الطريق الصحيح لمحاربة اليأس

2003-06-18:: الاتحاد


تعرض نظام الاستقلال وما يفترضه من تعميم مبدأ السيادة القومية إلى هزة كبيرة في العالم أجمع منذ السبعينيات من القرن العشرين· لكن سقوط بغداد على أيدي القوات الأميركية في مارس الماضي أنهى حقبة كاملة مما أسميناه حركة التحرر الوطني كما تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية في غالبية دول العالم الفقيرة التي أصبحت أعضاء في الأمم المتحدة اليوم· بيد أن هذا الإنهاء العملي والنظري أيضا لنظام حركة التحرر الوطني كان في العالم العربي أكثر دويا مما حصل في أي مكان آخر وذلك لسببين· الأول وجود منابع الطاقة الرئيسية التي يحتاجها الاقتصاد الصناعي فيه والثاني التقصير الكبير الذي أبدته النخب المحلية بسبب الاعتماد الطويل على الريع النفطي ذاته والتفاهم مع الكتلة الصناعية في بناء نظام صالح للحكم والإدارة قادر على مواجهة حاجات السكان الأساسية في التنمية والمشاركة السياسية وتحقيق سلطة القانون واحترام الذات· وهكذا وجدت هنا منطقة غنية جدا بالموارد المادية والمعنوية وفقيرة في الوقت نفسه بالهياكل والتنظيمات الكفيلة بتحصينها والدفاع عنها·
ولا يهدف الحديث عن نهاية النظام الاستقلالي وما نجم عنه من أزمة خطيرة في العلاقات الدولية ومن انهيارات كارثية في المنطقة العربية بشكل خاص إلى التشهير بسلطات أو بفئات أو بنخب حاكمة فقد القسم الأكبر منها أو هو على وشك أن يفقد آخر ما تبقى له من صدقية عند الجمهور الواسع· وإنما يهدف إلى الإشارة إلى ما سوف ينجم عن هذا الوضع لا محالة من انحلال في جميع الأطر النظرية والعقائدية ومن تفكك في جميع المؤسسات الإدارية والسياسية والاجتماعية التي ارتبطت بالنظام السابق وبالتالي بجميع القواعد التي حكمت العلاقات داخل البلدان العربية وفي ما بينها في الحقبة الماضية· وهذا ما يطرح اليوم على جميع المعنيين بالشأن العام من سياسيين وناشطين مدنيين ومثقفين ورجال أعمال وإداريين وتقنوقراطيين السؤال الرئيسي ألا وهو: كيف نعيد بناء النظام المجتمعي العربي من حيث هو نموذج صالح ومختلف عن السابق في الحكم والإدارة والانتاج، داخل كل قطر، ومن حيث هو منظومة تعاون وتكامل وتضامن بين المجتمعات العربية المهددة بالشك والحيرة والتراجعات الشاملة في المنطقة ككل؟
يبدو لي أنه لن يكون من الممكن لنا نحن العرب أن نواجه دينامية التفكك والانحلال المجتمعي، الذي يدفع هو نفسه إلى تنامي الضغوط الخارجية وتغذية التوترات الداخلية وتفجير التناقضات الطبيعية وغير الطبيعية في حجر المجتمعات العربية، ما لم ننجح في بناء رؤية واقعية جديدة وخلاقة للنموذج المجتمعي الذي نريد إشادته على أنقاض البناء الهرم والفاسد الذي عشنا فيه عقودا طويلة وكدنا نصل بسببه إلى حافة الكارثة· وتقع على النخب العربية الجديدة والشابة التي تتصدى اليوم لمهام وقف التدهور وإقامة المقاومات السياسية والأخلاقية لوقف الانحلال المسؤولية الرئيسية في بلورة مثل هذه الرؤية عبر الحوار والنقاش الجدي والصارم· وهي رؤية لن يكون من الممكن اليوم بناؤها في المكاتب الباردة البيروقراطية ولا في القصور العاجية وإنما من خلال المشاركة العملية في المعركة من أجل الديمقراطية وتحرير النفس العربية من الخوف والركود والعطالة والقلق معا· فصياغتها تشكل في نظري جزءا لا يتجزأ من نقد النموذج المجتمعي القائم وإطلاق المبادرة التاريخية للمجتمع بكافة أفراده وقواه الحية وإحياء أو بالأحرى إعادة بناء المؤسسات المختلفة السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية وفي مقدمها من دون شك الدولة ذاتها·
