الشعب الفلسطيني ليس محترف عمليات انتحارية

2002-07-:: الاتحاد

كل الدلائل تشير إلى أن العمليات الانتحارية أو الفدائية أو الاستشهادية التي لا تزال بعض المنظمات الفلسطينية تدافع عنها وتصر على استخدامها في مواجهة التعنت الاسرائيلي قد بدأت تقسم الرأي العام العربي وربما بشكل أكبر الرأي العام الفلسطيني. وبينما يؤكد المدافعون عنها على أنها السلاح الوحيد المتبقي للفلسطينيين لمواجهة آلة الحرب الاسرائيلية الاستثنائية وأداة الضغط الوحيدة على الرأي العام الاسرائيلي الذي يدعم سياسة الوزارة الحالية القائمة على القوة, يعتقد المناهضون لها أنها تقدم لرئيس الوزراء الاسرائيلي آرييل شارون ذريعة كبيرة للاستمرار في سياسة استخدام القوة والبحث عن حل للقضية الفلسطينية بوسائل الحرب وحدها وتوحد الرأي العام الاسرائيلي وراء سياسة الابقاء على الاحتلال واستخدام القوة, كما تضر بسمعة المقاومة الفلسطينية المشروعة وتجعل الرأي العام العالمي الذي انحاز إلى حد كبير لصالح القضية الفلسطينية في الأشهر الأخيرة ينسحب من دعمه للفلسطينيين ويبرر السياسة العدوانية ضدهم باعتبارها وسيلة للدفاع عن النفس ضد الارهاب الواقع على المدنيين.
وقد انتقل النقاش الذي بقي لفترة طويلة تحت الأرض إلى العلن بعد إصدار شلة من أبرز القادة السياسيين الفلسطينيين بيانهم الذي يطالبون فيه بوقف العمليات الفدائية حماية للمصالح الفلسطينية وبعد البيان الذي أصدره رئيس السلطة الفلسطينية نفسه ياسر عرفات في التاسع عشر من يونيو حزيران 2002 داعيا فيه إلى الوقف الفوري لجميع العمليات التي تستهدف المدنيين الاسرائيليين التي لا يمكن أن تعتبر من أعمال المقاومة الفلسطينية. وفي اليوم نفسه الذي أعلن فيه القياديون الفلسطينيون والرئيس عرفات عن هذا الموقف دافع الشيخ أحمد ياسين زعيم المقاومة الاسلامية حماس عن هذه العمليات كما دافع عنها في المساء ذاته على قناة الجزيرة في برنامج بلا حدود أحد كبار المفكرين العرب, المستشار طارق البشري, من منطلق عقلي وسياسي باعتبارها تعبيرا عن المقاومة الشعبية التي هي الطريق الوحيد لمواجهة تحدي الاحتلال الاسرائيلي. وقد قال البشري ما معناه إن الرد على القوة لا يمكن أن يكون بغير القوة. لكن الرد الجماعي على الموقف الرافض للعمليات هذه سوف تنشره القدس المقدسية في السابع والعشرين من يونيو 2002 بتوقيع 150 مثقفا عربيا وفلسطينيا يعلنون تأييدهم للمقاومة بشتى أشكالها.
في اعتقادي يشكل هذا النقاش الذي افتتح عشية فشل الانتفاضة الثانية وعودة الاحتلال الاسرائيلي إلى مناطق السلطة الفلسطينية فاتحة مراجعة عميقة لاستراتيجية العمل الفلسطيني برمته. فمن وراء النقاش حول العمليات الفدائية ومن خلالها تتبلور شيئا فشيئا رؤيتان لطبيعة السياسات التي ستميز المرحلة القادمة من مسيرة القضية الفلسطينية تركز إحداهما بصورة أساسية إن لم نقل كلية على النشاط الفدائي بينما تركز الثانية وبصورة كلية تقريبا أيضا على العمل السياسي. وينطوي هذا النقاش إذا لم ننجح منذ الآن في تأطيره والسيطرة عليه على بذور أزمة فكرية وأيديولوجية عميقة, بالرغم مما يظهر عليه اليوم من ملامح سلمية وشبه ودية. ذلك أن موقف كل طرف من الأطراف الممثلة للرؤيتين يستند إلى مرجعية أخلاقية وروحية وسياسية مستقلة ومتناقضة تماما مع مرجعية الطرف الآخر. فأصحاب الرؤية الاستشهادية الفدائية يميلون أكثر فأكثر إلى الانكفاء على مرجعية إسلامية تجعل من التوافق مع التصورات والاعتقادات الدينية معيار العمل والسلوك السياسي في فلسطين بصرف النظر عن النتائج السياسية أو الإعلامية أو الاستراتيجية العملية. بينما ينزع أصحاب الرؤية السياسية إلى موقف يعتمد في مرجعيته التوافق مع معايير النظام الدولي والرأي العام العالمي. والحال إن أخطر اختلاف يمكن أن يقع داخل حركة ما هو الاختلاف في المرجعية لأنه يجعل من كل تفاهم أمرا مستحيلا ما دامت مقاييس السلوك ومعايير العقل ومتطلبات الاتساق تبدوا متباينة وأحيانا متعارضة بين الفريقين. فإذا كان من الممكن التفاهم أو التسوية بين من يعتقد بضرورة التصعيد والتشدد ومن يريد الاعتدال والمفاوضة انطلاقا من المرجعية الوطنية نفسها, فإن من المستحيل التفاهم بين من يعتقد أنه يلبي في عمله نداء الله ولا يرد على غيره وذاك الذي يعتقد أنه ينبغي الحصول على رضى وتأييد الرأي العام الدولي ومواكبته.
