خيار السوريين المقاومة

2017-10-10:: العربي الجديد

يعيش السوريون لحظة قرارات حاسمة في تاريخ ثورتهم المريرة والقاسية، بعد ما حصل في الأشهر الماضية من تطورات في مواقف الدول وتحول في موازين القوى العسكرية والدبلوماسية. فقد نجح الروس وحلفاؤهم الايرانيون، بسبب تخبط الغربيين وضعف إرادتهم، في قلب الطاولة على حلفاء المعارضة، الترك والعرب والاوروبيين، وزاد اعتقادهم بأنه أصبح في إمكانهم، بعد امساكهم بخيوط اللعبة الداخلية والاقليمية، إقناع المعارضة بأن تسلم بخسارتها الحرب، وتقبل بتسوية تضمن استمرار الاسد في الحكم، وبالتالي تبرئته من خطاياه وجرائمه، وربما تثبيت حقه في ترشيح نفسه بعد المرحلة الانتقالية، والاكتفاء بالمشاركة في حكومة وحدة وطنية والدفاع عن وجهة نظرها في التغيير من خلالها. وللتوصل إلى هذا الهدف تسعى إلى جذب أصدقاء المعارضة لصفها ودفعها إلى الضغط على «المتشددين» منها للقبول بالدخول في الصفقة المنتظرة أو الخروج من «اللعبة». وهذا هو الوضع الذي يكمن وراء الدعوة لمؤتمر رياض٢ ورفع شعار توحيد المعارضة من جديد وجمع المنصات العديدة في وفد موحد يغلب عليه القابلون بالحل

أمام هذا «الديكتات»أو الإملاء الدولي الوحيد، كان من الطبيعي أن تنقسم المعارضة بين فريقين، الفريق الذي يعتقد بانه لا يوجد خيار آخر أمام المعارضة سوى الإذعان والقبول بمفاوضات استانا وموسكو والاستمرار فيها لانتزاع ما يمكن انتزاعه من حقوق الشعب، بالتعاون مع الدول الصديقة، وكسب ود موسكو بشكل أكبر، وأؤلئك الذين يرون في هذه المفاوضات، ومعها مؤتمر الرياض٢ الذي ينتظر منه تكريس ما يساهم في تحقيق الصفقة الروسية الدولية، عملية انتحار، وينادون بوقف مهزلة المفاوضات في استانا أو جنيف، واتخاذ موقف نهائي منها.

١ 

اعتقد بداية ان وقف النار الذي تعد به مفاوضات استانا لم يعد اختيارا بالنسبة للفصائل المسلحة ولكنه اصبح امرا واقعا وجزءا من استراتيجية الخروج من الحرب، ولا اعني من الثورة، مع الأمل بانقاذ ارواح مقاتلي المعارضة من جهة، والتخفيف من المعاناة المرة التي يعيشها السوريون القاطنون في مناطق المعارضة الذين لا يزالون يتعرضون للموت اليومي بمختلف اشكاله، تحت القصف ومن الجوع والمرض واليأس، من جهة ثانية، ولوضع حد لتدهور العلاقة بين الفصائل المقاتلة وحاضنتها الاجتماعية التي تكاد تصل إلى درجة الثورة عليها لما تراه فيها من خذلان لها وابتعاد عن روح الثورة وفساد، من جهة ثالثة، وللحفاظ، من جهة رابعة، على الحد الأدنى من الدعم المادي والسياسي الذي تقدمه الدول الصديقة للثورة سابقا، والتي اصبحت اليوم جزءا من مجموعة «الدول المتفهمة أو المتفاهمة»، والتي أصبحت تراهن جميعا على روسيا التي ربحت الجولة الأولى من حرب االسيطرة على الشرق الأوسطي الطويلة ضد الولايات المتحدة والغرب، لايجاد مخرج من الأزمة السورية المستعصية.

ثم إن هذه الفصائل غير قادرة في وضعها الراهن وطبيعة العلاقات التي تربطها بداعميها والثقافة التي تلقاها أفرادها ومقاتلوها خلال السنوات الماضية على أن تعيد هيكلة نفسها بشكل جدي وفعال بما يسمح لها بالحفاظ على مواقعها كحد ادنى، فما بالك بإمكانية تبني استراتيجية جديدة لقلب ميزان القوى من جديد لصالح الثورة. مما يعني أن الحديث عن خيار عسكري  للمعارضة أصبح إلى حد كبير عديم المعنى، وبهدد بأن يختلط أكثر فأكثر بخيار القوى المتطرفة من منظمات النصرة وغيرها من المنظمات الاسلامية الجهادية، التي تواجه هي نفسها اليوم وضعا سياسيا صعب الاحتمال

