الموت السياسي أو في أصل العطالة التاريخية في البلاد العربية

2005-09-14:: الاتحاد

 هناك استحقاقات تاريخية تفرض نفسها على البشر والمجتمعات. ومهما حاول المرء تجاهلها لا بد أن تعود مرارا وتكرارا لتذكر بنفسها. ولا يمكن أن يؤدي تجاهلها إلا إلى المزيد من إلحاحها وتفاقم سوء العواقب التي يصعب في ما بعد التحكم بها او مواجهتها. وكما أن الورقة التي تسقط من الشجرة يصعب إعادة الحياة إليها فإن الجسد الذي يفقد الحياة يتحول إلى جثة. وإذا لم يقم باللازم لدفن الجثة في وقته وإهالة التراب عليها فلن يكون مصيرها، مهما استخدم الحالمون من عقاقير الطب والتعاويذ والأساليب السحرية، سوى المزيد من التفسخ والانحلال.

وهذا هو بالضبط وضع النظام الذي أفرزه إخفاق التجارب الشمولية القومية أو الاشتراكية وأسفر عنه انحطاطها والذي يتخذ أشكالا وصيغا متنوعة حسب الظروف التي آلت إليها السلطة في البلدان المختلفة بما فيها البلدان العربية. فقد تحول هذا النظام إلى جثة هامدة منذ وفاة مؤسسيه الحقيقيين وكهنته. كل إنسان يشم رائحة تفسخ هذا النظام وانحلاله، باستثناء تلك الديدان التي تنهش من الجثة المتفسخة وتعمل على تفسيخها وتحللها بشكل أكبر. فهي ليست عديمة الحس فحسب ولكن التفسخ والتحلل هو وليمتها ومصدر سعادتها. إذ من دون ذلك لن يكون لها وجود ولا حياة.
والواقع أن النظم العقائدية التي كانت تعتمد على الحزب الواحد أو الرب الواحد الذي يسير عبيده ويقودهم إلى جناته الروحية والتي تعتمد على التعبئة الحماسية، الحقيقية والمصطنعة معا، تفقد كل مقومات وجودها ومؤهلاتها الانسانية منذ اللحظة التي تتفتت فيها عقيدتها أو تذبل وتموت. فهي تتحول عندئذ إلى نظم تسلطية من دون أي غلالة سحرية. ويتخذ الحكم فيها أكثر فأكثر طابع السطو المسلح على حياة الناس وأرزاقهم ومصائرهم. وكانت عقيدة النظام الشمولي الفعلية، في كل مكان وبصرف النظر عن اختلاف الثقافات والأديان، وجود الرئيس-الرب نفسه وتجليه في الحياة العمومية والخصوصية. فلم يكن هو مؤسس النظام ومحركه فحسب ولكنه كان روحه وإلهامه في الوقت ذاته. وفي جميع هذه النظم، العربية وغير العربية، كانت وفاة الزعيم الرب بمثابة خروج الروح من الجسد.
وليس المقصود بالنظام السلطة القائمة أو القائمين عليها، ولا بالديدان تلك الذئاب الكاسرة التي تغرس أنيابها وكانت تغرسها من قبل في قلب الحي لتنتزع منه الحياة وتستملكها، ولكن جميع أولئك الذين كيفوا أنفسهم مع الموت وأتقنوا تجارته. وهم غالبية كبرى من الناس الذين قطعوا الأمل بحياة مدنية طبيعية وقبلوا، كل حسب ظروفه وإمكانياته، بالعمل والحياة خارج أي أطر قانونية وتأقلموا مع مبدأ اقتناص الفرص والمكاسب الخاصة والاستثنائية والاكتفاء بما يتوفر لهم من المصالح والمنافع الصغيرة اليومية.
