حقيقة الطائفية في الصراعات العربية والاقليمية

2014-07-22:: العربي الجديد

لم تكن قضية الطائفية حاضرة في السياسة والثقافة العربيتين في أي فترة كما هي اليوم. وما يثير التساؤل حول هذا الحضور هو أنه يأتي بعد ما يقارب القرن من تأكيد عهد الوطنية ورفض جميع أشكال الانتماءات الطائفية والقبلية، وتلاشي مظاهرها، المعلنة على الأقل، إلى حد كبير. الكثير من المثقفين والاعلاميين وصناع الرأي يبدون وكأنهم يكتشفون لأول مرة قوة هذه الانتماءات، ويدعون إلى مراجعة الطروحات القومية والوطنية التي ساعدت على تجاهلها او إنكارها، ويعتقدون أن الاعتراف بها وإعطائها "حقوقها"والكف عن إنكارها، هو الطريق الوحيدة لمعالجة آثارها، وانقاذ رهان الدولة والحداثة الوطنية، وهناك من يذهب إلى أكثر من ذلك ويعتبر أن الحروب والنزاعات الداخلية والاقليمية بينت أنه لا يوجد على الأرض إلا الطوائف، وأن الخاسر الأكبر في هذا الصراع هو الجماعات التي لم تعرف كيف تنظم نفسها وتقاتل على أجندة طائفية، مثلها مثل الآخرين، وكانت كالزوج المخدوع . وهذا يفسر أيضا جزءا من صعود الحركات الجهادية السنية التي تتبنى بصراحة خطابا وأجندة طائفيين. ويعتقد الجميع أن كل ذلك ينذر بحرب طائفية داخلية وإقليمية لن تبقي شيئا من أي ماضي وطني أو حداثة أو مشاريع ديمقراطية أو قضايا وحقوق إنسانية.

وعلى العموم يسود الاعتقاد اليوم ان الطائفة حقيقة قوية أخطأنا في تقدير حيويتها وتأثيرها، وأنه لن يكون من الممكن إعادة بناء الدولة في المشرق العربي إلا على أساس احترام هذه الحقائق والتكيف معها، مما يعني ربما التضحية بفكرة الدولة الوطنية الواحدة، التي تساوي بين جميع أفرادها بصرف النظر عن انتماءاتهم واصولهم، والقبول بصيغة من صيغ الفدرالية أو حتى الكونفدرالية التي تعطي لكل طائفة سلطة ذاتية كاملة في شؤونها، وربما دولة مستقلة.
ويشارك العديد من الباحثين والصحفيين الغربيين الذين لم يقتنعوا يوما بمقدرة المجتمعات العربية على ولوج نظم الحداثة والنجاح في بناء مؤسساتها في هذا التصور، ويشجعون عليه، مؤكدين صحة تحليلاتهم السابقة التي كانت تشكك في وجود نسيج أمة في البلاد العربية، وتركز أكثر على المكونات الاتنية والمذهبية والقبلية فيها. وفي هذا السياق زاد تداول الخرائط الجديدة التي تنشرها بعض الصحف الغربية لإعادة رسم حدود دول المنطقة بما يحقق التطابق أكثر بين الدولة والطائفة. ولا يبدو أن مثل هذه المشاريع تثير الكثير من الاستياء والاعتراض من أحد. وفي جحيم الحروب الدموية التي يعيش فيها المشرق، يمكن للناس القبول بكل الاقتراحات والأفكار التي تعطيهم بعض الامل بالخلاص.
العصبيات والولاءات
 أولا ، لا أعتقد أن العصبيات الطائفية والقبلية، القائمة على ولاءات ميكانيكية قوية وتلقائية، لا تزال موجودة في المجتمعات العربية، أو على الأقل على نطاق واسع ومؤثر. ولا أنها كانت تعيش تحت الأرض الوطنية واستيقظت على غفلة منا ودمرت انجازاتنا الحديثة. بالعكس أعتقد أن هذه الطوائف قد تفككت وانحلت كعصبيات، حتى لو بقيت منها بعض الروابط المحيلة إلى المخيلة أكثر منها إلى ترابط مصالح حقيقية. ولم تعد الطائفة، مهما بلغ تنظيمها الداخلي قادرة على تأمين مطالب الوجود والحياة الضرورية للفرد، وأولها المرجعية الفكرية والأخلاقية والمكانة السياسية والحماية والأمن والقانون والعمل والتعليم والتطبيب، وغيرها. بل إن كل ما بقي من مظاهر التضامن الداخلي بين أفرادها يعود إلى النجاح في تأسيس صندوق للمساعدات الانسانية، أو بسبب ارتباطها الخارجي الذي يضمن لها بعض الدعم، وفي حالات قصوى، كما هو الامر في لبنان، بسبب توظيفها بشكل سافر في استراتيجيات خارجية وتحويلها إلى أداة من أدوات الصراع على السيطرة داخل البلد الأصلي أو خارجه. لكن حتى في هذه الحالة لم يعد الأمر يتعلق بتضامن طائفي عفوي وموروث، أي بعصبية طبيعية، ولكن بعمل منظم تقوم به نخبة ليست حتى بالضرورة دينية أو ذات صفة زعامية، وبالتنسيق مع الدول الخارجية، لاحداث انقلاب داخل الطائفة على السلطات التقليدية، وانتزاع القيادة منها وفرض أجندة النخبة الانقلابية الجديدة عليها. أكبر مثال على ذلك حزب الله في لبنان، لكن ليس وحده. وهذا يعني في نظري أنه لم تعد الطائفة واحدة، وإنما أصبحت كل منها طوائف متعددة حتى حين لا تنقسم الزعامة لدينية.