لكنني في المقابل لا أعتقد أن على المعارضة أن تقدم لروسيا أو لغيرها ثمنا سياسيا لخفض التصعيد أو حتى لوقف إطلاق النار. ولا ينبغي ان يعتقد التحالف الروسي أن القبول بوقف القتال أو حتى انقاذ ارواح مقاتلي المعارضة يستدعي تقديم تنازلات سياسية في ما يتعلق بقضية الثورة والشعب، وهي قضية مختلفة كليا، كما قلت في مقال سابق، عن مسألة الحرب التي اعلنها النظام ضد الثورة والتي دخلت فيها المعارضة. فوقف القتال مصلحة مشتركة للمتحاربين، ولا يغير أو لا ينبغي أن يغير من طبيعة المشكلة ولا من مضمون الحل. فقضية المعارضة وشرعيتها تختلف عن قضية الثورة وشرعيتها أيضا.

لا شك أن فشل المعارضة في حسم المعركة العسكرية قد اضعف قوى الثورة ولكنه لم يضعف شرعيتها، بالعكس، إن ما قام به النظام ومن بعده طهران وروسيا هدم كل ما تبقى من شرعية النظام القائم وكشف عن هويته الحقيقية وهوية رموزه وولاءاتهم وانتماءاتهم ومطامحهم كما لم يظهر في اي وقت في السابق. لقد بين سلوك النظام تجاه حركة الاحتجاج الشعبية السلمية أنه ليس نظاما سياسيا وإنما تحالفا من القتلة والجانحين، وليس دولة تلتزم بدستور ولها مؤسسات مستقلة تخضع في سلوكها لقانون وقواعد ثابتة، وإنما عصابة تلف حولها مجموعة من المصالح الأنانية والانتهازية، وهي على استعداد لقتل الشعب كله وتوزيع البلاد جوائز للدول التي تقبل مشاركتها القتل والدمار للحفاظ على سيطرتها. التهافت السياسي والعسكري لنظام العصابة، بسبب صمود الشعب والمعارضة المسلحة الطويل عزز ايمان السوريين باهداف الثورة وحتمية سقوط نظام القتل والإبادة الجماعية. ولن يغير هذه الحقيقة فشل المعارضة أو التلاعب بها او تقويض صدقيتها لإجبارها على الاستسلام أو التسليم بمشاريع التصفية الدولية.

لا أعتقد أن أمام السوريين خيارا آخر إذا لم يريدوا العودة إلى نظام الانتقام الممنهج والقتل الأعمى وتعميم منطق العبودية، وتحويل سورية إلى مرتع للصوصية والمحسوبية والفساد غير طريق المقاومة المستمرة حتى تحقيق أهداف الشعب المحقة والعادلة. ولن تربح المعارضة شيئا من التخلي عن أهداف الثورة، بالعكس سوف يحولها التراجع عنها إلى معارضة مرتزقة وباحثة عن مناصب وتفتقر لأي قضية. ما يجعل للمعارضة قيمة ورصيد ويجعل الدول الصديقة والعدوة تتواصل معها ليس انجازاتها وحسن أدائها وإنما تمثيلها، الوهمي او الفعلي لا فرق، لقضية الشعب وتمسك بعضها بحقوقه بالفعل. إذا تخلت عن هذه القضية لن تستحق اي منصب في نظر النظام المعاد تأهيله، وستخسر كل صدقيتها في نظر الشعب، بل وتتحول بالفعل إلى مجموعة من الخونة الذين باعوا دماء الشهداء للوصول إلى السلطة، ولن يختلف تقييم الناس لهم عن تقييمهم لؤلئك الموجودين اليوم في السلطة والذين شنوا الحرب على الشعب ودمروا وطنه.

هذا مع العلم ان الاسد لم ينتصر وإنما تحطم عسكريا وسياسيا وأخلاقيا وتفكك نظامه واندرج ضمن نظام الانتداب الروسي، وأن حلفاءه من الروس والايرانيين وقعوا في مستنقع الحفاظ على نظام قاتل ضد شعب حر، ولا ينبغي السماح لهم بالخروج من ورطتهم وإنما انتظار هزيمتهم كما حصل لهم ولغيرهم من المستعمرين المناهضين لإرادة الشعوب من قبل، وأن الشعب السوري دفع الحساب القاسي عمليا ولم يعد لديه ما يخسره سوى قيوده وكوابيسه وانقساماته وعبوديته.

