الاسلام والنهضة الاجتماعية: بين السياسة والهداية

1995-03-01:: مجلة نزوى، عمان

المشكلة الحقيقية التي يطرحها الفكر الاسلامي في العصر الحديث ليست الاهتمام بالسياسة ، فهذا الاهتمام من علائم النهضة الاجتماعية الحديثة عامة. انها تكمن ، بالعكس ، في الخلط بين الأهداف الدينية والسياسية ، وبالتالي العجز عن التمييز، ثم الاختيار، بين الوسائل والقواعد والتقنيات المختلفة المرتبطة بممارسة هذين النشاطين الاجتماعيين الاساسيين. ولعل نمط السياسة الرسمية الذي ساد في العقود القليلة الماضية في المجتمعات العربية، والذي يجعل من العمل السياسي منطقة محرمة من جهة، وضعف الجهد التجديدي في الاسلام المعاصر من الجهة الثانية، هما العاملان الرئيسيان المفيدان في تفسير هذا الوضع. ومن هنا يتوقف نجاح الفكر الاسلامي الحديث في تجاوز تناقضاته ولعب دور ايجابي في إعادة بناء الدولة والمجتمع السياسي على قدرته على الحسم في طبيعة نشاطه الجوهري وأهدافه الرئيسية، والطرق والوسائل العملية لتحقيقها.
والمسألة الأولى التي يجب التأكيد عليها، في محاولة تجاوز الانقسام والنزاع في الدين والشريعة والسياسة، هي التمييز بين الاسلام كجماعة ودين من جهة، والحركة الاسلامية كفريق سياسي يجتهد في تفسير الواجبات الدينية وتأويلها تأويلا سياسيا من جهة ثانية . ان من الاخطاء الكبرى ان يعتقد الإسلاميون مثلا ان الانتماء الى الاسلام لم يعد اليوم ممكنا إلا بالانتماء الى الرؤية السياسية التي يمثلها التيار الاسلامي المعاصر للاسلام . ولا شك أن هناك ميلا، مقصودا أو عفويا، في صفوف العديد من الاسلاميين ، وليس كلهم بالطبع ، للتوحيد بين الاسلام والاسلامية الجديدة ، كما لو كانت النظرة السياسية الى الاسلام ، هي عودة الى الاسلام ، او كما لو كان نشوء تيار السياسة الاسلامي ونموه هو التعبير الاصيل الوحيد عن هذه العودة . أو كما لو أن الاسلام يبعث من جديد، ولم يكن قائما من قبل ، أو كأن غير الاسلاميين ليسوا مسلمين . فلا يمكن لمثل هذا التصور إلا أن يقود الاسلاميين إلى فكرة خطيرة مفادها انهم مكلفون بأسلمة المجتمع او اعادة اسلمته ، وهو ما وقعت فيه كل الحركات الدينية التي خلطت في القرون الوسطى بين مهام الهداية ومهام السياسة، ولم تعرف كيف تميز بينهما. 
وفي نظري لا يمكن لهذا الخلط بين الانتماء للتيار الاسلامي والانتماء للاسلام ، كما يفعل أغلب الاسلاميين في يومنا هذا، إلا أن يقود إلى منزلق توحيد الاسلاميين أنفسهم بالاسلام ، والعيش فيما يشبه الشك الدائم بأن من لم يحذ حذوهم من المسلمين ليس مسلما تماما، أو لا يزال منقوص الدين وهذه هي في الواقع الجدلية التي كانت تتكون على أساسها الانشقاقات والكنائس الدينية في المسيحية، والتي نجا منها الاسلام نسبيا بما كان يتمتع به من حصانات عقيدية تجعله يقبل التعددية ويشجع على الاختلاف، ويرفض روح الإمعية والايمان بالتقليد والاقتداء، دون تفكير شخصي، ودون إعمال للعقل والتفكر في خلق الله وآياته.