 وثانيا، لا أعتقد أن وجود هذه العصبيات الطائفية واستمرارها في العمل من تحت، حتى لو تم البرهان عليه، هو الذي يفسر ما تعيشه الدولة الوطنية العربية اليوم من أزمات وما تواجهه من مصاعب، وأن إرضاء مطالبها وتطمينها على وجودها واستقرارها يمكن أن يفيد في شيء ويخرجنا من الحرب الطاحنة الخفية والعلنية التي نوشك أن نستوطن فيها. كما لا أعتقد أن هناك تناقضا او تعارضا حتميا بين استمرار التضامنات الأهلية وقيام الدولة الوطنية. وأكبر دليل على ذلك هو أن هذه الجماعات الأهلية لم تقف ضد نشوء الدولة الوطنية الحديثة عندما بدأت النخب المتعلمة الحديثة تسعى إليها، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في المشرق العربي، ولكنها شجعتها. بالرغم من أنها كانت لا تزال تتمتع بقوة ونفوذ لايمكن التشكيك بهما. وفي سورية كان لوجهاء الطوائف والقوميات الدور الأكبر في تعويم مشروع الدولة الوطنية الواحدة، وحمايتها والدفاع عنها.
والدليل الثاني الأهم هو اننا سنتعب كثيرا اليوم إذا فكرنا، كما كان يحصل منذ قرن، في جمع وجهاء الطوائف والعشائر ، من أجل ايجاد مخرج للحرب أو تسوية للنزاع. والسبب اننا لن نعرفهم ولن نجدهم، وإذا وجدنا بعض آثارهم، فسندرك بسرعة إنهم لا موقع ولا تأثير ولا نفوذ لهم وغير قادرين على الحل والربط في أي قرار. ويكفي أن ننظر إلى من يتحدث باسم الطوائف اليوم : الأسد والمالكي وأضرابهما وأعوانهما من الضباط ورجال المال والأعمال الفاسدين والأمنيين والمخبرين ، أؤلئك الذين عملوا من قبل، هم وآباؤهم وأنصارهم، على تقويض سلطة وجهاء الطوائف وتدميرها.
على العكس تماما، أعتقد ان ما نشهده من نزاعات وفوضى لا ينتج عن انبعاث العصبيات الطائفية ولا يبرهن على وجودها، ولكنه ثمرة انحلالها وتفجر نواتها وتحولها إلى ركام وأشلاء. ولأننا، في سياق الدولة الوطنية التي اقمناها، لم ننجح في لم هذه الاشلاء وإعادة تركيبها بما يحولها إلى عناصر في جسم وطني فاعل، ويمدها بذاكرة مغايرة وتاريخ جديد، أصبحنا، كما نحن الآن، ضحاياها. ما نعيشه اليوم هو ثمار الفوضى المزدوجة التي تسببنا فيها نحن، النخب الحديثة، اللاطائفية والمعادية للولاءات العصبية :الفوضى الناجمة عن تحلل الطائفة والقبيلة، وتلك النابعة من تقويض مشروع الدولة الوطنية وتفريغه من محتواه، وما تنتجه كل يوم من حروب ونزاعات تدفع إليها هذه الاشلاء المنفصلة عن حواملها والمتناثرة في كل الأرجاء، والتي لم يعد سلوكها يعتمد على أي مرشد او دليل، لا ذاك الموروث عن تقاليد وقيم القبيلة والطائفة، ولا المرشد المستمد من دليل المواطنة للحقوق والواجبات. هكذا صار كل شيء ممكن وكل شيء مباح. هذا هو أيضا موقع بشار الأسد وجماعته والمالكي وأزلامهما . هؤلاء يمكن أن يكونوا أي شيء ما عدا أن يكونوا زعماء عشائر وطوائف أو قادة وطنيين، أو رؤساء دول، يعرفون واجباتهم وحقوقهم ويلتزمون بها. إن من يراقب سلوكهم وأخلاقياتهم والأفكار والمشاريع التي تحركهم وتوجه أفعالهم يدرك تماما أنها لا تختلف عن تلك التي كانت توجه، في قرون سابقة بعيدة، الجماعات الشاردة المنفلتة من مجتمعاتها، من قراصنة وأفاقين وقطاع طرق ومغامرين وغزاة همجيين.