٢

في هذه الحالة لا ينبغي أن يكون السؤال: نشارك أم لا نشارك في المفاوضات الجارية بصرف النظر عن عقمها، ولكن: معرفة في ما إذا كانت المعارضة لا تزال تتمسك بأهدافها الأولى أم أنها تقبل بالتراجع عنها أو عن بعضها للقبول بتسوية الأمر الواقع، أي باختصار : هل ينبغي الاستمرار في الثورة حتى تحقيق الأهداف التي عبر عنها الشعب عندما زج بنفسه في الصراع ضد نظام القتلة أم القبول بتغيير أهدافنا ومراجعتها. وإذا كان الجواب الاستمرار في المقاومة فأي استراتيجية ينبغي اتباعها لتجاوز النكسات الماضية وإعادة ترتيب أوراقنا آخذين في الحسبان تغير ميزان القوى وتحولات القضية السياسية والدبلوماسية؟

في نظري يحتاج  بناء استراتيجية المقاومة الطويلة المدى والاستمرار في تعقب النظام لإسقاطه واستبداله بنظام مدني تعددي ديمقراطي يمثل الشعب إلى تحقيق ثلاثة شروط أساسية:

اولا تغيير أسلوب التفاوض لا الانسحاب من المفاوضات،

وثانيا بناء حركة مقاومة فدائية سورية تعمل من تحت الأرض وتضم جميع العناصر الحية والنشيطة التي حررها خروج الفصائل من المواجهة العسكرية الماضية،

وثالثا بناء الجبهة السياسية وتفعيل العلاقات الدولية وتنظيم صفوف السوريين في الداخل والخارج وتعبئتهم لإعادة إطلاق الحياة السياسية وخوض معارك تأكيد الوجود والاستمرار في الدفاع عن كرامة السوريين وحرياتهم عبر التظاهرات وأشكال التعبير السلمي الاخرى.

لا ينبغي للمعارضة أن تنسحب من المفاوضات أو حتى أن تتردد في خوضها، بل بالعكس عليها أن تطالب بها وتلح في وضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته من خلالها، لكن ما هو مطلوب منها هو أن تخوضها بروح أخرى وإرادة وعزيمة أقوى، وأن تشارك فيها من منطلق ملاحقة المجرم والدفاع عن حقوق، لا من منطلق الخائف من الخسارة، أو المتشكك في طلب الحق، أو المستعد للمساومة عليه.   

فالمعارضة ليست في موقف الضعف بل القوة. فهي تتحدث باسم شعب صمد ست سنوات في وجه تحالف عدواني لا يتردد في تبني خيار الابادة الجماعية واستخدام اسلحة الدمار الشامل لتحطيم القاعدة الشعبية لا لضرب المقاتلين فحسب. وهي تتمتع برصيد لا يضاهى هو قضية الدفاع عن الكرامة والحرية العادلة لشعب انكوى بنار القهر والفاشية، وما يقارب المليون شهيد وملايين الضحايا المشردين واللاجئيين والمنكوبين، وهي تقف في مواجهة نظام رصيده الوحيد استخدام كل أنواع الأسلحة لتعظيم وتيرة القتل، والغدر بشعب تحكم في مصيره منذ نصف قرن، وخيانة جميع العهود والمواثيق، الوطنية والدولية، الانسانية والسياسية، وتدمير بلده والتفريط بسيادته واستقلال وطنه وفتح الأبواب واسعة أمام الاحتلالات والانتدابات الاجنبية، لهدف وحيد واحد هو الحفاظ على سلطته الشخصية الاستبدادية والفاسدة.

في هذه الحالة سيصبح للذهاب إلى المفاوضات معنى وجدوى، بل ستصبح المشاركة فيها واجبا وجزءا من المعركة  السياسية والدبلوماسية. ولن تذهب المعارضة لتقديم التنازلات وتغيير الأهداف، ولكن للمطالبة بالافراج عن المعتقلين وإعادة اللاجئين وانهاء الاحتلالات الأجنبية والزام المجتمع الدولي باحترام حقوق السوريين ورفع الظلم عنهم وتمكينهم من تقرير مصيرهم بحرية، بعيدا عن الاملاءات والتدخلات الأجنبية. ولا ينبغي للمعارضة أن تمل أو تكل من تأكيد شرعية هذه الحقوق حتى لو استمرت المفاوضات سنوات أخرى ووقف في وجهها العالم كله. وهي حقوق واضحة كالشمس : التخلص من كابوس الاحتلال الداخلي والخارجي وحكم القهر والقوة.