ومن أجل هذا استطاع الاسلام ان يمتص جزءا كبيرا من روح الشقاق والقطيعة التي وقعت فيها الاديان الاخري. وبدل ان يطور في ذاته جدلية الخوف من الهرطقة والخروج عن الدين عمل على تطوير ما كان وما يزال أكبر تجسيد لروح الانفتاح والتفتح والانسانية والعقلانية ، أعني فكرة الاجتهاد الحر والمفتوح . وهكذا صار كل خلاف واختلاف داخل العقيدة والتفسير والتأويل ، ضمن حدود الاركان الكبرى، او الاصول التي لا تقوم العقيدة من دونها، اجتهادا شخصيا وعقليا، يضمن حرية الفكر وحرية الاعتقاد، ويؤلف مصدر نبوغ المدارس الفكرية والدينية المتطورة بتطور العصور، ومن ثم وسيلة للتكيف والتأقلم التاريخي والحضاري لمجتمعات المسلمين . وهذا هو الذي ميز الموقف الديني في الاسلام عما كان عليه الحال في المسيحية التي خضعت لتعليمات وسلطة الكنيسة المركزية، وهى تقضي بان حق الاجتهاد والتفكير والتأويل ليس مشاعا بين المؤمنين ولكنه حكر على طائفة من المتبحرين في العلم الديني. ويهذا صار الدين كنيسة، وهذا هو المعنى الاساسي للكنسية ، ومتى ما اصبح الاجتهاد حكرا على فئة معينة، زال بالضرورة الحق الطبيعي والالهي في الاختلاف وفي الاجتهاد والتفسير، وصار من الطبيعي والضروري اعتبار كل من يخالف هذا الاجتهاد المرفوع الى مرتبة الوحي او الالهام الخاص . مهما كانت مظاهر اختلافه هذا، من المارقين او الكافرين .
وبالمقابل ليس من الصعب إدراك ما يمثله الاسلام السياسي اليوم من اختلاف في التفسير وفي رؤية الدور الذي يلعبه الدين في المجتمع .فهو مدرسة جديدة متميزة عن جميع المدارس التي عرفها تاريخه من فقه وحديث واصول وتصوف واعتزال وتشيع وطرقية . وبهذا المعنى فهو تعبير عن استمرار التغير والتحول داخله مع تبدل الظروف والحاجات . والسبب الرئيسي في تطور هذه المدرسة ، منذ النصف الاول من هذا القرن ، وتصاعد قوتها ووزنها في عهدنا هذا، هو تطور السياسة العربية ذاتها، أو التناقضات التي تقوم عليها، والمشاكل التي أفرزتها ولا تزال غير قادرة على مواجهتها او تقديم الحلول لها. ولا نعني بها المشاكل الاقتصادية ولكن مشاكل تحقيق الاجماع وتوحيد القرار وتحقيق التضامن العام وتوحيد روح الشرائع وتحقيق الانسجام بين المنابع الروحية والخلقية والدساتير والقوانين النظرية المعمول بها. وهى بالاساس مشاكل سياسية بالمعني العميق للكلمة ، اي بمعنى تحديد الاسس المبدئية التي يقوم عليها كل اجتماع انساني،. بما هو اجتماع مدني واع ومختار، وليس كنتاج تلقائي لوجود العصبية التقليدية او الشوكة القهرية .
والمسألة الثانية تتعلق بضرورة التمييز، ولا نقول الفصل، بين الهداية الدينية والسياسة العملية . فهدف السياسة الرئيسي بالمقارنة مع الدين ليس تغيير افكار الناس واعتقاداتهم، ولكن رعاية مصالحهم ، سواء نظرت الى هذه المصالح من منظار الشريعة الدينية او الفلسفة العقلية.ولا يمثل العمل على تغيير عقيدتهم في اطار العمل السياسي الا وسيلة من وسائل السياسة . ولذلك كثيرا ما يختلط هذا النشاط العقدي عند السياسيين بالإعلام، وبالنشاط الدعائي بالمعني السليم للكلمة، اي التعريف بالافكار والبرامج والدفاع عنها. وبالمقابل ان الهدف الأول للدين هو إصلاح عقائد الناس وتكوين ضمائرهم ، والمراهنة عليها لاقامة النظام والعدل. ورهانه يقوم كما هو واضح على تهذيب الفكر والسلوك بالكلمة الطيبة والمثال الصالح والتربية العقلية لا على القسر والإكراه واستخدام القوة بما في ذلك قوة القانون. وعدم استيعاب هذا التمييز وتمثله بعمق هو الذي يضع الفكر الحركي الاسلامي الراهن في مأزق حقيقي، لانه يوقعه في تناقضات عميقة ويدفع الى اساءة فهمه من قبل خصومة وجمهوره على حد سواء، ويحرمه من الوعي السياسي اللازم لبلورة البرامج العملية التي يفتقر اليها الى حد خطير.