تجيير الطائفية
 ولأنه لم يعد هناك طوائف وعصبيات فاعلة تحمي الفرد وتساعده على تنظيم شؤونه وحل مشكلاته في المجتمع، أي لم يعد هناك ايضا وجهاء طوائف نافذين ومتحكمين بطوائفهم، صار من الممكن بسهولة تجيير الطائفية وتجييشها في كل المعارك السياسية وغير السياسية من قبل كل من يملك المال والدعم، وأفضل من ذلك من يملك الحماية الخارجية. ولأن الطوائف تحللت كتشكيلات فاعلة ومستقلة او شبه مستقلة، وولدت جيوش من الفاقدين للانتماء، زاد بما لا يقاس الطلب على الدولة والصراع من أجل النفوذ إليها والارتباط بها. وصار من المممكن أكثر، في حال انعدام قدرة الدولة على تلبية طلبات الولاء والانتماء، أي الاعتراف بعضوية الافراد، ومواطنيتهم، أي نسبهم المواطني، صار من الممكن لكل صاحب غاية أو مشروع خاص أن يشترى الكثير من الولاءات، وبسهولة، أي صار من الممكن ظهور مافيات المال والسلاح واعادة بناء القلاع والقصورالاقطاعية، وإحياء منظومات أسياد الأرض، والاسياد عموما والأقنان. وبالمثل، لأنه لم يعد هناك قاعدة ولا منظومة قيم ولا مباديء تحكم عمل هذه الشظايا والأشلاء الشاردة في الفضاء الاجتماعي، صارت الحرب من دون مرجع ولا قانون. ولم يعد العطش للانتقام أو الرد على تحدي المعارضة والمقاومة الاهلية يكتفي بأقل من تحويل المجتمعات نفسها إلى أشلاء.
والنتيجة، ليست الطائفية المكبوتة أو المتجاهلة هي التي دفعت إلى الحرب الوحشية التي يعيشها المشرق اليوم، وإنما بالعكس تماما، الحرب والصراع على السلطة، وإرادة السيطرة للدول، هي التي بعثت الطائفية وأعادت تركيبها، لكن في شكل قوى ملحقة وحليفة، مقاتلة ومندمجة في مشاريع سياسية وإقليمية، ومشاركة فيها، لا يهمها لا مذهب الطائفة ولا حياة أبنائها ولا مصيرهم. والواقع أن تراث الطوائف كلها أصبح اليوم، بما في ذلك الاسم، مخطوفا من قبل نشطاء يعملون في إطار مشاريع سياسية خاصة. ولا تعدو الطائفية السائدة اليوم سوى شعارات وجمل تستخدم لتعزيز آلة الدعاية والحرب النفسية التي تخوضها الأطراف السياسية. ولو نظرنا في الظاهرة عن قرب لاكتشفنا أن ما يسمى بالمشاريع الطائفية ليس له أي مقوم داخلي، وكلها مشاريع مرتبطة بقوى أجنبية. وهذه الطائفية المخطوفة والمجيرة لحسابات سياسية واستراتيجية محض هي التي تهدد تراث الطائفية الاجتماعي، الذي يجسده التضامن الأخوي، والاعتزاز الفطري والطبيعي عند كل فرد بانتمائه الديني او المذهبي او القومي او العائلي. وهذا من معالم الكرامة الشخصية، ولا يربطه شيء بالطائفية التي تعمل كأداة للسيطرة الداخلية أو الخارجية، والتي تضع الانتماءات الجزئية في مواجهة قيم التضامن والتعاون والتكافل الانسانية التي لا تستطيع أن تعمل وتزدهر اليوم إلا في إطار دولة وطنية مدنية يحكمها القانون الذي يساوي أيضا بين جميع أعضائها، ويضمن لهم جميعا، من الحرية والكرامة والحماية وروح التكافل والتضامن، ما حرموا منه للأبد بزوال الحاضنة الاهلية "الطبيعية.