بين الديمقراطية العربية والديمقراطية الأميركية

2004-03-03:: الاتحاد

 

مع انهيار الحركات القومية ووصول أنظمتها بالمجتمعات العربية إلى طريق مسدود لا تستطيع هي نفسها أن تنكره، تتنامى في أوساط الرأي العام، وبشكل خاص الرأي العام الشبابي، وفي أوساط الرأي العالم العالمي أيضا، نزعة عدائية تجاه البرامج والشعارات والأهداف التي استحوذت في الماضي القريب على عقول الناس وأفئدتهم لعقود طويلة. وينهال النقد بصورة عشوائية على كل البرنامج الوطني العربي الذي بلورته الحركات الشعبية منذ بدايات القرن العشرين في مواجهة الاحتلالات الغربية للأقطار العربية أولاً ثم في مواجهة علاقات التبعية والاستعمار الجديد ثانيا. حتى إن البعض أصبح نادماً على خروج الاحتلال والاستعمار، بل لقد سمعت صديقاً يردد ولو على سبيل المزاح الذي لا يخلو من الجدية إن ما نحتاج إليه هو الخلاص من الاستقلال.
والمشكلة ليست في نقد البرامج الوطنية ولكن في تطوير نزعة عدمية وسوداوية تجاه الحقب السابقة لا تفرق بين أخطاء الزعماء وتهافت الطبقات السياسية وتضحيات الشعوب. فلا ينبغي للاحباط الهائل الذي تعيش فيه الشعوب العربية اليوم أن يدفع إلى مثل هذا الموقف التعميمي العدمي. ولا يمكن لمثل هذا الموقف أن يقود إلى تصحيح الحال بقدر ما يعمل على تعميق الظلمة وانعدام الوعي. إن من واجبنا أن نعيد النظر في ماضينا من دون أدنى تردد. لكن لا ينبغي أن يكون ذلك في سبيل نفي هذا الماضي أو صبغه بالسواد. فرفض الماضي والتنكر له لا يفيدنا في فهم ما يحصل لنا ولا يساعدنا على فهم الأسباب التي تكمن وراء إخفاقنا وكيف ومن هو المسؤول عن هذا الإخفاق. أعني أنه لا يساعدنا على أن نميز بين سياسات أو اختيارات سياسية واستراتيجية خاطئة وسياسات إيجابية ينبغي بلورتها وتطويرها حتى نخرج من المأزق الذي نحن فيه. فكما أن شتم الماضي والتنكر له لا يعني نقده ولا تمحيصه ولكن بالعكس الاستمرار في العمى الذي قاد إلى الفشل والإخفاق. لا يكفي أن نجلد أنفسنا ونشتم تاريخنا ونحقّر ثقافتنا حتى نكتشف طريق التجدد والخلاص. فهل الحركة أو الحركات الوطنية العربية كانت هي المسؤولة بالفعل عن الوضع الذي نعرفه اليوم؟ وما هي هذه الحركة بالضبط؟

هل ارتكبت الحركة الشعبية خطأ في الاختيار والتفكير عندما سعت إلى الاستقلال عن الأجنبي، وهل كان من الخطأ التفكير الذي ساد خلال الخمسينيات والستينيات بالوحدة أو بالتقارب بين الدول العربية؟ وهل كان من الخطأ التفكير في تقليص الفوارق بين الطبقات وتطبيق معايير أفضل للعدالة الاجتماعية وتحرير الفلاحين وتطبيق برامج الإصلاح الزراعي وإدخال الفلاحين والعمال إلى الحياة السياسية؟ هل كان خطأ التعبئة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والوقوف إلى جانب الشعب الفلسطيني والعداء لاسرائيل؟ وهل كان من الخطأ البحث عن تحالفات استراتيجية أخرى غير تلك التي كانت معقودة مع الدول الغربية خلال حقبة الاستعمار، أو شراء الأسلحة السوفييتية وتكوين الجيوش الوطنية؟ أم أن الموقف الصحيح كان يتطلب الصلح بأي ثمن مع إسرائيل والتفاهم مع الدول الغربية والتعاون معها كما تسعى إلى فعله النظم العربية اليوم؟ وهل هذا السعي وما يعنيه من تخلّ عن الاختيارات الوطنية العربية السابقة من قبل الأنظمة الراهنة هو عمل صحيح وهو المطلوب وأن ما كان قائماً كان خطأ أم أن هناك طريقاً آخر ممكنا للتعامل مع الأوضاع الراهنة؟

