تجديد التفكير في مسألة التكتل الاقليمي العربي في باريس

2002-03:: الاتحاد

 

 في مواجهة تحديات العولمة والرد على حاجات المشاركة الايجابية في الحياة الاقتصادية والثقافية والعلمية العالمية تحتل قضية الاندماج الاقليمي مرتبة رئيسية اليوم على جدول أعمال جميع البلدان بما فيها البلدان الصناعية.ويكفي أن نشير في هذه المناسبة الى التقدم الكبير الذي لاقته فكرة الاندماج الاقليمي في العقدين الماضيين في جميع القارات تقريبا. ففي المنطقة الامريكية نشأت مجموعة النفتا التي تضم الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. وفي أوروبا ولد الاتحاد الاوروبي بعدد محدود نسبيا في البداية من الدول ما لبث ان توسع ليضم دول القارة الاوربية جميعها ويمهد الطريق الى ادماج دول على حافة القارة مثل تركيا وربما فيما بعد بعض بلدان المغرب العربي الراغب بالتقرب من اوروبة الموحدة. وفي أسيا نشأت مجموعة الاسيان التي تضم مجموعة دول جنوب شرق اسيا. ونجد الحركة ذاتها في أمريكا اللاتينيةمع المركسور وكذلك في افريقيا ولو بصورة اقل بروزا.

ومن افق النظرة الشمولية تبدو المنطقة العربية كما لو كانت المنطقة الوحيدة التي لا تزال مفتقرة للتنظيم الداخلي أو التي ستبقى بعيدة عن تيار الاندماج والتكتل الاقليمي هذا, وذلك بالرغم من جميع المحاولات التي شهدتها هذه المنطقة ولا تزال تشهدها للخروج من الفوضى وانعدام الوزن وتكوين مجموعة متفاعلة ومتعاونة ومتضامنة. ومن المؤسف ان العالم العربي الذي بدأ محاولات الاندماج بصورة مبكرة نسبيا لم ينجح في تحقيق التقدم الذي كان ينتظر منه حتى الآن· ولا يبدو أن ظهور بوادر إرادة عربية جديدة للسير في اتجاه تكوين منطقة للتجارة الحرة على مستوى العالم العربى منذ التسعينات وتبدل المناخ الاقتصادي العربي بل وولادة ما سماه نصيف حتي سفير جامعة الدول العربية في فرنسا ثقافة سياسية جديدة تميز بصورة افضل بين المصالح الاقتصادية والخلافات السياسية وتسعى الى عزل واحدتهما عن الاخرى, أقول لا يبدو ان كل ذلك قد انعكس بشكل واصح على الارض, ولا تزال الخلافات والصراعات وروح التنافس هي التي تهيمن على مناخ العلاقات العربية العربية. كما أنه لايبدو أن مسألةالتكتل والاندماج تحتل الاهتمام الذي تستحقه عند الرأي العام العربي الرسمي منه والشعبي على حد سواء·

وحسنا فعل مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون الذي نظم، بالتعاون مع رابطة اصدقاء جامعة الدول العربية في المملكةالمتحدة, ندوة دولية عقدت يوم السبت في 9 أذار مارس 2002 في قاعة من قاعات معهد العالم العربي في  باريس· وقد طرحت الندوة على البحث والنقاش وفي جو من الحرية الكاملة والحوار الاكاديمي والموضوعي أسباب تعثر البلدان العربية في التوصل إلى صيغة للعمل المشترك وتشجيع التعاون والاندماج الاقليميين. وقد انتظم تفكير الندوة ونقاشاتها حسب محاور رئيسية اربع تعلق الاول بالرهانات الجيوسياسية وبالتالي تناول البحث دور العوامل الخارجية السلبي أو الايجابي في مسيرة التعاون العربي وتعلق الثاني بدراسة منطق العلاقات الاقتصادية ومعرفة فيمااذا كانت المصالح الاقتصادية المرتبطة برجال الاعمال او بأي فئة من الفئات الاجتماعية يمكن ان تفسر الارادة الضعيفة في السير في اتجاه التكامل الاقتصادي أو التعاون السياسي وتناول المحور الرابع مسألة التناقض المفترض في النظرية السياسية عموما والادبيات القومية الشائعة في الثقافة العربية السياسيةالسائدة بين الخيارات القومية أو الوحدوية والتكتلية والسيادة الوطنية, ومعرفة فيما اذا كان من الممكن ارجاع البطء في مسيرة الاندماج الاقليمي الى الخوف على السيادة الوطنية او من التضحية بها في اطار الصراع المحتمل بين الوطنيات المحلية القطرية والنزعة القومية العربية. اما المحور الرابع فقد تناول مسالة العلاقة المحتملة السلبية او الايجابية بين طبيعة النظام السياسي وقوة المجتمع المدني من جهة وتطور الحوافز والدوافع لتحقيق مشاريع اندماج اقليمي او بناء سياسات تكاملية.

ومن الصعب في هذا المقال تناول الاطروحات والافكار الغنية التي اسفرت عنها النقاشات خلال يوم كامل, وربما امكننا ذلك في مقالات اخرى. لكن ما لفت نظري ونظر الكثيرين من الحاضرين أمران. الاول عدد الجمهور الذي حضر الندوة مما يعبر عن راهنية الموضوع بالرغم من القضايا الاخرى الملحة التي تشغل الراي العام العربي وفي مقدمها الرد على التحدي الاسرائيلي المتجسد في سياسة تعميم المذابح واستهداف المدنيين في فلسطين, وربما كان العجز عن رد مثل هذا التحدي في شروط الانقسام الراهن هو الحافز لعودة الاهتمام بموضوع التكتل والاتحاد. والامر الثاني هو ولادة تفكير اقليمي جديد يختلف في تصوره لمسألة التكتل واسلوب عمله من أجلها عن التفكير الكلاسيكي القومي الذي اصبح واضحا انه لم يقد مسيرة الاندماج الى أي مكان بل تحول الى ذريعة للانعزالية ورفض التعاون الاقليمي والابتعاد عنه نحو التعاون فيما وراء المنطقة وفي الغالب ضد تكتلها وتفاعلها وانسجامها. وهذا يعتبر بحد ذاته خطوة الى الامام. ذلك لأنني اعتقد انه ما لم نخرج مسألة التكتل العربي من المتاهات التي وضعتها فيها الفلسفة القوميةالماضية فسوف تظل مسيرة التكامل محاصرة بالمخاوف والشكوك ولن نستطيع الخروج من مرحلة الانقسام على الذات والتقدم على طريق التعاون والاتحاد.

 

الاتحاد مارس 2002