ويتطلب مثل هذا العمل جهدا جماعيا ثابتا ومتواصلا وجرأة على التخلص من النماذج والكليشيهات القديمة النظرية والسياسية وقدرة على التواصل مع قطاعات الرأي العام المختلفة والمتباينة وعلى الارتفاع فوق المصالح الآنية والشخصية· وما تظهره النخب الاجتماعية المختلفة من كفاءة في تحقيق هذه المهام التاريخية الكبيرة هو الذي سيحدد دورها ومكانتها في نظام المجتمع العربي المقبل·
إن تحمل المسؤولية يتطلب الاعتراف بنقائص الحكم والإدارة العربيين ويفرض علينا إذا أردنا بالفعل تحصين مجتمعاتنا ضد السياسات الاستعمارية الجديدة وفي وجه تصاعد المطامع الدولية في منطقة الشرق الاوسط أن نتخلى، منذ الآن، حاكمين ومحكومين، عن جميع الممارسات وأشكال التمييز بين المواطنين، سواء ما كان منها طائفيا أو حزبيا أو دينيا أو مذهبيا وعشائريا وعائليا، والعودة في شكل فعلي من دون تلاعب او خداع الى قواعد الممارسة الوطنية القائمة على المساواة بين جميع الافراد امام القانون وتكافؤ الفرص والاحتكام الى القضاء النزيه وإلغاء الفساد والعبث بمصالح المواطنين وإلغاء كل الامتيازات التي تتمتع بها فئات معينة اليوم على حساب المواطنين جميعا وعلى حساب الوطن بأكمله·
فليس للوطنية اليوم معيار آخر سوى الالتزام بمنطق المساواة والعدالة والحرية وحكم القانون ولم تعد هناك أي قيمة أو فاعلية في تحقيق الوحدة الوطنية للتكرار الممل لشعارات العداء للامبريالية والاستعمار الفارغة المضمون· إن معيار الوطنية اليوم هو الاعتراف بالمواطنية والعمل على بنائها، وهذا وحده سيحصن مجتمعاتنا أمام سقوط عواصم أخرى في قبضة الجيوش الأجنبية·
لقد أصبح من المتفق عليه بين جميع المحللين العرب والأجانب أن أنظمة الحزب الواحد والزعيم الواحد والسلطة العائلية والعشائرية والطائفية التي سيطرت على العديد من البلدان العربية تتحمل مسؤولية كبيرة في ايصال الاوضاع الى ما هي عليه اليوم، وفي جعل المجتمعات تقريبا من دون دفاعات أمام الهجوم الاستعماري الجديد· وليس من المؤكد أننا نستطيع بالفعل أن نواجه الموجة الاستعمارية الجديدة من دون ضحايا كثر، أو تضحيات كبيرة· لكن بقدر ما نعود سريعا الى الصواب، أي الى تطبيق قواعد العمل الوطني السليم، سيكون بإمكاننا أن نلجم قوى الاستعمار الجديد ونحد من قدرته على الاستمرار ونخلق شروط الانعتاق من قيوده· ولا ينبغي للهزائم أو النكسات العديدة أن تثنينا عن عزمنا أو تفقدنا الثقة بأنفسنا· فنحن على أرضنا ولن يكون بوسع أي قوة أن تصادر طويلا قرارنا متى ما صممنا على أخذ مقاليد أمورنا بالفعل بأنفسنا وقبلنا العمل والتضحية في سبيل الخروج من حالة التبعية والاتكالية والاستسلام للقدر السياسي أو الأجنبي· وحتى لو خضعنا غدا تحت ضغط السلاح فلن يعني ذلك نهاية التاريخ· وسيكون بإمكاننا دائما، بقدر ما نطور رؤانا النظرية والعملية ونعيد بناء قوانا الوطنية وتوحيدها حول قواعد ديمقراطية، القضاء على أسس السيطرة المفروضة علينا، سواء أكانت أسسا داخلية مما أطلق عليه المفكر الاسلامي مالك بن نبي قابلية الاستعمار أو أسسا خارجية يجسدها اختلال القوة العالمي وما نجم عنه من مد استعماري جديد في الميادين العسكرية والنظرية معا·