فاذا كان من الطبيعي استلهام القيم الدينية في العمل السياسي، فإنه من المستحيل التقدم فيه من الناحية العملية اذا نظر اليه كوسيلة لتحقيق شيء اخر غير رعاية المصالح البشرية ، بوسائل بشرية ايضا، وبالتالي دون تحديد الاولويات والاهداف الاساسية، بالمقارنة مع اهداف الهداية الروحية. وقد بينت جميع التجارب التاريخية، وفي مقدمتها مثال الخلافة الراشدة نفسه، بما لا يدع مجالا للشك، انه في كل مرة اضاعت فيها السياسة وعيها الدقيق بموضوعها وغاياتها ووسائلها، نشأ الاختلاط بين مهام الرعاية ومهام الهداية، وولد الصراع العنيف الذي لا حل له بين الدولة والدين والعقل والوحى، ونشأ الخلاف بين الفقيه ورجل الدولة. وفي العصر الحديث، انهارت الشيوعية والفاشية انهيارا مدويا، لان خلطت بين مهام الدولة التي هي إدارة المصالح العامة، بصرف النظر عن عقائد الأفراد واعتقاداتهم، ومن دون التمييز بينهم، والاعتقادات الخاصة بما فيها النظريات العنصرية كما في الفاشية أو النظريات الاشتراكية، فخضع تحقيق المهام السياسية العملية لأهداف العقيدة الايمانية وتحول الجيش والإدارة والاقتصاد إلى توابع في خدمة الفقيه والنخبة الدينية ورسالتها التبشيرية والدعوية، كما اصبح تأكيد نشر العقيدة وسيطرتها ذا اسبقية على انجاز مهام التنظيم والادارة الاقتصادية والاجتماعية العملية . ان الوظيفة الرئيسية للدولة ليست الهداية . كما ان السياسة نفسها ليست ، من حيث هي نشاط تربوي، من الوظائف التي تختص بها الدولة . وليس هناك من شك في ان المعركة التحضيرية المادية والروحية التي تواجه شعوب العالم الفقيرة ومنها الشعوب العربية ، بحاجة الى جهود متضافرة ، والى توظيف كل ما لديها ولدى الانسانية من رأسمال حي، رمزي ومادي، ولكن هذا التوظيف يحتاج في الوقت نفسه الى تحديد ادق للمعايير والمفاهيم التي تستخدمها، والتي لا بد ان تقود وتوجه سيرتها. ومن هنا فان الخروج من جو النزاع والصراع الراهن يحتاج الى تمييز ثالث مسبق في الحداثة بين الحضارة ، او ما يمكن ان يعتبر المكتسب الانساني الشامل والذي يمكن ولابد من تعميمه على جميع الثقافات والامم ، بل الذي يشكل تعميمه التحدي الاول للشعوب التي لا تريد ان تسقط في الهامشية واللاتاريخية وتزول مبررات وجودها المستقل ، وبين المدنية التي هي في نظرنا الطريق التي تسلكها الجماعات التاريخية الحية ، في هذه الحقبة او تلك ، للوصول الى هذه المكتسبات الكونية الحضارية .وهذه الطريق التي لا يمكن تعميمها، لانها مستمدة من خصائص الجماعة وعبقريتها الخاصة وظروفها المحلية وتاريخيتها المتميزة وثقافتها وحساسيتها الحميمة ، هي التي ينبغي شقها في كل مرة من اجل استيعاب المكتسب الحضاري العام . ان مفهوم الحرية الفردية والمواطنية المتساوية الذي يشكل في العصر الراهن شرط قيام الجماعات السياسية الحية ، في الغرب كما في الشرق ، لا يمكن ان يتأسس مثلا في الهند على رمزية الثورة الفرنسية او الامريكية ، اي على ما لم تعرفه شعوبها، وما لا يمكن ان يتحول اذن الى سند حقيقي وفاعل لاي تجربة سياسية او شعورية . فلابد لكل جماعة ان تؤسس لحرياتها انطلاقا من ممارستها التاريخية ونهوضها الخاص ومعاركها الفكرية والعملية وصراعاتها، ولغاتها والامم التي لا تنجح في صوغ معنى الحرية في كلمة من لغتها لن تستطيع ان تفهم ممارسة الحرية ولا مضمونها.