ولا أخفي منذ البداية أنني أخشى أن تقود مثل هذه القطيعة بين موقفين متعارضين لا مجال للتسوية بينهما إلى صدع داخل المقاومة ذاتها, بل داخل الرأي العام العربي والفلسطيني, وأن الأمل الوحيد في استمرار المقاومة بالرغم من الضغوط اللاإنسانية التي تمارسها اسرائيل والولايات المتحدة من ورائها على الشعب الفلسطيني هو في الحفاظ على حد أدنى من التفاهم والحوار الذي يضمن الوحدة الوطنية الفلسطينية والذي شكل حتى الآن ما يشبه المرجعية العقلانية التي تسمح, فيما وراء الاختلافات العقائدية, بالاحتكام إلى معايير وقيم ومباديء مشتركة أو مقدسة صانت الشعب الفلسطيني من الانقسام بالرغم من عمق الخلافات الفكرية والسياسية التي رافقت مسيرته. وفي نظري أن البدء بوضع المسألة في صيغة معارضة مطلقة بين تأييد العمليات الفدائية التي شكلت حتى الآن الذراع العسكرية الحقيقية للمقاومة والاعتماد على المفاوضات السياسية وحدها يهدد بأن يدخل المراجعة الضرورية والحتمية لفكر واستراتيجية المقاومة الفلسطينية منذ البداية في الطريق المسدود. فلا يمكن التخلي عن العمليات الفدائية بالمطلق من دون إضاعة فرص كبيرة للضغط بالفعل على الخصم كما أنه ليس من الممكن تحويل العمل الوطني الفلسطيني الذي يواجه أوضاعا شديدة التعقيد بسبب خصوصية المسألة اليهودية وتداخل المسألة الفلسطينية مع مسائل الشرق الأوسط الأخرى النفطية والعربية الاستراتيجية إلى عمليات جهادية واستبسالية خالية من الإطار والأفق السياسيين من دون المغامرة بعزل القضية الفلسطينية تماما وبتحويلها في نظر الرأي العام الدولي أكثر مما حصل حتى الآن إلى قضية إرهابية تفتقر للمشروعية الأخلاقية والسياسية وتدفع إلى إجماع عالمي ضدها وراء إسرائيل. ويذكرني هذا الوضع بقول المتنبي :ووضع القنا في موضع السيف بالوغى مضر كوضع السيف في موضع القنا.

ومن هنا أصبح من غير الممكن تجاهل السؤال الذي يطرحه المواطن العربي وربما أيضا جميع أولئك الذين يناصرون الفلسطينيين من غير العرب والمسلمين هو : هل تفيد العمليات الانتحارية القضية الفلسطينية بالفعل أم أنها يمكن أن تجلب الأذى إلى هذه القضية وتضر بمصالح الشعب الفلسطيني وتقلل من حظوظه الضعيفة أصلا في الوصول إلى أهدافه الرئيسية الممثلة بطرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال ؟ ومن الممكن طرح السؤال بأسلوب آخر مثل : هل تفيد سياسة القوة مع اسرائيل أم انها تعني الانجرار إلى الساحة التي تريد لنا اسرائيل أن ننجر إليها لأنها تحتفظ فيها بتفوق هائل علينا, أعني الساحة العسكرية ؟ لكن بالمقابل يقول الآخرون, هل هناك وسائل أخرى يمكننا الاعتماد عليها لتغيير موقف اسرائيل وإجبارها على القبول بأهدافنا؟ وهل تجدي أو هل أجدت الوسائل السياسية والدبلوماسية التي استخدمها الفلسطينيون والعرب خلال العقود الماضية وبعد مؤتمر مدريد في تغيير الموقف الاسرائيلي ؟

لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة أو مقاربة إجابة لها الحد الأدنى من قوة الاقناع والتأثير في الواقع من دون النظر إلى العديد من الاعتبارات المهمة وفي مقدمها:
1 – أن الاندفاع نحو العمليات الانتحارية في فلسطين قد جاء بعد نجاح اسرائيل في سد جميع طرق العمل السياسي والدبلوماسي والسلمي عموما وتبنيها هي نفسها سبيل القوة والإخضاع الوحشي للفلسطينيين بحيث يقبلون من دون نقاش إملاءاتها ومخططاتها التي لا تعني شيئا آخر سوى تكريس الأرض الفلسطينية موطنا دائما ومعترفا به للاستيطان اليهودي الجديد المتوسع كالسرطان على حساب الوجود الفلسطيني. بمعنى آخر لم تترك السياسة الاسرائيلية, وذلك بصرف النظر عن الدوافع التي أملت عليها ذلك, أي متنفس مادي أو معنوي للفلسطينيين. فهي تحاصرهم ماديا على الأرض بقضم مناطقهم ومحاصرتها بالطرق الإلتفافية وبناء دولة الاستيطان والاستعمار الجديدة على أنقاضها. وتحاصرهم سياسيا بسد جميع أبواب الحوار أو النقاش أو التفاوض حول مصيرهم ومصير أراضيهم. وتحاصرهم معنويا بكل أشكال التمييز العنصري والاهانات والملاحقات والتنكيل اليومي.