فالفرد الذي لا يتردد في استخدام الرشوة أو التملق والانتهازية في سبيل الحصول على منافع وامتيازات خاصة وتجنب المنافسة الطبيعية، والطالب الذي يقبل الغش في الامتحانات أو يستخدم الممالأة لأحزاب السلطة أو ميليشياتها في سبيل التقدم على أقرانه في مسابقات القبول والمنح والمساعدات الدراسية، والشرطي الذي يستسلم لإغراء الرشوة بذريعة الحاجة أو الضرورات الحياتية، والمقاول الذي يسعى إلى جني الأرباح السريعة عن طريق الفساد وإفساد المسؤولين وانتزاع المناقصات بالوسائل غير الشرعية، والعسكري الذي يحارب في شعبه ويستخدم الأملاك العامة في سبيل تحقيق مآربه الشخصية ومآرب أقربائه وأصحابه ومواليه، والرسمي الذي يملأ دائرته بأبناء عشيرته أو ديرته، والمتشدد الديني الذي يقهر الناس على اتباع قيادته، والتاجر الذي يعتقد أن تأمين تجارته ضد الخسارة والبوار يبيح له التخلي عن جميع الالتزامات المدنية والسياسية، كل هؤلاء وغيرهم كثير يعتقدون، بطريقة أو أخرى، أنهم مستفيدون استفادة غير قانونية وليس عليهم أن يغامروا بشيء من اجل تعديل النظام، بل إن تعديل النظام يقلل من مكاسبهم المكرسة المعنوية أو المادية. وكلهم يشكلون قوة عطالة حقيقية تسمح للنظام الجثة بأن يستمر بالرغم من الرائحة الكريهة التي تخرش الأنوف. فكل واحد من هؤلاء يجعل من منفعته الخاصة الاستثنائية كمامته الحقيقية التي تمنعه من شم رائحة الجثة المتعفنه وتمكنه من التعايش معها.
إن أصل البقاء للجثة هو هذا الوهم المشترك الذي يجمع بين الجميع والذي نجح النظام أو مؤسسيه في تعميمه وهو أن أحدا لا يملك حقا في شيء وأن كل ما يملكه الفرد فهو بفضل خروجه على القانون ومعاملته المتميزة لنفسه أو من قبل الآخرين وهربه بشيء ما في غفلة عن الآخرين أو بتجاوز للقانون.
وقد نجح النظام في البقاء بتعميمه هذا الشعور بأنه ليس هناك مفهوم لحق ولا مفهوم لواجب ولا قانون. المجتمع غابة، وكل شيء يحصل عليه الفرد فهو ينتزعه بذراعه وحنكته وخبثه وفهلويته. لا شيء يكتسب بالحق والقانون والجدارة. كل شيء يكتسب بطرق لا شرعية ولا قانونية . هذا هو نظام الرشوة المعممة أو تعميم نظام الرشوة كأساس للعلاقة الاجتماعية.
من هنا لم يعد هناك مجال لا للفضاء العمومي ولا للشأن العام ولا للمصلحة العامة ولا للسياسة باعتبارها الاهتمام بالشأن العام والعمومي وإدارته وتنظيمه. الكل يبحث عن مصلحته الشخصية والكل يجتهد في الكشف عن الطرق غير الشرعية وغير القانونية التي تمكنه من انتزاع مكاسب أكثر من غيره أو أكثر مما يمكن أن يتاح لغيره منها. وكلما كانت المكاسب الناجمة عن تجاوز القانون أعظم، أي كلما كانت الرشوة والغش والاحتيال أهم، كانت سعادة الفرد أكثر.
كل شيء مكسب، والمكسب هو ما نأخذه من دون أن ندفع لقاءه أي ثمن أو جهد. نحن نبحث عن المكاسب المجانية ومجتمعنا هو مجتمع المكاسب والكسب غير المشروع، حتى لو أن الجهد الذي يبذله الأفراد لتامين ما يقوم بأودهم ويحفظ بقاءهم بطريق الغش هو أكثر بكثير مما يبذله أي فرد لتحقيق الهدف ذاته في أي مجتمع قانوني آخر.
كل واحد يعتقد ان غياب القانون، بل غياب الدولة بما تفرضه من وجود قانون واحد ناظم للعلاقات الاجتماعية ومحدد لحقوق ثابتة وواجبات ضرورية مقابلة، وهو أساس نشوء رابطة سياسية وإرادة جمعية، يضمن له مكاسب لا يضمنها تطبيقه وأن تحلل الدولة لصالح العلاقات الشخصية والمحسوبية يحقق له من المنافع ما لا يمكن أن تضمنه أي مؤسسة رسمية تسيرها علاقات موضوعية وعقلانية لا شخصية. لذلك ليس من المبالغة القول أن هناك مؤامرة جماعية ضد الدولة القانونية والمؤسساتية يشارك فيها جميع الأفراد بدءا من الطالب الذي يغش في امتحاناته الدراسية أو يقفز، كما هو الحال في بعض البلدان، بالمظلة ليضاعف حظه في اختيار الفروع العلمية وانتهاءا برئيس الدولة الذي يجعل من زيادة الرواتب الطبيعية مكرمة شخصية، مرورا بصاحب المعاملة الذي يبحث عن موظف يعرفه في أي دائرة حتى يضمن لنفسه معاملة تفضيلية وبالمستهلك الذي يتحايل على الدور ليوفر على نفسه الجهد والانتظار على حساب المستهلكين الآخرين المضطرين إلى الانتظار اكثر وهم الأعجز والأضعف.