لكن حتى مع النجاح في تكوين مثل هذا الوفد المتمتع بثقة السوريين وتأييدهم، لن يكون للمفاوضات قيمة أو مقدرة على التوصل الى تسوية مقبولة مع الدول المحتلة والمنتدبة من دون وجود ذراع عسكري يضغط من تحت ويبقي جمرة الكفاح المسلح مشتعلة وقابلة للاشتعال اكثر

٣

وهذا ينقلنا إلى الميدان العسكري. فلا ينهي التوقيع على اتفاقات خفض التصعيد وإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرواح المقاتلين والاهالي الخاضعين لعمليات القصف والانتقام، أو لا ينبغي على المعارضة أن تعتقد أنه ينهي مهامها العسكرية. فالتمسك بأهداف الثورة والشعب، التي أصبحت أكثر شرعية وضرورة بعد بروز عنف النظام وإجرامه، يحتاج إلى رفد الصراع السياسي بذراع ضاربة عسكرية لا تستقيم المفاوضات السياسية من دونها طالما استمر النظام في استخدام آلته العسكرية وآلة حلفائه للي ذراع المعارضة إن لم يكن لكسرها. وهذا لا يتحقق بالتوقف عن القنال وتسريح مقاتلي المعارضة، أو الحاقهم بالحشود الدولية لقتال داعش، أو بتحويلهم إلى العمل في فصائل تخدم كأذرع للدول الصديقة أو شبه الصديقة. المطلوب بالعكس إعادة تأهيل القسم الأنشط منهم وإعدادهم للقيام بمهام المقاومة، وقبل ذلك تربيتهم وتدريبهم ليكونوا في خدمة قضية الشعب ومستعدين للتضحية بأنفسهم من أجله، أي ليصبحوا حركة مقاومة فدائية سورية وطنية طويلة المدى هدفها وبرنامج عملها الحفاظ على أهداف الثورة والرد على تطلعات الشعب وضمان وصوله إلى استعادة حقوقه المهدورة واعادة بناء الدولة والمؤسسات.

وأخيرا، إلى جانب تغيير أسلوب التفاوض وإعادة بناء قوى المعارضة المسلحة وتغيير استراتيجيتها، هناك النشاط الأكبر والاهم الذي يشمل العمل مع جميع فئات الشعب السوري ومع الرأي العام الدولي لاستعادة الأرض التي خسرتها المعارضة لأسباب ذاتية وموضوعية معا. فالمفاوضات ستبقى عقيمة من دون عصا المقاومة الميدانية، والذراع العسكرية وسيلة هامة للضغط على الخصوم وربما الاصدقاء، لكنها لا قيمة لها أيضا من دون أن تكون جزءا من منظومة علاقات دولية وسياسية وإعلامية واجتماعية. وهذا ما قصدته في الحديث عن إعادة بناء الجبهة السياسية الداخلية واستعادة الصدقية والثقة العالمية بعد سنوات من الخلط المتعمد بين اهداف الثورة السورية التحررية ودعوات منظمات التطرف والارهاب المذهبي والديني الارهابية وغير الارهابية.

ومنذ الآن بدأ السوريون، الذين سئموا وعود الدول ومفاوضات تمرير الوقت، ويئسوا من قدرة منظمات المعارضة القديمة/الجديدة على مواجهة مهام التحرر السوري وتحدياته، يطلقون مبادرات بناءة في الداخل والمهجر في كل الاتجاهات، السياسية والقانونية والانسانية والإدارية، ولن يمر وقت طويل قبل أن يستعيدوا أنفاسهم ويستخدموا الخبرة الكبيرة التي راكموها خلال صراعهم المرير من أجل التحرر من ذل العبودية لتنظيم أنفسهم وتشكيل مجالس وقيادات محلية أو مؤسسات تحل محل الدولة المختطفة وتقوم بالمهام التي فشلت في القيام بها، أو يعملون على تكوين شبكات دعم ومساندة للثورة في الخارج ولجان تواصل واتصال للعمل مع الحكومات والقوى الأجنبية وتحفيزها لمساندة القضية السورية وعدم التسليم لمنطق القوة الغاشمة الذي يهدد بزعزعة العلاقات الاقليمية والدولية.   

 

بعد هذا الحجم الهائل من التضحيات لا يمكن لأي شعب حر أن يسلم أو يستسلم، ولا للرأي العام أو المعارضة أن يخدعا بأكاذيب المجتمع الدولي والدول الصديقة والعدوة وألاعيبها وكلامها المعسول. في النهاية كل دولة تسعى إلى تعظيم مصالحها ونادرا ما تضحي من أجل المباديء وبالأحرى من أجل مصالح دولة أخرى. وفي منطقتنا حيث الدولة في معظم الأحيان ملكية خاصة لطغمة أو أسرة أو عائلة شبه اقطاعية، ليس هناك اي مانع لدى الحكومات من الانقلاب على حلفائها والتضحية بأقربهم منها إذا بدا ذلك ضروريا للحفاظ على النظام.

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/10/9/%D8%AE%D9%8A%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9-1