الانتفاضة لم تتوقف ولن تتوقف

2002-10:: الوطن

بالرغم من الهزيمة الدبلوماسية التي تكبدتها الحكومة الاسرائيلية المتطرفة من جراء تصويت مجلس الأمن على القرار الذي يطالبها بفك الحصار عن مقر القيادة الفلسطينية والانسحاب بقواتها من المدن الفلسطينية لا يزال النقاش مستمرا في العديد من المواقع العربية, في فلسطين وخارجها حول حقيقة ما جسدته الانتفاضة وما أمكن للشعب الفلسطيني تحقيقه من خلالها. وتدفع الظروف القاسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني اليوم بعد عامين من الحرب الاسرائيلية التدميرية الكثيرين إلى الشك في انجازات الانتفاضة وربما في فائدة المقاومة المسلحة وجدواها. وبعكس ما يمكن أن يثيره مثل هذا الموقف من غضب لدى البعض فليس هناك أي خطر في نظري من فتح النقاش الوطني الفلسطيني ولا أي سبب للتشكيك في مشروعيته أيضا. فالانتفاضة هي استراتيجية عمل سياسي نابع من تفكير بشري يحتمل الخطأ والصواب. ومن دون القبول بطرح جميع الاستراتيجيات التي يمكن لشعب أن يطبقها لتحقيق أهدافه للنقاش يكون من الصعب تجاوز الأخطاء وتطوير السبل والوسائل الضرورية لتحقيق النصر. بل إن مثل هذا الطرح الذي يواجه فيه الرأي العام الفلسطيني بشجاعة وعقلانية مهام العمل الوطني للشهور والسنوات القادمة يمكن أن يمثل دليلا على نضج الوعي الفلسطيني الوطني وتنامي الثقة بالذات والشعور بالمسؤولية العمومية. ولعل التضحيات التي قدمها هذا الشعب خلال العامين الماضيين فقط وشعوره بأنه لا يزال قادرا على تقديمها ومستعدا لذلك هو الذي يضع هذا الحوار الفلسطيني الوطني الداخلي في مكانه الحقيقي, أي كمحاورة ذاتية وتفكير مشترك لا مصدر نزاعات على مواقع أو مكاسب جزئية إعلامية أو سياسية.
ولا أخفي أنني كنت من بين أولئك الذين كانوا يقدرون بأن المقاومة السلمية كان من الممكن أن تعطي نتائج أفضل في فلسطين بسبب الوضع السياسي والمعنوي الاستثنائي الذي يميز موقف اليهود عامة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وما بعد النازية. لكن أنا لا أعيش في فلسطين ولا أعاني ما يعاني منه الشعب هناك وليس لدي بالضرورة المعطيات الكافية كي أعتبر تقديراتي هي التقديرات الصائبة والصحيحة.
وكي ما يكون النقاش في هذا الموضوع سليما من الناحية المنطقية والأخلاقية ولا يؤدي إلى الاساءة إلى التضحيات الهائلة التي قدمها الفلسطينيون وسوف يقدمونها ينبغي أن نأخذ بالاعتبار بعض الأمور الأساسية.
الأمر الأول أن الشعوب لا تنتفض إلا عندما تفقد الأمل في أي طريق آخر سلمي للوصول إلى أهدافها. فلا أحد يختار عن تصميم وسابق إصرار أن يرمي بنفسه في أتون معركة عنيفة يعرف أنها ستكلفه خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات إذا كان يعتقد أن هناك سبلا أقل تكلفة لتحقيق جزء منها. ولم يعد الفلسطينيون إلى استراتيجية الانتفاضة إلا عندما قطعوا الأمل نهائيا بعد عشر سنوات من المفاوضات والتنازلات والانتظار بإمكانية التوصل إلى أي حل مع الطرف الاسرائيلي بالوسائل السلمية. ومما عزز هذا الاقتناع عودة اليمين القومي المتطرف إلى الحكم في اسرائيل وسعيه المكشوف منذ قدومه إلى السلطة إلى ضرب عملية المفاوضات وإلغاء الاتفاقات السابقة بما فيها اتفاق اوسلو.
والأمر الثاني أنه لم يكن بإمكان أحد, بما في ذلك المنظمات الوطنية والاسلامية, أن يدفع الشعب الفلسطيني إلى بذل التضحيات التي بذلها لو لم يتولد لدى هذا الشعب الاقتناع بأن هذه التضحيات ضرورية وأن الهدف يستحق التضحية وأنه من دون هذه التضحية سيكون من الصعب منع الحكومة الاسرائيلية والرأي العام اليهودي من تنفيذ مخططاتها الاستعمارية. فلم يأت الانخراط الواسع في اعمال الانتفاضة نتيجة اليأس من عملية التسوية السياسية فحسب ولكن أيضا بسبب الايمان بأن إعادة الاسرائيليين إلى المفاوضات الجدية التي بدأوا يتخلون عنها لن يتحقق إلا عندما سيدركون أن الفلسطينيين ليسوا وحدهم الخاسرين من رفض التسوية السياسية.

