القيادة الامريكية للعالم أو نحو إمبرطورية الشر والفوضى

2002-07:: الجزيرة نت

لا يشك أحد في أن السيطرة العالمية التي تمارسها أمريكا هي الناظم الرئيسي اليوم للعالم. فهي التي تنتج العقيدة أو الرؤية الموحدة له، وهذه الرؤية هي اليوم بامتياز النيوليبرالية، وهي التي تؤسس لعلاقات التراتب بين الكتل والأمم والدول والشعوب والقوميات. ومن دون الولايات المتحدة ونفوذها وسيطرتها ما كان من الممكن للعالم أن يتفاعل ولا يتفاهم ولا يتواصل. فالولايات المتحدة تقوم من خلال سيطرتها اليوم بدور القائد الفعلي للعالم، تحدد له أولوياته وتقوم بترتيب مواقع كل طرف فاعل فيه وتحديد مسؤوليات الجميع. ومن هذه الناحية تشكل السيطرة الأمريكية أساس القيادة الراهنة للعالم.

ولا يشك أحد كذلك في أن العالم بحاجة فعلية للولايات المتحدة ولدورها القائد. ذلك أن من المستحيل للعالم أن يحدد لنفسه جدول أعمال تاريخي من دونها أو بمعزل عنها. فهي أحد أكبر بؤر حركة التاريخ وتطور شروط حياة الانسان الاجتماعية والاقتصادية والمعنوية على الأرض اليوم.

بيد أن مشكلة القيادة الأمريكية الراهنة المستمدة مباشرة من التفوق الشامل الذي تتمتع به على جميع أقرانها وتقوم عليه، هي أنها بدأت تفتقر للغايات الأخلاقية التي تجعل منها قيادة مشروعة ومقبولة وأصبحت تنزع إلى أن تجعل من تحقيق السيطرة الأمريكية غايتها. وشيئا فشيئا يدرك العالم أن واشنطن لا تستخدم تفوقها وسيطرتها للمساهمة في ايجاد حلول للمشاكل الدولية ولكنها بالعكس تستغل اعتراف العالم بحاجته لقيادتها أو بتفويضه العملي لها من أجل توسيع دائرة نفوذها وزيادة منافعها على حساب استقرار المجتمعات الأخرى ونموها وتقدمها.

هذا ما يفسر أن الولايات المتحدة بدل أن تقدم اقتراحات بناءة ومنطقية لمواجهة مشاكل على قدر كبير من الخطورة مثل مشكلة التنمية البشرية ومشكلة البيئة ومشكلة السلام والأمن الدوليين ومشكلة ضمان حريات البشر واستقلالهم وحفظ كرامتهم بعيدا عن الديكتاتورية والتسلط والارهاب والتعذيب، تجعل من المحافظة على النظام والاستقرار أكبر أولوياتها، وتطلب من الدول والمجتمعات الصغيرة التي دخلت بالكاد في عصر الصناعة والثورة العلمية والتقنية أن تجاريها في سوق تجارية واحدة من دون ضمانات ولا خطط عالمية مشتركة لتحقيق غايات التنمية البشرية في مناطق العالم الأخرى. وبدل العمل المشترك من أجل نزع السلاح التدمير الشامل من جميع المناطق والبلاد تسعى إلى تجريد انتقائي للعالم منه يضمن لها السيطرة مع حلفائها على بقية بقاع الأرض.

وأولوية تعزيز السيطرة العالمية وترسيخ أركانها هي التي تمنع الولايات المتحدة من الاعتراف بضرورة إعادة بناء النظام الدولي على أسس واضحة قانونية، وتدفعها إلى الاستمرار في التلاعب بالأمم المتحدة وتحويلها إلى أداة لتطبيق سياساتها الخارجية، وإلى رفض أي صيغة من صيغ المفاوضات المتعددة الأطراف التي تطالب بها جميع الدول الأخرى لبلورة رؤية أقل قومية وصيغ أقل تسلطية لمواجهة مشاكل العالم. فالتمسك بصيغة السيطرة بالقوة لا يوفر للولايات المتحدة شرط الانفراد بالقرار الدولي فحسب، لأنها هي الدولة الوحيدة القادرة على وضع استراتيجية عمل عالمية، أو على مستوى الكرة الأرضية، ولكنه يوفر عليها أكثر من ذلك المساءلة وتحمل المسؤولية.

