القضية الكردية على جدول اعمال الحرب الاقليمية

2017-09-24:: العربي الجديد

 

انا من الذين يعتقدون أنه من دون تعاون إقليمي واسع يتجاوز الحدود القومية والسياسية ويؤسس لفضاء تنمية اقتصادية وأمن جماعي يطمئن الجميع ويشرك الجميع ويخدم مصالحهم، لن يكون للشرق الاوسط الذي يعيش أكبر ازمة ثقافية وسياسية واقتصادية في تاريخه، تختلط فيها ثورات الشعوب من أجل الحرية وفرض احترام الحقوق الانسانية الاساسية بالمطالب القومية المحبطة منذ عقود والكوارث الاجتماعية النابعة من إخفاق سياسات التنمية الاقتصادية ان لم نقل انهيارها وعودة الاحتلالات الأجنبية ، أي مستقبل، وسوف يغرق أكثر فاكثر في الحروب والصراعات الداخلية والخارجية، ويتحول لا محالة لمفرخة لكل اشكال التطرف، بل لتعميم أساليب العنف والارهاب، كما لم يحصل في اي وقت، على جميع العلاقات الداخلية والخارجية.

 

١

وقد كتبت عن ضرورة الاسراع في فتح مفاوضات بين دول المشرق التي تضم الشعوب الاربع الكبرى التي صاغت تاريخ المنطقة بصراعاتها وتفاهماتها معا، العرب والكرد والاتراك والفرس، منذ أكثر من قرنيين، وقلت إن بديل العمل من أجل إقامة منطقة للأمن والتعاون بين هذه الشعوب هو ترك المجال مفتوحا لكل أنواع الصدام والصراع والنزاع، وتخليد الحروب الداخلية والاقليمية. فالحرب هي النتجية الحتمية للتناقضات المتفاقمة من دون أفق للحل، والمخرج الطبيعي للنخب الفاشلة من مواجهة المسؤولية ومحاولة تحميل عبء فشلها على الشعب أو على الدول والشعوب المجاورة.

هذا ما حصل ويحصل عندنا الآن بالضبط، فأصبح تحقيق الامن لهذه الدولة أو تلك يقوم على زعزعة امن جارتها وتحقيق الاستقرار في هذا البلد أو ذاك أو زيادة موارده وتعظيم مصالح نخبه الحاكمة يتوقف على سحق اي روح نقد أو احتجاج أو معارضة، وفرض الصمت المطلق على جميع الطبقات والطوائف والأحزاب، وحرمان الشعوب من أي حياة سياسية بل حتى ثقافية. والمشرق اليوم منطقة حروب ونزاعات داخلية وخارجية لا تنتهي، أي لا حل لها، ولا أحد داخل المنطقة أو خارجها يجرؤ على التفكير بالطريقة التي يمكن له ان يساعدها على الخروج منها. والأغلب أن الدول الكبيرة في الغرب والشرق وآسيا وأمريكا الشمالية، بل حتى في افريقيا التي تكاد لا تلعب اي دور في السياسة الدولية، تشعر أكثر فأكثر بانها تعبت من مشاكل الشرق الأوسط ولا تملك القدرة على تقديم ما يمكن ان يساعده على الخروج من أزمته، وأن أقصى ما يمكن أن تفعله هو أن تسعى إلى الحفاظ على مصالحها بأي ثمن، حتى لو أضطرها ذلك إلى تقسيم البلدان وتفتيتها وضرب ما يشبه الحصار الصحي على شعوبه واقتطاع مناطق خاصة بها تسيطر عليها مباشرة عن طريق تصدير "الخبراء" والمستشارين وارسال الميليشيات وبناء القواعد العسكرية حول آبار النفط والمضائق والمصالح الاخرى، وترك الشرق أوسطيين يذبحون بعضهم بعضا إلى قيام الساعة. وهذا أفضل وسيلة لتجنب خطرهم ومنعهم من نقل شرورهم وعنفهم ومشاكلهم إلى بقية بقاع العالم الاخرى. وأول من يجول بذهنه هذا التفكير هي حكومات الدول الكبرى التي كانت المسؤولة الأولى عن الخراب السياسي والاقتصادي والثقافي والديني الذي يعم المنطقة وعن تدمير التوازنات التاريخية الكبرى التي كانت تحفظ لها استقرارها وسلام مجتمعاتها وتعاونها.