هذه الأسئلة مطروحة على العرب اليوم بقوة وبراهنية والإجابة العقلانية عنها تشكل عاملاً أساسياً للخروج من حالة التخبط والفوضى الفكرية والإيديولوجية والضياع التي يعيشها الرأي العام العربي. فمن دون ذلك سوف يستمر الوضع القائم كما هو، ويستمر الجمهور العربي في رفض الماضي والحاضر معا جملة وتفصيلا. هذا الرفض سوف يظل رفضاً للواقع القائم، وهو رفض محق. لكنه لن يستطيع أن ينتقل من السلب إلى الإيجاب أي من رفض الواقع إلى بناء رؤية عقلانية وسليمة لإعادة بنائه وإصلاح أحواله.

في اعتقادي كانت للبرنامج الوطني في العالم النامي بأجمعه ثلاثة محاور عمل أساسية. الأول تأكيد الهوية العربية أو المصرية أو اللبنانية او السورية أو الجزائرية أو المغربية التي لم يكن من الممكن من دونها بناء الدولة الحديثة ولا الدخول في منطق سياسة العصر وتنظيمه المدني. والثاني حل مسألة الريف العربي ودمج الفلاحين الذين كانوا يشكلون الأغلبية من السكان، لكن الأغلبية المهمشة والمنبوذة، في الحياة الوطنية، ومن ضمنها تحقيق عدالة اجتماعية أفضل. والثالث هو التحديث الإداري والتصنيع الاقتصادي الكفيل بتقديم فرص عمل للشباب ودمج البلدان العربية في دورة النمو الصناعي والاقتصادي العالمي.

وفي العالم العربي ولأسباب خاصة يمكن أن نضيف إلى هذا البرنامج محورين آخرين: الأول هو مواجهة واقع الاستعمار الإسرائيلي الذي جاء ليصادر في فلسطين على نتائج حركة التحرر من الاستعمار ويفرض وقائع جديدة استيطانية وجيواستراتيجية كبيرة التأثير. والثاني هو مسألة ترتيب العلاقات بين الأقطار العربية وإدارة الإرث الثقافي والتاريخي والعاطفي المشترك سواء أخذ هذا الترتيب صورة التكتل في إطار الجامعة العربية أو الطموح الأكثر جذرية لبناء دولة عربية واحدة أو اتحاد عربي. ومما زاد من قوة الدفع نحو تشكيل تكتل عربي وفي وقت لاحق تصاعد قوة الدولة الإسرائيلية وحاجات الرد على تحديات حركة الاستيطان الزاحف والتحالف الذي انعقد بين مشروع الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين ومشروعات السيطرة على النفط من قبل القوى الكبرى ونزوعها إلى الابقاء على العالم العربي في دائرة النفوذ والتبعية للغرب وتكريس علاقات الاستعمار الجديد في المنطقة بهدف التحكم الطويل المدى بمصادر الطاقة النفطية.

ليس الخطأ في البرنامج الوطني العربي ولا في محاوره المختلفة التي صاغتها في الواقع حركة الجماهير العربية نفسها خلال عقود طويلة من اختبار السلطة الاستعمارية والصراع معها. إن الخطأ هو في خداع النخب العربية التي خانت هذا البرنامج الوطني وفضلت خدمة مصالحها وخلق نظم زبائنية بدل خدمة المجتمعات. إن الخطأ نبع من مصادرة هذه النخب والنظم التي أسستها لهذا البرنامج ومن ورائه لمصير المجتمعات ومصالحها.

