بعد عام على أحداث 11 ايلول التوقعات والنتائج

2002-09:: الاتحاد


بالرغم من مرور عام كامل على أحداث ايلول 2001 وألابحاث والمقالات التي لا تحصى التي كتبت عنها لا نكاد نعرف بعد بالتأكيد شيئا كثيرا عن الظروف التي أحاطت بحصولها, لا في الولايات المتحدة ولا في بقية بلدان العالم كما لا يزال المحللون الدوليون يختلفون كثيرا في تفسيرها وتحديد مغزاها وكذلك في تحديد الآثار الناجمة عنها الآن وفي المستقبل. بل إن هناك من يعتقد, بالرغم من كل ما تمارسه الإدارة الأمريكية الراهنة بأن الولايات المتحدة تقود نفسها شيئا فشيئا ورغم المظاهر إلى مأزق كبير إن لم تكن قد وضعت نفسها فعلا في حربها العالمية ضد الارهاب في ورطة لن تستطيع أن تخرج منها بسهولة.
ومما يزيد من صعوبة الحديث عن تفاعلات ما بعد ايلول الأمريكية والعربية والدولية وعن نتائجها النهائية أن الحرب التي شكلت هذه الأحداث ذريعتها الرئيسية بالنسبة لبعض أو أشعلت فتيلها بالنسبة للبعض الآخر لا تزال مستمرة. مما يعني أن الحديث فيها وفي نتائجها لا يمكن بأي حال أن يكون موضوعيا في الوقت الراهن وطالما بقيت الحقبة التي نعيش رهينة هذه الاحداث بشكل أو آخر. فأي حديث في الموضوع لا يمكن ان يتجاهل الرهانات السياسية والاستراتيجية التي يمكن ان ينطوي عليها أي تحليل. وما دام الصراع قائما وما دمنا لا نزال في لجة الاحداث فكلامنا لا يمكن ان يكون برئيا ولا بد له من أن يعكس مواقفنا ونوايانا. هذا هو الذي يفسر الاختلاف العميق في تحليل احداث ايلول وتقدير نتائجها بين الباحثين والمحللين بين من يعتبر ان الحادي عشر من سبتمبر 2001 لم يغير شيئا من المنهج الذي كان يسيطر على السياسة الأمريكية واتجاهات التطور العالمية من جهة ومن يعتقد أن هذا اليوم يشكل قطيعة كاملة مع ما سبقه وان امرا لا يمكن ان يفهم منذ ذلك اليوم, في أي ميدان من ميادين الحياة الوطنية والدولية من دون العودة الى هذا الحدث ومضامينه التاريخية العديدة والعميقة.
أما أهم التحولات التي يرجعها المحللون الأولون إلى أحداث سبتمبر فهي تتركز حول خمسة محاور. المحور الأول يتعلق بدور الدولة ومكانتها في النظام الاجتماعي. فقد كان الاعتقاد السائد قبل الأحداث تحت تأثير الافكار النيوليبرالية أن عصر الدولة التي تتدخل في الشؤون الاجتماعية والثقافية قد انتهى الى غير رجعة وأن فاعلين جددا اكثر تأهيلا للتعامل مع الثورة التنقية العلمية سيحلون محلها, والمقصود هو المنظمات غير الحكومية والشركات الخاصة الدولية والمجتمع المدني المتحرر من سيطرة التيارات والصراعات السياسية والحركات الاجتماعية والفرديات المتنامية الحرة الخ. والحال ان احداث سبتمبر قد اعادت عقارب الساعة الى الوراء واكتشفت المجتمعات من جديد الدور الحاسم لتدخل الدولة في الشؤون العامة والخاصة سواء أكان ذلك من أجل حماية الافراد والممتلكات, أي في المجال الأمني, أو من أجل التدقيق في نشاطات الشركات والمنظمات والحركات الاجتماعية في سياق ما سمي بالحرب ضد الارهاب.