لكن ضحالة الثقافة السياسية التي تميز نخب هذه المنطقة وغطرسة القوة التي كانت تسكن أذهان ونفوس حكامها الصغار والفارغين مثل الطبول، أو أغلبيتهم الساحقة، قد دفعت هذه النخب الى الاعتقاد بأنها عنترة، وحالت دون رؤية مخاطر الانخراط في صراعات مفتوحة ولغايات مستحيلة، مع الاعتقاد الراسخ عند أطرافها المختلفة بأنها ستكون الرابح الأول أو المستفيد الرئيسي منها. وأول هذه الحكومات التي افتتحت حقبة الرهان على القوة ولا شيء غير القوة والقهر، هي الحكومة الاسرائيلية التي صممت على حرمان الفلسطينيين من أي أمل في استعادة اي جزء من فلسطين يضمن لسكانها الحد الادنى من الشعور بالاستقلال والسيادة وممارسة حقهم في تقرير مصيرهم، واستمرأت، تحت تأثير غطرسة القوة، الحرب المستمرة مع العرب بأكملهم، وجعلت من هزيمتهم وتمريغ حكوماتهم ونخبهم بالوحل عربونا لتفوقها الساحق على جميع دول الاقليم، ولتطمين شعبها على أمنه وازدهاره ومستقبله. وهذا هو الزلزال الذي فتح الباب أمام الارتدادات المستمرة، التي ستهز وتزعزع البلدان والمجتمعات العربية، وتدفعها إلى الدخول في أزمة قيادة لا حل لها، وتفجر نزاعاتها الداخلية، قبل أن تصل إلى ايران ما بعد الثورة التي رأت في الزج بنفسها في اتون الحرب العربية الاسرائيلة أفضل وسيلة لتجنب تحديات تنميتها الداخلية، ومزاحمة الدول العربية على الهيمنة الاقليمية، ولتأمين مصادر الشرعية للحروب التي ستطلقها في العراق وسورية وغيرهما. وها هي حكومة حزب العدالة والتنمية التركية تواجه خطر الدخول في حرب مصيرية لحماية الجغرافية التركية من خطر الانفصال الكردي، بدءا من شمال سورية الذي تخشى أن يتحول، بدعم غير مسبوق من قبل الولايات المتحدة الامريكية، لحركة كردية استقلالية تشكل امتدادا للحركة الكردية الاستقلالية التركية، في الوقت الذي لم تجد فيه بلدان الخليج العربي وسيلة للتغطية على خسارتها الحرب في سورية غير تفجير تناقضاتها الذاتية واشعال فتيل النزاع والحرب النفسية والاعلامية والسياسية فيما بينها.

والنتيجة ان جميع الدول والحكومات في هذه المنطقة تجد نفسها اليوم في طريق مسدود، وأمام رهانات مصيرية ومخاطر لا أمل لها بمواجهتها أو بالحد من عواقبها المأساوية. وإذا استمرت الاحوال على ما هي عليه، ولم نجد الفرصة لمراجعة حساباتنا، ولا أقصد الحكومات وحدها وإنما النخب السياسية والثقافية والاجتماعية عموما التي تملك مفاتيح النفوذ المتعدد المصادر والتي تؤثر على الرأي العام وتحدد مسار الاحداث، وتبني خططا وأساليب أخرى للعمل داخل بلداننا وفي محيطنا بين الدول والشعوب القريبة والمشاركة لنا في تحديد مصائر منطقتنا، فسوف نجد أنفسنا بعد سنوات قليلة في محرقة اقليمية لا سابق لها في تاريخ الدول، يزيد من استعار لهيب النيران المشتعلة فيها اختلاط القضايا والمسائل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقومية والامنية والانسانية من دون اي قدرة على فصلها عن بعضها أو تفكيكها.

