكس ذلك تماما، فليس نظام طالبان ولم يكن في أي فترة نظاما شعبيا في العالم الاسلامي· ولو لم يكن هناك استخفاف كبير بالرأي العام المسلم واقتناع بأنه معاد بالصميم للحضارة والقيم الحديثة، لكان من الطبيعي أن نتوقع أن لا يلتف الشعب الأفغاني بالضرورة حول نظام طالبان الذي أخرج المرأة تماما من الحياة العمومية ومنعها من متابعة التعليم ومارس سلطة تمييزية وتعسفية كبيرة في البلاد· إن الشعوب العربية والمسلمة لا تحلم بنظم من نوع طالبان ولكنها تتطلع مثلها مثل جميع شعوب الأرض اليوم إلى نظام من التسامح والاحترام المتبادل والمواطنة القائمة على المساواة والعدالة واحترام الانسان وضمان حرياته وحقوقه المدنية والسياسية·

لكن سرعان ما أشاحت محررة البرنامج بوجهها عني، قبل أن أنهي جملتي، معبرة عن امتعاضها من هذا الحديث الذي أعاد إدخال العالم العربي والاسلامي في المناقشة التي ينبغي أن تقتصر، كما اعتقد صديقي، على وجهات نظر المختصين المحليين ولا تتجاوز في مضمونها حدود مناقشة الأمور الفنية تماما، كتلك التي تتعلق بمشاركة القوات الفرنسية الخاصة مع القوات الأمريكية وبتقاليد عمل هذه القوات والمخاطر التي تتعرض لها أو يمكن أن تتعرض لها في مثل هذه الظروف· واكتشفت على أرض الواقع كيف أن لكل شعب من الشعوب جدول أعماله الذي يحدد موضوعات اهتمامه الرئيسية ويجعل موضوعات اهتمام الآخرين أمورا ثانوية· إن مصير أفغانستان والعالم العربي الذي حاولت أن أجر النقاش إليه يهم العرب بالدرجة الأولى، وهو الذي يشدهم إلى ما يحصل في أفغانستان ويجعلهم بتابعون ما يدور على أرضها·  وبالعكس إن التأكد من تحطيم شبكات الارهاب ومعرفة نجاعة طرق القضاء عليه، والإطمئنان إلى إمكانية الانتصار عليه هو الذي يهم الأوربيين والأمريكيين· وفيما وراء ذلك على كل شعب أن يقلع شوك رجليه بيديه·