ثورة مصر : الصراع على السيادة

2011-02-22:: التجديد العربي

ما حدث في مصر هو ثورة سياسية ستحدد مصير العرب ومنطقة الشرق الأوسط لعقود طويلة قادمة. وبسبب رهاناتها الداخلية والإقليمية والدولية الكبيرة، كانت بالضرورة معركة ضارية، استخدمت فيها كل الوسائل وتدخلت فيها العديد من القوى الداخلية والخارجية. فالأمر يتعلق أولا بتقرير مصير شعب مصر ومستقبله، أي باختيار أسلوب حكمه ووجهة سيره وأهدافه وأجنداته الداخلية والخارجية.

وفي معركة تقرير المصير هذه يقف في مواجهة شعب مصر، الذي يشكل العمود الفقري للأمة العربية، تآلف من القوى الخارجية الخائفة من استقلال القرار المصري والعربي، وعلى رأسها إسرائيل، والقوى المحلية التي تضم، إلى النخبة التي كانت تدير شؤون مصر بأكملها، قطاعات واسعة من رجال المال والأعمال الذين يشكلون طبقة من الرأسمالية الميركنتيلية التي ارتبطت مصالحها بمصالح عائلة الرئيس ونظامه، وكذلك قاعدة واسعة من القوى الزبائنية المتحكمة بمؤسسات الدولة، العسكرية والأمنية والإدارية، والمسستفيدة من موقعها وعلاقتها الوثيقة بالسلطة. كما يتعلق الأمر، في المعركة التاريخية الراهنة، بتحديد موقع مصر ودورها في منطقة الشرق الأوسط، ومن وراء ذلك هوية المنطقة نفسها، والمصالح السائدة فيها، ومستقبل تطورها ومكانتها الدولية. ومن المحتم أن عودة مصر لذاتها، واستعادة شعبها سيادته وحريته، سوف يغير من الوظيفة التي قامت بها خلال العقود الثلاثة السابقة في إطار النظام الإقليمي، فيحولها من رصيد استراتيجي للأمة العربية، وإلى قاعدة كبرى لعملية إعادة بناء المنطقة وتأهيلها لدخول عصر السيطرة الذاتية والقضاء على المشاريع والمطامع التوسعية الإسرائيلية والغربية وفتح الطريق أمام الشعوب لممارسة حقوقها الطبيعية، وجعل المنطقة أحد المراكز العالمية للتنمية الحضارية والإنسانية.

هذا هو الذي يفسر ما شهدته ساحة الثورة ولا تزال تشهده من مناورات دولية ومحلية، ومن ضمنها السعي إلى تقسيم القوى السياسية، وربما شق الجبهة الموحدة أو الالتفاف على إمكانية قيام جبهة موحدة تجمع الشباب وقوى المعارضة المصرية في خط واضح وحاسم لإحداث تغيير نوعي في النظام. فقد عمل مبارك وحلفاؤه كل ما يستطيعونه من أجل احتواء عناصر الثورة وصهر مطالبها داخل النظام وقواعده الدستورية والقانونية، بغرض تحويلها من مشروع لتغيير النظام إلى مشروع إصلاح من داخل النظام، ثم الالتفاف على مطلب الثورة الحقيقي والجوهري الذي هو إقامة نظام يستمد شرعيته من الشعب، ويكون الشعب فيه هو مصدر السلطة وصاحبها ومرجعها، وبهدف الإبقاء على الوضع القائم. وذلك هو المعنى الحقيقي لشعار التغيير مع الحفاظ على الاستقرار، أو ما يسمى في قاموس التصريحات الأميركية الرسمية التي كان يرددها المسؤولون المصريون حرفياً؛ الانتقال السلمي والآمن، أو انتقال السلطة، من دون أي تحديد لمضمون هذا الانتقال.

لكن التظاهرات المليونية التي استمرت ما يقارب ثلاثة أسابيع والتي فقد فيها الشعب مئات الشهداء حسمت الأمر. وعندما أصبح من الواضح أنه لم يعد بالإمكان تجاهل إرادة الشعب في إسقاط النظام، وأن مراوحة السلطة في ذات المكان تقود إلى تصعيد خطير في عدد المحتجين ومطالبهم معاً، تقدم الجيش الذي بقي يراقب عن قرب الصراع المحتدم بين الشعب ونظام مبارك، ليحسم الموقف، فارضى نفسه لاعباً أساسياً في الصراع.