هل حققت الانتفاضة أهدافها التي تبلورت بشكل واضح في الاستقلال وإقامة الدولة الفلسطينية في الضفة وغزة؟ بالتأكيد لم يتحقق ذلك. لكن ينبغي القول أيضا أن ضعف الانجاز جاء نتيجة أحداث تاريخية غير متوقعه أهمها من دون شك الهجوم على برجي التجارة العالمية في نيويورك وما أعقبه من اصطفاف امريكي كامل وراء اسرائيل ومطابقة المقاومة الفلسطينية مع الارهاب الدولي وإعطاء الحكومة الاسرائيلية المتطرفة صكا على بياض للقضاء بجميع الوسائل عليها. كما ينبغي القول إن سياسة أوربة وسياسات الدول العربية لم تكن على مستوى يسمح للانتفاضة أن تعدل ولو قليلا من الاختلال الهائل في موازين القوى الذي قاد إليه وضع واشنطن ثقلها كله مع حكومة الليكود.
لكن مهما كان الحال, لا ينبغي أيضا نسيان أمرين.
أولا أن الانتفاضة لم تتوقف بالرغم من الضغوط الهائلة التي تتعرض لها سياسيا وعسكريا. لا بل إنه ليس من المبالغة القول إن الانتفاضة قد انبعثت من جديد أو عرفت ولادة جديدة بعد أن جدد الشعب الفلسطيني بتضامنه الاستثنائي مع محاصري المقاطعة استفتاءه لصالح استمرار الكفاح ضد الاحتلال وتأكيده كما لم يحصل من قبل. وفي اعتقادي أن الانتفاضة لن تتوقف أبدا وإن خفت وتيرتها وتراجعت قوتها في هذه الحقبة أو تلك. ولن يكون من الممكن ايقاف المقاومة الفلسطينية من دون تغيير في السياسة الاسرائيلية والأمريكية بما يسمح بفتح آفاق جديدة للعملية السياسية والانخراط جديا على طريق الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية وفي مقدمها الحق في الاستقلال. فهي بالفعل انتفاضة الاستقلال كما عرفت منذ اندلاعها قبل سنتين وستبقى كذلك.
وثانيا, لا يعني القول بأن الانتفاضة لم تقد الفلسطينيين نحو تحقيق هدفهم الرئيسي الذي رموا بأنفسهم فيها من أجله, أي الاستقلال, أنها لم تحقق شيئا أو لم تحقق شيئا كثيرا. فبالرغم من أن الثمن الهائل الذي اضطر الفلسطينيون إلى دفعه والانتكاسة التي تعرض لها الكفاح الفلسطيني فإن اسرائيل ما بعد الانتفاضة لن تكون أبدا كما كانت قبلها. وقد أصبح من المفروغ منه اليوم أن أمن اسرائيل وسلامها لن يتحققا من دون التفاهم مع الشعب الفلسطيني كما أصبح من المفروغ منه عند جميع الأطراف الدولية, بما في ذلك في واشنطن, الحليف غير المشروط لاسرائيل, أنه لا حل للنزاع في الشرق الأوسط ولا وسيلة لمقاومة نزعات العداء للغرب وتنامي المقاومات المختلفة والمتعددة الأشكال لمواجهة نفوذه ما لم يحصل الفلسطينيون على دولة مستقلة وقابلة للحياة. وفي اعتقادي أن الانتفاضة لا تهدف ولا يمكنها أن تجعل من هدفها تحقيق هزيمة عسكرية لاسرائيل وهي غير قادرة على ذلك ولا يهمها أيضا. إن ما تهدف إليه المقاومة وما سوف تصل إليه هو كسب المعركة السياسية ضد اسرائيل كما هو الحال في كل حروب التحرير الوطنية, و كما حصل من قبل للشعب الجزائري في مناهضته للاستعمار الفرنسي. ولا تنجح اسرائيل اليوم في مواجهة ضغوط الرأي العام الدولي الأهلي والرسمي إلا بسبب الحماية الاستثنائية التي تضمنها لها الولايات المتحدة الامريكية في ظرف دولي استثنائي يعطي لواشنطن وضعا هجوميا في العالم كله ويقلل إلى حد كبير من هامش مناورة الدول الكبرى الأخرى. لكن لن يكون بإمكان واشنطن أن تحتفظ إلى أمد طويل بهذا الوضع الهجومي واستمراره سوف يجر لها وللعالم أجمع مشاكل اقتصادية وأمنية من الصعب احتمالها لفترة طويلة. باختصار لقد فرضت الانتفاضة على الرأي العام الدولي كما فرضت على الرأي العام الاسرائيلي بل والعربي أيضا احترام الشعب والقضية الفلسطينيين. وما لم تحصل انقلابات جيوسياسية كبرى في المنطقة تسمح لاسرائيل بتأجيل استحقاقات إنهاء الاحتلال, وسيكون ذلك نتيجة شلل الحكومات العربية وإخفاقها في الرد على التحديات الامريكية الاسرائيلية, فلن يكون هناك مهرب في اسرائيل من الاعتراف بالاستقلال الفلسطيني سوى الانتحار.