الخروج من نظام ما بعد الاستقلال

2003-05-02:: الوطن

 

أنهى سقوط بغداد على أيدي القوات الأمريكية حقبة كاملة مما سميناه نظام ما بعد الاستقلال، أو النظام الاستقلالي، في العالم العربي. وجاء هذا السقوط استكمالا لأحداث خطيرة أخرى أظهرت إفلاس النظام العربي في شكله الوطني والإقليمي معا وعجزه عن تلبية حاجات الشعوب العربية والرد على التحديات الجديدة. ولا نعني بالحديث عن نهاية نظام ما بعد الاستقلال التشهير بسلطات لم تعد تحظى فعلا بأية صدقية عند الجمهور الواسع، ولكن الإشارة إلى حقيقة ما نعيشه اليوم من تفكك وانحلال لجميع الأطر والمؤسسات الاجتماعية التي ارتبطت بهذا النظام والقواعد التي حكمت العلاقات داخل البلدان نفسها، وفيما بينها في المنطقة العربية، وبالتالي بما يترتب على هذا الانحلال من انغماس في الحيرة والشك والتردد والفوضى. والسؤال الرئيس المطروح الآن على جميع المشتغلين بالشأن العام من سياسيين ومثقفين وإداريين ورجال أعمال وطنيين هو: كيف نعيد بناء النظام العربي من حيث هو نموذج الحكم والإدارة والإنتاج داخل كل قطر عربي، ومن حيث هو منظومة تعاون وتكتل وتضامن بين المجتمعات العربية نفسها حتى نخرج من حال الفوضى والشك والارتباك هذه؟.
ومن الواضح بالنسبة لي أنه سيكون من المستحيل علينا الخروج من حال الانحلال، وما سينجم عنها من تفتت للقوى وتنازع وصراع ما لم ننجح كمجتمعات في إعادة بناء رؤية موضوعية جديدة وخلاقة لهذا النظام العربي المقبل الذي نتحدث عنه في جانبيه المجتمعي والإقليمي. وتقع على النخب العربية الجديدة التي تتصدى لمهمة إعادة البناء وليس على المثقفين فحسب الدور الأساسي في صوغ مثل هذه الرؤية وفي العمل على نشرها وتطبيقها في الواقع. إذ من المؤكد أنه من دونها لا يمكن قيام أي عمل سياسي منظم جديد ولا إطلاق المبادرة السياسية للمجتمع، كما لا يمكن من دونها التفكير في إعادة بناء المؤسسات المختلفة الاقتصادية والإدارية والقضائية والقانونية وسواها. وهذا يتطلب في نظري حسا نقديا عميقا وجرأة على التخلص من النماذج والكليشيهات القديمة الفكرية والسياسية، وقدرة على التواصل مع قطاعات الرأي العام المختلفة، وارتفاعا على المصالح الآنية. وقدرة النخب المختلفة الثقافية والسياسية والاقتصادية والإدارية والتقنية على أداء هذه المهمة هي التي ستحدد دورها ومكانتها في نظام المجتمع العربي المقبل.
ويستلزم النجاح في تحقيق هذا الهدف الابتعاد عن موقفين، الموقف الغوغائي والموقف التيئيسي، وهما الموقفان اللذان تجليا وما يزال تجليهما بقوة للأسف على النقاشات الكثيرة التي تعرضها على الرأي العام اليوم وسائل الإعلام العربية الواسعة الانتشار. وأقصد بالموقف الديماجوجي ذاك الذي يرفض أن يأخذ في الاعتبار التغيرات الجذرية في الموقف الدولي والموقفين العربي والإقليمي ويريد الاستمرار في الدفاع عن الشعارات نفسها والمواقف والنماذج القديمة معتقدا أن ما يحصل لن يغير شيئا ولا ينبغي أن يغير شيئا من أسلوب العمل المعمول به. ويتجسد هذا الموقف في تلك التيارات التي تعتقد أن الضغوط الخارجية المتزايدة تستدعي أكثر من أية فترة سابقة نسيان الشعارات التغييرية والإصلاحية القديمة والتكتل حول السلطات القائمة التي ما تزال تمثل موقفا وطنيا أو نصف وطني والتي تبقى أقل ضررا من الخضوع للاستعمار. وفي هذا الاتجاه تندرج النزعات التي تنادي بضرورة التركيز على العداء للخارج والتقليل من الحديث عن المسؤوليات الداخلية ومن الدعوة إلى الإصلاحات الديمقراطية. والمقصود بالموقف التيئيسي الموقف الذي لا يكف عن تصوير ما حصل من انهيار داخلي وخارجي في النظام العربي وكأنه نهاية التاريخ، ويستنتج منه خواء العرب وعجزهم وعدم قدرتهم على الارتقاء إلى مستوى ردود الأفعال العقلانية والإيجابية. أعني ذاك الموقف أيضا الذي لا يرى سبب السقوط في طبيعة المؤسسات السياسية والعلمية والأيديولوجية التي تحكمت في نشاطات العرب وجهودهم في العقود الماضية، بل يراه في ماهية العربي نفسه أو بنية عقله أو تفكيره أو ثقافته أو تراثه أو دينه.