لم يحسم الجيش الموقف لصالح الشعب، أي من أجل بناء نظام جديد يستمد شرعيته من الشعب وحده، ويلغي نظام الوصاية القائم، بل حسمه لصالحه، فصار هو الطرف الرئيسي المؤهل لإعادة بناء النظام المقبل. وبالرغم من أن النظام الجديد المنتظر قد قطع الطريق على عودة النظام السابق، وسيقوم على حساب الطبقة الميركنتيلية التي استند إليها، إلا أنه لن يكون نظاماً ديمقراطياً بسيادة شعبية خالصة ومعترف بها، أي لن يكون صاحب الكلمة الأولى والأخيرة فيه هو الشعب الذي نزل إلى الشوارع والساحات وقلَب النظام، وإنما سيكون نظاماً ديمقراطياً بسيادة متقاسمة بين الشعب والجيش تعكس هي نفسها الوضعية التي يعيشها المصريون والعرب عموماً والتي تتجسد في الفصل داخل السيادة بين وظائف مختلفة ومتباينة. ومن البداية برز هذا التقاسم للسيادة بوضوح. فالجيش الذي كان وحده القادر على إخراج الكستناء من النار بعد صراع طويل، هو الذي أمسك بزمام المبادرة وأعلن منذ الأيام الأولى تمسكه بالتزامات مصر الدولية، والمقصود اتفاقيات السلام المصرية الإسرائيلية، ومن وراء ذلك تحديد السياسات الخارجية وعلاقات مصر بمحيطها الإقليمي والدولي. وبالمقابل سيمارس الشعب سيادته في مجال تحديد السياسات الداخلية. مما يعني حقه في أن يحكم نفسه في الداخل من خلال ممثلين يختارهم بحرية. فالديمقراطية المصرية ستكون ديمقراطية مقيدة، لا يصون الجيش فيها مصالح الشعب في ممارسة حرياته إلا بمقدار ما لا تتعارض هذه الممارسة مع الحفاظ على موقع مصر وتحالفاتها الإقليمية والدولية كما تنظر إليها وتحددها نخبتها العسكرية اليوم.

وهذا يعني أننا نسير نحو نموذج شبيه بذاك الذي عرفته تركيا في فترة ما قبل قدوم "حزب العدالة والتنمية" إلى السلطة، ولا يزال قائماً جزئياً بعده، يحتفظ فيه الجيش بحق مراقبة ممارسة الشعب لسيادته والإشراف عليها، لكن لا يمنع الشعب من هذه الممارسة، أي يسمح بانتخابات حرة.

ويشكل هذا إنجازاً كبيراً من دون شك. لكنه ليس نهاية المطاف. فقد كانت الصيغة التي فرضت على مصر والعرب عموماً تقضي بحرمان الشعب من جميع حقوقه السياسية، أي انتزاع سيادته تماماً لصالح نخبة حاكمة مطلقة الصلاحية ضماناً لتحقيق أهداف الأمن الإقليمية التي يقع في مقدمها الأمن الإسرائيلي. والمطروح اليوم بعد بروز الشعب كفاعل قوي في السياسة الاعتراف بحقه في ممارسة سيادته في كل ما يتعلق بشؤون تنظيمه لحياته الداخلية على شرط أن لا يمس تلك المنطقة من السيادة التي تتصل بعلاقاته الدولية، أي اصطفاف مصر الاستراتيجي واتجاهات عملها المستقبلية.

لكن السيادة بطبيعتها لا يمكن أن تتجزأ. والتسوية التي بدت مقبولة في الأيام الأخيرة للثورة سوف تصبح بسرعة موضع صراع مستمر بين الشعب والجيش أو بالأحرى بين النخبة السياسية الجديدة التي ستطلع من صفوف الثورة وتجربتها، والنخبة العسكرية التي تربت في ظل النظام السابق. وهذا ما أكدته مسيرة الملايين التي احتشدت في ميدان التحرير يوم "جمعة النصر"، 18 فبراير الجاري.