 

٢

ما يدفعني الى التذكير بمسألة العلاقات بين دول الاقليم وافتقارها لأي أسس متفاوض عليها وقواعد - وترك المنقطة نهبا للصراعات والنزاعات المتقاطعة والمتداخلة حسب ما كانت تريده الدول الاستعمارية السابقة للاحتفاظ بنفوذها وهيمنتها، وبالنالي تفجر حروب التنافس والصراع على الهيمنة والنفوذ الاقليميين، كما نشهده اليوم، هو ما أثاره الاستفتاء الذي قررت حكومة كردستان العراق تنظيمه للانفصال عن العراق وإقامة دولة مستقلة من تخبط وردود أفعال عنيفة في بلدان المنطقة ومحيطها. فهو يقدم نموذجا لنوعية الاختيارات العدائية التي وسمت علاقات حكومات وشعوب الاقليم في ما بينها منذ عقود.

يكمن وراء هذا التوتر الشديد الذي اثاره قرار الاستفتاء الكردي مسألتين جاء الجواب عليهما في الحالتين، في العراق والكثير من قطاعات الرأي العام العربي، وفي حضن الحركة الكردستانية، بطريقة سلبية تعكس المخاوف والشكوك التي غذتها سياسات الحكومات العربية والحركات السياسية، بما فيها الكردية في الماضي، وتعمل على إعادة انتاجها. وفي جميع الحالات، وهذا هو المهم، دلت على أن كل الأطراف تنطلق من وجهة نظر مصالحها الخاصة، أو ما تعتبره مصالحها، من دون أن تاخذ بالاعتبار مصالح الأطراف الاخرى، بل مع محاولة الاستحواز على جزء منها أو حتى مع خطر تقويضها، بصرف النظر عن العواقب. والمحصلة بالطبع إشعال فتيل النزاع وفتح جبهة جديدة في الحرب الشاملة التي تلف الإقليم الشرق اوسطي منذ نشوئه.

هكذا افتتحت حكومة الاقليم معركتها بالاعلان عن شمل كركوك وبعض المناطق الأخرى المتنازع عليها بالاستفتاء أي بفرض الامر الواقع على مجموع العراقيين وشرعنة ضمها مستقبلا، من دون أي مشاورات مع حكومة بغداد أو سكان المناطق الملحقة بالاستفتاء، في الوقت الذي ردت فيه حكومة بغداد المركزية برفضها قرار الاستفتاء ورفض البرلمان العراقي له من دون أي جواب واضح على اعتراضات حكومة الاقليم ومطالبها، أو اقتراحات مقابلة للخروج من الأزمة. وما من شك في أن شمل كركوك بالاستفتاء من دون اتفاق مسبق مع بقية ممثلي الشعب العراقي والحكومة المركزية يشعل فتيل النزاع بين الطرفين قبل أن يحصل الاستفتاء الذي ستكون نتيجته محسومة لصالح الاستقلال.

وراء النزاع المتجدد في العراق يتجلى إفلاس المبدأ الذي قامت عليه العلاقات السياسية الداخلية والجيوسياسية داخل المنقطة، خلال العقود الطويلة الماضية، بل منذ تأسيسها على يد القوى الاستعمارية، والتي قوضت استقرارها وتدفع بها اليوم الى الانتحار، وهو مبدأ الإكراه. وعكسه مبدأ الحرية الذي يقوم على الاعتراف بحق الأفراد والجماعات والشعوب في الاختيار، وبالتالي الذي يقدم التفاهم على الإذعان، ويفترض الحوار والمفاوضات وأبعد من ذلك الاعتراف بالآخر وبحقه في الدفاع عن مصالحه بالمثل. وتقدم القضية الكردية التي طرحت نفسها بقوة على ضوء قرار الاستفتاء على الانفصال تجسيدا مثاليا لهذا النظام/السلام، القائم على الإكراه، وانهياره في الوقت نفسه. والطريقة التي ستعالج بها حكومات المنطقة هذه القضية سوف تحدد أيضا مستقبلها القريب، أي مقدرتها على الخروج من أزمتها التاريخية بتبني مبادئ جديدة تفتح باب التسويات والحلول الوسط واللقاءات على المصالح المتبادلة أو الاستمرار في نظام الاكراه وسياسة فرض الأمر الواقع واستخدام القوة لحل النزاعات, وهذا يعني تبني خيار الحرب المستمرة، كما حصل في اوروبا في حقبة ما قبل الحرب العالمية الثانية، بدل خيار الحوار والتعاون والتفاوض الذي لا مهرب منه في سبيل خلق بيئة آمنة، صالحة للاستثمار والتنمية التي نحن أحوج ما نكون لها اليوم لتامين فرص العمل والحياة الكريمة لملايين الناس المحرومين من أي حق، والمرميين على قارعات الطرق، في عواصم دولنا ومدنها واريافها.