وفي هذا الاطار ينبغي وضع ردود الدول التي تركزت على تشديد الاجراءات الامنية في كل مكان على حساب الحريات المدنية والسياسية وفيه ينبغي فهم التجاوزات القانونية في الكثير من البلدان بما فيهم الولايات المتحدة الامريكية تجاه الافراد والتضييق الحاصل على الحريات بما في ذلك بالنسبة للأحزاب والجمعيات والمؤسسات الاهلية. وقد جرى بالفعل توسيع صلاحيات الدول والقبول العام بممارسات لم تكن مقبولة من قبل في أي دولة ديمقراطية مثل التنصت على المكالمات الهاتفية ومراقبة البريد الاليكتروني والاعتداء على السكان الاجانب والمهاجرين واحيانا اخضاعهم لاجراءات امنية مشددة واصبح بامكان بعض الحكومات ان تحظر نشاطات ما تشاء من المنظمات والاحزاب لمجرد الاشتباه بعلاقتها بالعنف كلاما كان او عملا. وزاد التعاون الامني والمخابراتي بين الدول. وبشكل عام يمكن ان نقول كما لاحظ ذلك الفن توفلر ان هناك عودة قوية للدولة مشحونة بالعنف والثأر, وأن الديمقراطية اصبحت تتعرض بشكل اكبر لتهديدات من قبل النظم الحاكمة باسم حماية هذه الديمقراطية ذاتها. وفي جميع أنحاء العالم يبدو ان مشكلة الأمن هي التي اصبحت البند الأول في جدول اعمال الدول ولمنطقها ينبغي ان تخضع كل الاهداف الاخرى. وهو ما يسمى بالعسكرة المتزايدة للعالم.
والمحور الثاني من التحولات يتعلق بالنكسة الكبيرة التي تعرض لها الاقتصاد العالمي, وبشكل خاص قطاع التقنية الذي اعتمد عليه النم; الاقتصادي في السنوات الأخيرة بدرجة رئيسية. فقد تباطأ النمو في جميع مناطق العالم وانهارت أسواق الاسهم وانكمشت الاستثمارات في القطاعات الحيوية وتأخر نمو شبكات المعلوماتية الحديثة والتجارة العالمية عبر الانترنيت سنوات عديدة.
والمحور الثالث من التحولات يتعلق بالطفرات القوية التي حصلت في حقل العلاقات الدولية والتي جعلت من كلمة امبرطورية الاسم الجديد للولايات المتحدة. ولا يتردد البعض في الحديث عن نظام عالمي جديد امبرطوري تلعب فيه الولايات المتحدة دور القائد والمنظم والمرتب الذي لا يتورع عن التدخل في كل صغيرة وكبيرة في العالم كما لو كان العالم قد تحول بالفعل الى قرية صغيرة محكومة من قبل حكومة مركزية شديدة عاصمتها واشنطن. فللعالم جدول اعمال واحد تصوغه الولايات المتحدة وما على الاخرين الا التكيف معه.
والمحور الرابع من التحولات يتعلق بما طرأ في ميدان الثقافة والهوية والتعامل بين الشخصيات الحضارية. فقد فجرت احداث ايلول والحرب العولمية التي عممتها الولايات المتحدة للرد عليها حربا حضارية حقيقية بين الغرب والمجتمعات الاسلامية.
وبالعكس, تلاقي هذه الافتراضات معارضة قوية من قبل أصحاب الموقف التحليلي الذي يقلل من القيمة التاريخية لأحداث سبتمبر. فهم يميلون إلى الاعتقاد بان هذه الافتراضات غير مبنية على وقائع كافية وأن المبالغة الكبيرة في تقدير قيمة الحدث واعتباره منطلقا لتأسيس نظام جديد من العلاقات الدولية لا يخدم في الواقع الا السياسة الامريكية التي تريد ان تستخدمه لتشيع صورتها كقوة لا تقهر سائرة لا محالة نحو السيطرة العالمية المطلقة ولتفرض بذلك جدول اعمالها على العالم وتضفي انطلاقا من حدث سبتمبر مشروعية استراتيجية وأخلاقية على حربها الحقيقية العالمية من أجل السيطرة والتنافس على الموارد العالمية. وبهذا المعنى يساعد تحويل الحادي عشر من سبتمبر الى حدث تاريخي على السقوط في شرك الدعاية الامريكية التي تريد أن تجعل من هذه الاحداث مبررا للاستمرار في سياسات التدخل بالقوة التي بدات بتطبيقها على نطاق واسع منذ ذلك الوقت.