ومن هنا, وفي موازاة تقدم الولايات المتحدة في بسط سيطرتها المادية على العالم يتزايد القلق العالمي منها ويتنامى النزوع إلى وضع القيادة الأمريكية الراهنة موضع السؤال. فهي تبدو أكثر فأكثر قيادة ميكانيكية قائمة على القوة وليست مستمدة من الولاء الذي يبعثه تحقيقها مشاريع وإنجازات مثيرة للخاضعين لها والسائرين في ركابها. 

إن الفرق بين القيادة العالمية العضوية التي تستمد سلطتها وحقها في التدخل في شؤون المجتمعات الأخرى من إجماع دولي معبر عنه بصورة واضحة وصريحة ومكون عبر أطر قانونية واضحة من الحوار والتفاهم والتداول الدوري بين مجموع القوى المكونة للنظام والقيادة الميكانيكية المفروضة من أعلى والمرتبطة بالتفوق الاستراتيجي وغيره، هو أن الأولى تملي قراراتها على الآخرين وتسعى إلى تطبيقها بالضغط والقسر والعنف إذا احتاج الأمر، في حين أن الثانية تحتاج كي تبلور قراراتها إلى أخذ رأي الأطراف الأخرى والتوصل معهم إلى إجماع حد أدنى وإشراكهم والتعاون معهم، وهو ما يفترض الاعتراف بهم كأطراف كاملي العضوية وبالتالي قبول المساءلة أمامهم وتحمل المسؤولية. وكما لا يمكن لنمط القيادة الأول أن يستمر من دون تأكيد التفوق ورد التحديات التي توجه لأصحابها من أي طرف جاءت، مهما كان حجمه وصغر خطره، ولا تستقيم إذن من دون خوض الحروب الدموية الدائمة، فإنه لا قيادة حية ومتفاعلة مع جميع الأطراف من دون مراعاة الشرعية والمشروعية، أي احترام قواعد ثابتة للعمل والسلوك، والالتزام الطوعي والدقيق بالقانون. وهو ما يتنافى ومنطق السيطرة الكلية والانفرادية.

من المفهوم إذن أن ترفض الولايات المتحدة التنازل عما أصبح يبدو لساستها وكأنه مكسب أساسي يتماشى مع التفوق الأمريكي الشامل ويشكل جائزة نالتها مكافأة لمواجهتها الناجحة للقوة السوفييتية الزائلة، وأن تتمسك بحقها في القيادة الانفرادية وتقبل بما يستدعيه الحفاظ عليها من جهود واستثمارات عسكرية وإعلامية. فهي تستطيع بذلك إعادة تركيب العالم حسب وجهة مصالحها ومن دون أن تكون مسؤولة، ولو مسؤولية معنوية بسيطة, عما تجر إليه سياساتها ذاتها من كوارث إنسانية. وهذا هو موقف السلطة المطلقة والشاملة التي تشبه أو تريد أن تماثل السلطة الالهية. وهو ما تطمح إليه كل سلطة تنجح في التحرر من وطأة القانون والأخلاق والمفاهيم والقيم الانسانية سواء أكانت سلطة داخلية أو عالمية. وبهذه الطريقة لا تكون مضطرة إلى التفاوض على مصالحها مع أي من القوى الأخرى مهما كان موقعها ووزنها ولا مكرهة على التخلي عن أي مكسب تحققه بفضل تفوقها. بل بالعكس من ذلك، إن بإمكانها في هذه الحالة فرض تصوراتها ورؤيتها للمشاكل الدولية والوطنية كما لو كانت تصورات عالمية ومتفقة مع مصالح دول العالم أجمع وتحويل جدول أعمال واشنطن أو أولوياتها إلى أولويات العالم مجتمعا وكل من شعوبه على حدة. وهكذا تستطيع أن تفرض برنامج عملها، أي في النهاية أن تحدد وجهة الجهد العالمي وحقل الاستثمارات المادية والمعنوية التاريخية. وإذا كانت الأولوية بالنسبة للولايات المتحدة اليوم هي الحرب ضد الإرهاب فينبغي أن تكون هذه الحرب ذات أولوية قصوى أيضا عند جميع الدول والبلدان. وإذا كانت محاربة تهريب المخدرات أو فتح الأسواق وبناء سوق عالمية واحدة، أو تخفيض أسعار الطاقة أو نزع أسلحة الدمار الشامل أو حماية المشروع الإسرائيلي الاستيطاني، فعلى جميع شعوب العالم، وعلى الأمم المتحدة الممثلة لهذه الشعوب، أن تجعل منها أيضا أولوياتها وتربط بها جدول أعمالها. وبهذا تضمن الولايات المتحدة أيضا ميزات وامتيازات مادية ومعنوية لا يمكن أن تحلم بها في سياق آخر غير سياق السيطرة العالمية.