 

٣

بصرف النظر عن نوايا حكومة الاقليم والمناورات السياسية التي ينطوي عليها قرار الاستفتاء، والانقسامات القائمة في صف الكرد أنفسهم، يطرح نزوع الكرد إلى الاستقلال في العراق مسألتين وليس مسألة واحدة. الأولى خاصة بالعراق تعبر عن التدهور الكبير لعلاقات الكرد مع الدولة المركزية التي شكلت جزءا منها منذ إنشائها. وهي نفسها جزء من مشكلة النظام العراقي الذي قام بعد الغزو الامريكي في بداية هذا القرن. وليس هناك شك في المسؤولية الرئيسية في دفع الكرد للانفصال، بالنسبة للمسألة الأولى، تقع على كاهل الحكم المركزي العراقي. فقد استسلمت حكومة العراق للضغوط الخارجية، وبشكل خاص الايرانية، وللنزعات الطائفية، وأقامت إمارة شيعية تابعة لايران ولصالح تعزيز هيمنة ايران وسطوتها الاقليميتين، بدل أن تبني دولة ديمقراطية تفتح آفاق العدالة والحرية والمساواة والتآخي بين جميع سكانها ومواطنيها بصرف النظر عن أصلهم ودينهم وقوميتهم وجنسهم. ولعلها خدعت نفسها بتخفيض فهمها للديمقراطية إلى مجرد انتخابات. وبدل أن تطمئن جميع سكانها على حقوقهم عمقت الشروخ بينهم وشرعنت للتمييز بحق أغلبيتهم، واستخدمت الشحن الطائفي والتحشيد المذهبي للتغطية على فشلها في إقامة دولة حق لجميع مواطنيها.وبدل أن تقدم لهم فرصا أكبر في التقدم وتحسين شروط حياتهم الفردية والجماعية، أدخلتهم في حروب الامبرطورية الايرانية التي وضعت نفسها في خدمتها وجعلت منهم ضحايا بالمجان لهيمنة محتلينها.

والمقصود أن المبرر الوحيد للدولة، وخاصة عندما تكون متعددة القوميات، هو ما تقدمه من فرص إضافية لتحسين شروط حياة مواطنيها وسعادتهم. والحال لم تقدم حكومة بغداد منذ ولادتها على اثر الغزو الامريكي وتدمير الدولة الذي تبعه سوى الحروب الداخلية والخارجية والتلاعب بالميليشيات الطائفية والبؤس والفقر والفاقة والاقتتال. هذا النمط من الدولة الإمارة، لا يمكن أن يجمع القوميات ويؤلف بين الجماعات، لا في القانون ولا في الإدارة ولا في النظام، لأنه بدل أن يضمن حقوقهم ويؤمن سعادتهم يفاقم من مشاكلهم ويقتل آمالهم ولا يمكن إلا أن يدفع الكرد والعرب للتحرر منه وتركه لحشوده وميليشياته الطائفية. فهو المسؤول أولا وأخيرا عن تمزق العراق وانقساماته القومية والطائفية.