قد يقول بعضهم: كيف يمكن للمثقفين المدافعين عن الإصلاح والتغيير أن يلعبوا مثل هذا الدور، بل أن ينجحوا في التواصل مع الجمهور العريض وإيصال وجهة نظرهم إليه وهم الذين حُيِّدوا طويلا وعُزِلوا عن الساحة السياسية بل غُيِّبوا إلى درجة الموت والنسيان؟ في اعتقادي أن تفكيك النظام العربي الراهن وإفلاسه أوجدا شروطا ملائمة جدا لإعادة الاتصال بين المثقف وجمهوره، فالرأي العام العربي اليوم ليس محبطا فحسب ولكنه قلق جدا على حاضره ومستقبله ومتفتح على كل الاقتراحات والأفكار الجديدة، على عكس السنوات الماضية التي كان الرأي العام ميالا فيها إلى الابتعاد عن كل ما هو سياسي وكل ما هو جديد، إذ كان ذلك ينطوي على تهديدات لأمنه وسلامته، يميل الجمهور العربي اليوم بسبب انعدام أمنه وسلامته وخوفه من المستقبل وما يتضمنه من أخطار لا حدود لها إلى البحث عن المفكرين والمثقفين وما يقدمونه من تحليلات وآراء جديدة، مثلما يفعل في أية حقبة أخرى. ومن ناحية ثانية رفع اهتزاز أنظمة الطغيان في عدد من الأقطار العربية كابوس الإرهاب الفكري الذي كان سائدا في السنوات الماضية والذي كان يمنع المثقفين على اختلاف اتجاهاتهم من الإفصاح عن آرائهم باستثناء أفراد قلة يتمتعون إلى حد ما بحصانات استثنائية بسبب مواقعهم الخارجية أو الداخلية. لم يبق هناك شك في أن المثقفين أصبحوا يشعرون بحرية أكبر في الكلام وبحق أكبر في الكلام، لذا هناك تطور في الطلب على النقد وتطور في العرض لو استعملنا المفردات الاقتصادية. ومن ناحية ثالثة أعتقد أن ما حصل من تطور كبير في وسائل الإعلام والاتصال العربية في السنوات الماضية كسر احتكار السلطات المحلية لوسائل الإعلام. وهذا ما يسمح اليوم للأفكار الجديدة في العالم العربي بأن تنتقل عبر الحدود على الرغم من إرادة أجهزة الأمن التي نجحت في العقود الأخيرة في عزل الرأي العام على نحو شبه كامل في كل قطر عربي عن التطورات الفكرية والسياسية والإقليمية والعالمية. هذه التحولات التي عرفناها في السنوات القليلة الماضية بسبب تدهور الأوضاع بشكل رئيس هيَّأت شروطا أفضل لنمو حركة المحاسبة الوطنية في العالم العربي وهي التي يصعب تصورها دون التلاقي لهذه العوامل الثلاثة أعني المثقفين والرأي العام ووسائل الاتصال والإعلام؟
ولا أقصد بالإشارة إلى دور المثقفين هنا تمييزهم عن عناصر النخبة الأخرى أو التقليل من دور هذه العناصر في المرحلة المقبلة. فلا يسد المثقف مسد رجل السياسة ولا رجل الإدارة والتسيير ولا رجل الأعمال في بناء الحركة التغييرية المطلوبة. ولا يعوض بناء الرؤية النظرية مهما كانت درجة اتساقها وجدتها عن بناء حقل السياسة الذي يشكل مهمة السياسيين بالدرجة الأولى. فالذي يميز موقف رجل السياسة عن موقف رجل الثقافة الذي يتعامل أساسا مع الوعي العام هو أنه يتعامل من منطلق ميزان القوة وفي سبيل تكوين القوة المنظمة التي تستطيع وحدها القيام بفعل وتحقيق برنامج سياسي. بيد أن المثقفين ليسوا فقط مثقفين بل هم مواطنون كذلك. وفي هذا المعنى ليس هناك ما يمنعهم أيضا ـ وهذا ما هو حاصل اليوم بالتأكيد ـ من أن يكونوا عناصر فعالة في إعادة إحياء العمل السياسي نفسه من خلال مساهمتهم في بناء القوة الاجتماعية والسياسية التي لا بديل عنها لإحداث أي تغيير. ونعرف من تاريخ السياسة الحديثة في العالم العربي أن المثقفين لعبوا دورا كبيرا منذ عصر النهضة وخلال حقبة الكفاح ضد الاستعمار في تكوين الأحزاب السياسية بمختلف اتجاهاتها الليبرالية والاشتراكية والقومية، وخلال معركة التحرر والاستقلال.