وكل ذلك يشكل الأساس في نشوء وتطور مجتمع الهمجية والبربرية الذي لا يقوم على قانون ولا عرف ولا مباديء ولا أخلاق إنسانية وإنما يستمد روحه من القوة المجردة، المادية والمعنوية، أي من الهمجية في التعامل وانعدام الإحساس والاستهتار بجميع المصالح الغيرية الفردية والجمعية.
هذا يفسر أيضا العطالة التي تتميز بها الحياة السياسية والصعوبة التي يجدها الناشطون السياسيون في الوصول إلى قطاعات الجمهور المختلفة وايقاظها واستنهاضها وتحريكها لخلق حالة جديدة تسمح بالتفكير بدفن الجثة وإتمام مراسم الدفن والتعزية وبالتالي قطع الصلة بها وبدء حياة جديدة للأحياء. هكذا لاتزال المجتمعات العربية معلقة بأذيال الجثة الممددة للنظم الشمولية وغير قادرة على التحرر من رهاب الموت وعصابه. كأنها سكنت بالموت وأصبحت جزءا منه. وعندما تحاول الطغم الحاكمة أعادة الحياة إلى الجسد الكسيح فكأنما تعيد الحياة لعالم اشباح بالمعنى الحقيقي للكلمة لا علاقة له بعالم الواقع ولا بالحياة. ولا يتجسم الموت في المؤسسات المحنطة والمفتقرة لأي قوام ولكن أيضا في الشخصيات "التاريخية" ذاتها التي تريد أن تعيد إنتاجها من جديد على منوال الماضي فتبدو وكأنها منتزعة من القبر ومنبعثة من حياة قديمة لم يعد لها وجود.

إن مقومات نظام الموت السياسي الراهن أربع: القبول بالعيش على مستوى الحفاظ على البقاء من دون مطالب أخلاقية، الأنانية المرفوعة إلى مرتبة مباديء كونية، والبحث على المنافع المجانية على حساب قيمة العمل والجهد الجدي وأخيرا ربط السعادة بالحصول على ميزة على الآخرين، أي ميزة، حتى لو كانت رمزية فالمهم هو الهرب من قانون المساواة وقاعدة الندية. وهكذا يكون البحث عن السلامة جوهر الأخلاق والحصول على المكاسب بالطرق الملتوية بديلا للتأهيل الفردي والجمعي والخروج على قاعدة المساواة مصدر السعادة والراحة والترفع على احترام القانون أساس الرجولة والأهلية.
لا يستمر الوضع القائم ويمدد حياته وهو جثة هامدة إلا بقدر ما ينجح النظام في قتل كل ما هو وعي بالشأن العمومي وتضامن مجتمعي وإنساني، أي بقدر ما يشارك كل فرد، بإرادته الخاصة أو رغما عنه، في تهديم الحياة الأخلاقية وتأكيد الأنانية وتعميم الرشوة المادية والمعنوية والاستئثار بشارات التميز والترفع على مباديء المساواة القانونية والأخلاقية والمعاملة بالمثل.
ومن هنا ليس المسؤول عن بقاء النظام الفئات الحاكمة وحدها ولا ضعف المعارضة أو عجزها ولا تدخل الدول الأجنبية. ولا يمكن للفئة الحاكمة ولا للمعارضة ولا للدول الكبرى أن تغير من سلوكها وتراجع نفسها ما دام أفراد المجتمع، كبيرهم وصغيرهم، لم يقرروا بعد الارتفاع إلى مستوى الحياة الأخلاقية والانخراط، كل على حسب طاقته وإمكانياته، داخل الدوائر الرسمية وخارجها، في معركة التحرر من عقيدة الموت وطقوسه وتقاليده، أعني من إرث نظام موت المجتمع والسياسة والقانون والأخلاق معا.