أما ا المسألة الثانية فهي المسألة القومية الكردية التي حاولت جميع الدول والشعوب التي يشكل الأكراد شركاء فيها تجاهلها أو السكوت عنها أو محوها إذا أمكن من الذاكرة السياسية، خلال العقود الطويلة الماضية، وهي تعني حق الكرد كشعب في تقرير مصيره، وإذا أراد ذلك، إقامة دولة كردية مستقلة تعبر عن هويته وتقود كفاحه من أجل الاندماج في التاريخ الحديث للبشرية بوسائله وقيمه وقدراته الذاتية. وتضافر المسألتين اللتين تشكلان وجهين لقضية واحدة، هو ما يجعل من القضية الكردية قضية مركبة لا تقتصر على تفاصل سياسي داخل دولة واحدة، أي مجرد انفصال لجزء من الشعب الواحد لتكوين دولة خاصة به، وإنما ترتبط بإعادة ترتيب الجغرافية السياسية لمنطقة كاملة. فهي مسألة سياسية ومسألة جيوسياسية وعقدة حقيقية في طريق السعي إلى تخليص المنطقة من الأفخاخ والمطبات والمظالم ومصادر النزاع التي تحول دون استقرارها.

على المسألة الأولى ردت حكومة بغداد بالرفض واستدعاء الدول القريبة والبعيدة للتدخل والضغط على حكومة الاقليم، متذرعة بمخالفة قرار الاستفتاء للدستور العراقي. وعلى المسألة الثانية ردت الدول المعنية بالقضية الكردية، أي طهران وأنقرة والنظام الفاقد للشرعية في سورية، بالتهديد بالحرب. لم تقدم حكومة بغداد أي رد واضح على مصدر قلق الأكراد ولا أي اقتراح بديل يمكن مناقشته. وهذا كان أيضا مضمون التهديدات التي أطلقتها الدول المهددة بإحياء الحركات الانفصالية الكردية فيها.

لا أحد يجهل أن استقلال الاقليم يطرح قضية حق تقرير المصير للكرد عموما. وقد حان الوقت كي تفكر الدول المعنية بالمسألة الكردية في تقديم اقتراحات بناءة للمساهمة في حل القضية الكردية القومية بدل الاستمرار في استخدام سلاح القمع والإكراه. ولا يمكن للاستمرار في دفن الرأس في الرمال ان يقود إلى شيء آخر غير المزيد من الشحن العاطفي المتبادل والاحتقان والحقد والكراهية الحاضنة للنزاعات والحروب وجعل المسألة الكردية الثغرة التي يمكن أن ينفذ منها كل المناهضين أو الخائفين من استقرار المنطقة وتعاونها ونهضتها. وإذا كان من الصعب على الكرد في شروط وجودهم القومي الراهنة انتزاع الانفصال بالحرب، وهي مستمرة منذ عقود من دون جدوى كبيرة، فإن من الصعب ايضا، بالمقدار نفسه، أن تقود الحرب إلى قتل إرادة الاستقلال وكبح ثورة الكرد المستمرة منذ عقود، وسيكون ثمن ذلك استمرار حالة التنازع وانعدام الثقة والتفكك وتقويض بناء المجتمعات ذاتها، وبالتالي تضحية الدول المعنية بمصير تنميتها ومستقبل تقدمها في طريق المدنية وتأمين شروط الحياة الكريمة والحرة والسلام لأبنائها جميعا.

. وليس هناك حل في نظري من دون الاعتراف بحق الكرد في تقرير مصيرهم وبالتالي من دون فتح مفاوضات لتطبيق هذا الحق، على مدى زمني، وفي شروط تراعي مصالح الدول المعنية وتحول دون تهديد مصالحها القومية الاساسية. ومن دون ذلك سوف تتحول القضية الكردية لا محالة إلى بؤرة التهاب دائم يزعزع استقرار الجميع ويهدد أمن دول كثيرة واستقرارها، ويقف عقبة امام تفاهمها وتعاونها وبالتالي بناء مستقبلها الفردي والجماعي. ولا أعتقد أن مثل هذا الحل يمكن أن يحصل من دون المبادرة بفتح نقاش جدي بين دولها الرئيسية على مستقبل المنطقة ومصيرها، ومن دون التوصل إلى اتفاق ناجز لإقامة فضاء للأمن الجماعي والتعاون الاقليمي المشترك، يضم الجميع، ولا شيء يمنع من ذلك سوى التردد والخوف وغياب الشجاعة، واستمرار بعض الحكومات في المراهنة على النزاع للتغطية على مشاكلها الداخلية أو لمواجهة خصومها على حساب الشعوب والدول الأضعف منها. لكن الاستمرار في هذا الخيار مآله كما ذكرت الانهيار الشامل وخروج المنطقة من التاريخ الراهن والعودة بشعوبها لعهود الاقطاع والقرون الوسطى والخراب المعمم والدمار.