وما نشهده اليوم ليس دليلاً على إفلاس البرنامج الوطني ولا خطئه أو لا معقوليته وعدم اتساقه ولكن إفلاس النخب العربية الحاكمة ولا عقلانيتها السياسية وتناقضاتها وبؤسها الفكري والسياسي والأخلاقي. إن الخطأ لا يكمن في التأكيد على حقوق الشعوب العربية في الاستقلال والسيادة ورفض الاستيطان وسلب الأرض وفي توزيع أفضل للثروة المادية والرمزية، سواء أجاء ذلك باسم الاشتراكية أو العدالة الاجتماعية، ولا في بناء هوية أو في تعزيز الانتماء إلى دائرة ثقافية وسياسية عربية تستدعي التضامن والتكافل بين الشعوب العربية، ولا في السعي نحو التنمية والتصنيع، وإنما يكمن الخطأ في خيانة ذلك كله وعدم تحقيقه والتنكر له والتضحية به واستخدامه كشعارات تضفي الشرعية على سيطرة نخب لا تفكر إلا في خدمة مصالحها الشخصية والخاصة.

وليس المطلوب تصفية هذا الإرث والتنكر للبرناج الوطني الذي ضحى ملايين العرب منذ قرنين من أجله، ولكن محاسبة ومحاكمة المسؤولين عن إخفاتق العمل به من مفكرين ومثقفين وسياسيين وصناعيين تنكروا لالتزاماتهم واستهتروا بمصالح شعوبهم.

ولا تعني الديمقراطية اليوم أن نتخلى عن اختياراتنا الوطنية في فلسطين وفي مسائل الهوية العربية والتنمية والتصنيع والتكتل والاتحاد، وإنما بالعكس تبني هذا البرنامج الذي سقطت النخب البيروقراطية المدنية والعسكرية السابقة في امتحان تحقيقه. ولن يكون للديمقراطية مستقبل من دون تبني هذا البرنامج نفسه والنجاح في وضعه موضع التطبيق. إن الديمقراطية ليست سوى الإطار السياسي الذي يمكن العرب من تحقيق هذا البرنامج لا نقيضاً له. ولن يكون بإمكان العرب تحقيق برنامج التحرر والارتقاء بمستوى حياة السكان المادية والأخلاقية والاندماج في المسيرة الحضارية العالمية من دون استكمال برنامج التحرر الوطني هذا بما يشمله من وضع حد للتسلط الاسرائيلي وحركة الاستيطان وتجاوز التفتت والتشرذم السياسي العربي الذي يعيق انتشار الإبداعات وتنقل المبدعين والمنتجين وعناصر التقدم في المنطقة ويقسم الأسواق والشعوب ويزرع التوترات والانقسامات والنزاعات بين الأقطار العربية. وليس ممكناً أيضاً من دون العمل على تسريع وتائر النمو الاقتصادي والتكافل والتضامن الاجتماعي والعدل. إن الذين يرون الديمقراطية بديلاً للحركة الوطنية ونقيضاً لها هم الليبراليون اليمينيون أو الرأسماليون وحدهم. وهذا هو مشروع الديمقراطية الأميركية المقترح للعالم العربي. ولسان حالهم يقول: أعطونا الاستقلال والنفط وفلسطين ونعطيكم الحريات الفردية.

إذا سيطرت على ذهن الأجيال الجديدة فكرة أن كل ما فكر به وعاش وضحى من أجله جيل الآباء كان خطأً ولا معنى له، وأن البحث عن العدالة في فلسطين والتكتل في إطار العالم العربي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية وتعزيز الهوية والاستقلال الثقافي والسياسي، ليس سوى وهم وعبث لا أمل فيه ومن الأسلم عدم التفكير فيه والتفرغ فقط للدفاع عن الحريات الفردية والحقوق الإنسانية والسعادة اليومية والاندماج في الثورة الاليكترونية والمعلوماتية، فستكون الولايات المتحدة ومعها بيرل ورامسفيلد وبوش هم الرابحون ويكون المستقبل في المنطقة للديمقراطية الأميركية بالفعل، أي للأميركيين يحكمون ويتحكمون ويحلون محل النخب القديمة المنهارة. ولن يكون هناك عرب ولا من باب أولى ديمقراطية عربية ولكن مناطق مفتوحة يعبث بها خبراء السلاح والمال والشعوذة الإعلاماتية العربية والغربية.