وفي غياب مثل هذا التمييز بين الحضارة والمدنية ، بين المكسب الموضوعي العالمي، والذات التي تبني الاستراتيجية التاريخية لاقتناصه وهضمه ، يصبح التفريق مستحيلا بين التغريب وبين التجديد الحضاري الحقيقي والجدي والثابت . وهو ما عرفته في العقود الماضية كل شعوب العالم الثالث ، وما قاد الحداثة في اقطارها الى طريق الفشل والسقوط . والتغريب مصطلح يستخدم لوصف نمط من انماط التحديث الذي يتميز بالتقليد الاعمى للنموذج الغربي، والذي يهتم اذن بالشكل والقشور اكثر مما يقوم بنقل الوظائف الجوهرية في عملية التحديث . او انه لا يميز بين الخصوصية الغربية والمكتسب العالمي في نمط الحضارة المعاصرة ، مما يحرمه من التمييز بين الجوهري والعرفي في هذه الحضارة ، او بالاحري، بين السير ورات التاريخية التي لا تعاد، والمكتسبات النهائية التي يمكن ان تستملك . وليس اخطر عل شعب من ان يعيش سجين سيرورات تاريخية يعتقد ان الحصول على مكتسبات الحضارة لايتم الا بتقليدها او اعادة انتاجها في بلاده وتاريخه .ذلك انه في هذه الحالة يقوم دون ان يدري بمصادرة التاريخ ، ويعد نفسه لا
محالة للنقل دون هدى ودون نظرية ، بل دون نظرة نقدية في الحضارة والتاريخ في الوقت الذي يحتاج فيه التطور والتحول الى انفتاح الممارسة امام كل الاحتمالات . فالتغريب ينطوي في الواقع على فلسفة او منطق باطني واجرائي غير مفكر به هو منطق التوحيد او المطابقة التاريخية بين المعاصرة والثقافة الغربية ، ولا يتصور ان من الممكن ان تكون هناك معاصرة او حضارة معاصرة من دون التبني الكاهل للقيم الثقافية الغربية ، او ان من الممكن ان تكون هناك طرق أخرى للو صول الى الحداثة او المعا صرة غير الطريق الغربي او ان من الممكن اسناد العمليات التحديثية الرامية الى ادخال العالم القديم في الحضارة المعاصرة على منظومات قيم ثقافية غير التي تسود اليوم في الغرب ، انه يوحد باختصار بين الثقافة العربية ، والثقافة عامة ، والحضارة، اي بين محرك التاريخ وبين منتجاته من قيم وافكار وموضوعات ونظريات .
ان الذي فتح العيون على حقيقة الاستلاب النابع من تحقير التاريخ الخاص والذاتية المحلية ، وابرز مخاطره فيما يتعلق بالاستقلال الفكري والمادي، ومن ثم في السيطرة على عملية تمثل الحضارة واستيعابها، لم يكن اخفاق التحديث الراهن فحسب ولكن اكثر من ذلك الاعتقاد الجديد في الغرب والشرق بأن من الممكن للشعوب النامية ، بل من الحتمي لها، ان تراهن في اقامة تجربتها التحديثية على اسس اخلاقية وروحية وثقافية مستمدة من رأسمالها الخاص ، وقائمة على احيائه وتجديده . وانه ليس بامكانها ، حتى لو ارادت ذلك ، ان تنسخ التجربة التاريخية للدول الصناعية الكبرى دون ان تغامر بمسخ نفسها، وبالتالي دون ان تفقد انسانيتها وتتحول الى قزم غير قادر عل التفكير استقل والممارسة المبدعة . ولا يعني ذلك انها سوف تنجح بالتأكيد في هذا الاحياء. فمن الممكن جدا ان تبقى دون اي مقدرة ذاتية ، وان تفرق في البربرية التي دخلت في مراحلها الأولى على كل حال .
ولكنه يفسر احد الدوافع الرئيسية لاستعادة تراث الاسلام ، والمراهنة الجماعية عليه . فليس الاحياء تجديدا مضمونا سلفا او محسوما، ولكنه معركة ذاتية تخوضها الشعوب والثقافات حتى تستطيع ان تتحول من مستهلك للحضارة الى منتج لها. وليست المعاصرة نقلا لتجربة وانما هي خلق لدينامية ابداع وتجديد ذاتيين . انها ليست مراكمة لتقنيات ، كما هو الحال اليوم ، وانما هي تركيب لمنهج خلق التقنيات وتصميمها.على سؤال : هل تحتاج النهضة او الارتقاء الى مستو ى المعاصرة ، وهل يحتاج التقدم بالفعل لازالة تأثير الدين في الحياة العمومية ، والاجتماعية والسياسية ، وهل تحتاج الوطنية والابقاء على الهوية المحلية والذاتية محاربة الواقع ومنظوماته القيمية الجديدة ، او ما يطلق عليه اليوم عموما بالعلمنة او العقلنة "أي في الواقع ميلاد نمط عقلاني مختلف في اسبقياته عن النمط العقلاني الماضي"، ليس هناك الا اجابة واحدة : إن النهضة تفترض الاهتمام بالدين كما تفترض الهوية استهلاك الواقع الراهن المعاصر بمعاصرته وحداثته فى الوقت نفسه انها تفترض وحدتهما وتعاونهما لا التفريط باي منهما او استمرار الصراع بينهما. لكن في الحالتين ، هذه الوحدة وهذا التعاون مرهونان ضرورة بالتجديد، اي باعادة ترجمة الدين وقيمه العملية واعادة ترجمة الحداثة وقيمها العقلية . وليس بناء العقيدة الاجتماعية المحفزة والمهمة التي تحتاج اليها اعادة بناء الدين والدولة معا الا ثمرة لهذه الترجمة التي تجعل من التنافر انسجاما ومن القطيعة تواصلا ومن الاقتتال تعاونا اي تنشىء قاعدة القيم والمعايير والغايات الواحدة والمقبولة والمتسقة في المجتمع .