وانكفاء المقاومين أو جزءا منهم على العمليات الانتحارية لا يشكل استمرارا لخط دائم وثاب بقدر ما يعكس الشعور بقصور جميع الوسائل السابقة عن تحقيق الأهداف بل أي نوع منها. فهو يعكس إذن ردة فعل على سياسة القوة, ويسعى إلى أن يظهر للقيادة الاسرائيلية التي تعتمد صراحة منطق القوة والتي انتخبت لهذا السبب بالذات, أن لكل قوة قوة مقابلة مساوية لها في العنف والقسوة. وأن الموت, كما صرح بذلك زعيم حزب الله حسن نصر الله, لم يعد أو لا يمكن أن يبقى في جانب واحد. فمن الواضح أن الغاية من هذه العمليات التي تستهدف المدنيين هو إجبار القيادة الاسرائيلية على التخلي عن منطق القوة والعودة إلى منطق السياسة والحوار. وفي المقابل فإن القيادة الاسرائيلية التي تستخدم القوة بالفعل لفرض الأمر الواقع على الفلسطينيين توظف هذه العمليات لتعزيز منطق الحرب والقوة وتبريره في نظر الرأي العام العالمي والاسرائيلي معا. فتبدوا العمليات الانتحارية كبرهان على صحة اختيار منطق القوة ورفض المفاوضات, وبالتالي لإضفاء المشروعية ليس على سياسة الحرب الاسرائيلية والاحتلال فحسب ولكن على المشروع الصهيوني كله القائم على طرد الفلسطينيين من أراضيهم والحلول محلهم. ولن يكون استيطان الضفة الغربية سوى التكرار الحتمي والطبيعي وشبه القانوني لمشروع استيطان أراضي ما قبل 1948 التي قامت عليها دولة اسرائيل.
2 - إن هذه العمليات قد تزايدت بشكل خاص في موازاة تفاقم عمليات العزل والحصار والاجتياحات المتواصلة والمتكررة للقرى والمدن الفلسطينية. ولا يكف مخططو هذه العمليات عن القول بأن هذه العمليات تثبت إخفاق استراتيجيات العزل الاسرائيلية والفصل العنصري الذي قامت عليه فكرة حرب السور الواقي والآن فكرة بناء جدار واق يفصل المناطق الفلسطينية عن المناطق اليهودية. فالهدف من هذه العمليات هو رفع تكاليف الاحتلال وسياسة القوة وجعل الأمر غير محتمل بالنسبة للإسرائيليين حتى يقتنعوا بأنه لا يوجد هناك سور أكثر وقاية لهم من إنهاء الاحتلال والخروج من المناطق الفلسطينية والاعتراف بحقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة التي لا تكف الدوائر الدولية منذ الانتفاضة الثانية عن تكرار وعدها لهم فيها.
3 – والاعتبار الثالث هو أن تفاقم هذه العمليات جاء في سياق ما ينبغي أن نسميه انتظار غودو الذي يأتي ولا يأتي والفراغ السياسي الذي تركه التردد الأمريكي في الاعلان عن موقف حاسم من الأحداث الجارية في فلسطين وترك الاسرائيليين يتصرفون في الأراضي الفلسطينية على هواهم بعد أن تجاوزوا كل نداءات ودعوات الإدارة الأمريكية لهم بوقف العمليات العسكرية. فهو تعبير أيضا عن انهيار الثقة بالولايات المتحدة وبقدرتها على التدخل الايجابي أو في صالح السلام العادل, وبالتالي انعدام الأمل بالمستقبل. والغريب أن الأمريكيين الذين لم يكفوا عن القول إنه لن يكون هناك حل ولا وقف للارهاب من دون إعطاء أمل للفلسطينيين, لم يفعلوا شيئا منذ إعلان السلطة الفلسطينية عن وقف العمليات الفدائية في هذا الطريق وتركوا الاسرائيليين يستكملون مخططاتهم الاستيطانية والعسكرية كما يشاؤون.