ليس هناك أدنى شك في أن الولايات المتحدة هي التي تقود العالم اليوم وهي تؤمن بأنها الدولة المؤهلة أخلاقيا وماديا لقيادة العالم، وأن من حقها أن يكون لها الكلمة الفصل في تحديد صيغة وطبيعة الأمن الدولي وفي نمط الإنتاج الاقتصادي وأشكال التبادل التجاري ونوعية النظم السياسية التي تحكم في هذا البلد أو ذاك وأسلوب حياة الناس وتفكيرهم وحضارتهم في كل مكان. بل إنها تعتبر أن لديها وحدها التفسير الصحيح للكثير من الأديان التي تشعر أن أصحابها لا يفهمونها أو يفهمونها بصورة غير صحيحة،  وفي مقدمة ذلك الإسلام. وفي النتيجة تتصرف الولايات المتحدة كما لو كانت القوة الوحيدة المؤهلة والمكلفة ذاتيا بالمسؤولية في تنظيم شؤون العالم ومعالجتها وحلها أو عدم حلها، أي في النهاية كما لو كان لها احتكار حقوق هذا التنظيم.

ومما يعزز من هذا الإيمان الشعور المتزايد بالتفوق والقوة الشاملة التي تجعلها تنزع إلى فرض إرادتها على الجميع وبسط نفوذها في كل مكان وطرح وجهة نظرها في جميع القضايا المطروحة أو التي يمكن طرحها على العالم أو على كل مجتمع ودولة فيه.

 

بيد أن هذه القيادة القائمة على إملاء القوي وإذعان الضعيف قد وصلت في أقل من عقدين أو ثلاثة إلى طريق مسدود. ولا يمكن لها أن تستمر من دون أن تعمل على تعميم الفوضى وتشريع القتل والاقتتال. وأكثر فأكثر ستضطر الولايات المتحدة من أجل ترتيب الأوضاع الدولية حسب مصالحها وتصوراتها وأولوياتها إلى شن الحروب وزعزعة الاستقرار وتدمير الدول العاصية أو الشريرة أو الأقل شرا. وسوف تكتشف دائما على طريق فرضها سيطرتها الغليظة والشاملة دولا ومجتمعات وشعوبا وجماعات شريرة وعاصية أكثر. ولن تستطيع أن تحقق أهدافها من دون أن تقوض التوازنات الداخلية والإقليمية القائمة، وبالتالي من دون أن تثير ردود أفعال سلبية في جميع أنحاء العالم أيضا. فكما أن العديد من الدول تعيش في أزمة الخوف على سيادتها ويمكن أن تشعر بالتحدي أمام هذا النزوع الجامح نحو السيطرة العالمية فإن واشنطن تشعر أيضا بأن أي دولة ترفض السير على الطريق التي رسمتها لها بل تتلكأ في الأخذ بها تسعى بصورة واعية أو غير واعية إلى عرقلة خططها ووضع العصي في عجلة قيادتها العالمية. ولن تكون نتيجة ذلك إلا الانقلاب الشامل على الولايات المتحدة التي ستظهر بشكل أوضح كامبرطورية الشر التي لا تتورع عن ارتكاب أي جريمة والتي يفتقر سلوكها لأي معايير أخلاقية أو إنسانية. وهي سائرة لا محالة في هذا الطريق. فمنطق السيطرة يستدعي لا محالة تجاوز كل المعايير الأخلاقية والإنسانية.

ولعل أفضل مثال لما يمكن أن تجر إليه من فوضى واقتتال قيادة العالم بمنطق تعزيز السيطرة الأمريكية مباشرة أو عبر الحلفاء الموثوقين ما يحصل في فلسطين منذ سنتين. فبدل التوصل إلى سلام لم يكن أبدا بعيد المنال، أدخل منطق تعزيز السيطرة في مواجهة عالم عربي تعتقد الإدارة الأمريكية بحيوية موقعه وعدم خضوعه الكامل بعد لها المنطقة في حالة مأساوية ويمكن أن تكون كارثية من الاحباط والتعفن والانهيار.