لا يتعلق الامر إذن بقضية خاصة تعني الكرد أنفسهم، كما لم تكن قضية فلسطين قضية تعني الفلسطينيين فحسب. ولكنها تطرح مسألة عامة وكبيرة، لا تزال تعاني منهما معظم شعوب العالم الذي خسر ثورته الصناعية والسياسية أو فشل فيها، بشقيها الوطني والدولي. فهي تظهر أولا فشل المجتمعات العربية واكثر المجتمعات النامية في إقامة العلاقات داخل الدول والمجتمعات على أسس سليمة واضحة ومقبولة، أي إقامة النظم السياسية الشرعية والفاعلة، المستندة إلى احترام إرادة الشعوب وحقها في انتخاب ممثليها بحرية، وتقرير سياساتها بنفسها، بعيدا عن الضغوط والتهديدات والعقوبات. وهي تبرز ثانيا فشل دول المنطقة في إقامة العلاقات التي تربط بينها على قواعد ومعايير معروفة وثابتة، اهمها الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها، وحقها في الاستقلال، وفي الاتحاد والتعاون أيضا، واحترام سيادة الدول، واحترام القانون والمواثيق الدولية وتطبيق قانون العدالة وإزالة الظلم وتصفية بقايا الاستعمار والعلاقات المجحفة والتبعية والمساواة في التعامل بين الجميع.

في منطقة من أكثر المناطق تدويلا في العالم ليس هناك فاعل مستقل بمصالحه وقراره، ولا فعل يمكن ان يتحقق من دون أن تكون له آثار على محيطة، وربما هدد بتغيير التوازنات والدفع ألى ردود غير منظورة، اقليمية ودولية. وما حصل ويحصل في سورية منذ ست سنوات، وما تشهد عليه تعقيدات أزمة الانفصال الكردية يبين حدود الرهان على القوة وحدها، ومخاطر الاستمرار في المراهنة على تخليد مبدأ الإكراه. من دون إعادة النظر في المباديء التي تنظم او بالأحرى تقوض علاقتنا داخل الدول وبينها في هذه المنطقة لن يكون أمامنا سوى الجحيم، اي الاستثمار في السلاح والاستقواء بالأجنبي والاعداد للتضحية بالملاييين من المدنيين والعسكريين من دون أمل بتحقيق أي كسب، وللجميع، باستثناء أدامة الحرب وتأجيل السلام إلى ما لانهاية.

وأنا أكتب هذه المقالة لا أدري في ما إذا كان الاقليم سيتمسك بقراره أم لا. لكن مهما كان الحال، لن تستقر العراق ولن تدخل المنطقة في عصر التنمية والتقدم الاخلاقي والقانوني والسياسي، ولن تنجح في اللحاق بركب عالم التقدم التقني والعلمي وتندمج في الحضارة، ولن تخرج من الهمجية التي تعيشها اليوم، داخل كل دولة وفي ما بين الدول، ما لم تعترف بحقوق مواطنيها التي لا تناقش في الحرية والعدالة والكرامة والمساواة، وحقوق شعوبها في السيادة ودولها في الأمن والسلام والتعاون والاستقرار.

https://www.alaraby.co.uk/opinion/issues

https://www.alaraby.co.uk/opinion/2017/9/23/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%AC%D8%AF%D9%88%D9%84-%D8%A3%D8%B9%D9%85%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%82%D9%84%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9-1