واذا كان من الصحيح ان الولايات المتحدة تسعى الى استغلال شرعية التدخل التي اعطتها لها المجموعة الدولية مؤقتا تأثرا بأحداث ايلول من اجل مد نفوذها وبسط سيطرتها على العالم كما لم تفعل من قبل فمن الصحيح ايضا ان تحولا عميقا طرأ على طبيعة العلاقات الدولية بعد ايلول ولا يمكن لمحلل السياسة الدولية ان لا يأخذه بالاعتبار من دون ان يحرم نفسه من فهم الكثير مما يجري في الساحة الدولية اليوم وما سوف يجري في المستقبل.
ليس من الضروري ان يكون التغيير النتيجة المباشرة للحدث. فالتاريخ ليس ثمرة احداث متقطعة حتى لو كانت كبيرة. ان الاحداث الكبرى قد تؤثر على التاريخ بكشفها عن التيارات الكامنة فيها ومساعدتها على البروز او في تسريع مجرى تيارات معينة ومضاعفة قوتها. وفيما يتعلق بموضوعنا يمكن القول ان احداث الحادي عشر من سبتمبر لم تدفع الى قطيعة في التاريخ الجاري ولم تنشيء تيارات وتحدث توجهات لم تكن موجودة من قبل بقدر ما أتاحت لاتجاهات قائمة وموجودة من التوسع والظهور بصورة لم يكن من الممكن ان تطهر فيها بالقوة ذاتها من دونها. وفي اعتقادي ان هذه الاحداث قد ابرزت حقيقتين مترابطتين. الاولى هي ان هذه الاحداث قد اتاحت للولايات المتحدة اعادة بناء نظام القطبية الاحادية او محاولة بنائه على اسس من السيطرة الشاملة التي لم يعرفها العالم من قبل. ولا ينكر احد اليوم ان الولايات المتحدة قد اصحبت صاحبة الكلمة الوحيدة في الشؤون الدولية وليس الاولى او الرئيسية كما كان عليه الحال قبل احداث الحادي غشر من سبتمبر. لكن في الوقت نفسه, وهذه هي الحقيقة الثانية, ان إعادة بناء هذا النظام على اسس من السيطرة الشاملة قد تمت في الوقت نفسه الذي تلقت فيها الولايات المتحدة الامريكية ضربة استراتيجية استثنائية أكدت للعالم أجمع أن مركز الامبرطورية, بالرغم من كل الاحتياطات الامنية ومنظومات الاسلحة النوعية التي يملكها وسيطرته العالمية المادية والمعنوية ليس في مأمن من التهديدات الخطيرة. أي أن الولايات المتحدة ليست دولة استثنائية وانها معرضة ايضا, مثلها مثل جميع الدول الأخرى, لمخاطر حقيقية وأن أمنها يستند أيضا بالرغم من قوتها الخارقة على معطيات خارجية, وأنها بالتالي, بالرغم من قوتها الخارقة دولة عادية طبيعية•
لايقلل هذا الوضع بالتأكيد من تفوق الولايات المتحدة الاستراتيجي ولا من سطوتها ولا يهدد باي شكل قيادتها الفعلية للعالم ولكنه يضع نظام القطب الواحد في ازمة حقيقية في الوقت ذاته الذي يبلغ به أقصى حدود قوته وذروة انجازه.
وترجمة هذا الوضع هي أنه لن يكون لدى الولايات المتحدة منذ الان هم اخر سوى الحفاظ على هذا التوزيع الراهن للقوة العالمية في مواجهة مقاومات تتصاعد من كل نوع وفي كل مكان من أجل وضع حد للسيطرة الامريكية وتهديد الاسس المادية والمعنوية التي تقوم عليها. وإذا اردنا ان نجاري فوكوياما في اسلوب صياغته للمسألة العالمية سنقول ان ما ينفتح امامنا اليوم ليس نهاية التاريخ و زوال الصراع التناقضي ولكن انتقال الصراع الى داخل الامبرطورية ذاتها. فكما ان السياسات الامريكية ستتمحور منذ الان على تأمين شروط اعادة انتاج السيطرة وضمانها فإن كل الاطراف العالمية الاخرى من امم وجماعات وثقافات مخضعة او مقهورة لن يكون لها هم سوى مواجهة السيطرة القائمة وتحديها ومحاولة الخلاص منها.
بيد أن القول ان احداث ايلول في الوقت الذي توصل فيه نظام القطبية الاحادية الى ذروة القوة تفجر أزمته العميقة الكامنة لا يعني اطلاقا ان هذا النظام زال أو هو في طريقه للزوال السريع او التلقائي. إنه يعني ان هناك وضعا جيوستراتيجيا جديدا وأن هذا الوضع يفرض على جميع القوى الدولية اعادة نظر فعلية في سياساتها في سبيل ضمان الحد الادنى من السيادة المحلية أو بالاحرى حرية القرار ومن الأمن الوطني والاستقرار والسلام الاهلي ايضا الان وفي المستقبل, أي ان نمط السيطره الدولية الراهنة لم يعد يطمئن احدا في العالم. وهذا ما يدفع الى نشوء اقتناع متزايد في العالم بأن ما سوف تواجهه المجتمعات في المستقبل هو انواع جديدة من التهديدات مختلفة كثيرا عن تلك التي عرفتها البشرية في العقود الماضية وأن هذه التهديدات ليست مرتبطة بالدول بصورة مباشرة, بل لم تعد الدول هي المصدر الوحيد, بل ربما الرئيسي لها في المستقبل.
والمفارقة بالنسبة للولايات المتحدة انها في الوقت الذي تضطر الى الاعتراف فيه بأنها لم تعد في مأمن من التهديدات الخارجية تسعى الى ان تفرض على العالم, كما لو كان ذلك على سبيل المغالبة التاريخية, أكثر من أي حقبة مضت مفهوم الأمن القومي بمعزل عن الامن الجماعي وتعود في الوقت نفسه بمفهوم الامن هذا الى طابعه العسكري المحض. مما يعني تراجعا كبيرا عن التطور الكبير الذي شهده حقل العلاقات الدولية المعاصر في العقود الماضية الذي بدأ يركز على مفهوم الامن الجماعي ومن منظور ميتاعسكري. والولايات المتحدة تنزع اليوم الى السلوك كما لو كانت قادرة وحدها على قيادة العالم وترتيب الاوضاع الدولية جميعا في الوقت الذي يظهر فيه اكثر فأكثر أنه لم يعد من الممكن انطلاقا من المعطيات الجيوستراتيجية والتقنية الجديدة لأي دولة, حتى لو كانت بوزن الولايات المتحدة, ان تتصرف كما لو كانت صاحبة سيادة مطلقة وأبدية لا يطالها أي تهديد وتسطيع بالتالي أن تتابع اهدافها في العالم بحرية مطلقة ومن دون خوف وأن تفرض إرادتها التي تضمن لها أقصى المصالح من دون أن تخشى أي عقاب، بل أي رد.

هكذا نستطيع ان نقول ان أحداث ايلول لم تبدع وضعا عالميا جديدا ولكنها سارت بنظام القطبية الاحادية الذي ولد من حرب الخليج نحو تحقيق نموذجه المتكامل والناجز وفتحت في الوقت نفسه وللسبب ذاته ازمة هذا النظام وابرزت كما لم يكن من الممكن من قبل هشاشته, أي تناقض الاسس التي تقوم عليها السيطرة الامريكية الاحادية المطلقة وعدم اتساق النظام العالمي الذي تقود اليه. فلم تكن ولن تكون العلاقات الدولية اكثر قلقا واضطرابا وأكثر تقلبا وسيولة ومفاجات في أي حقبة مما ستكون عليه في الحقبة التي نعيش.