الأسدية في السياسة

2006-04-01:: مساهمة في كتاب مركز دراسات القاهرة لحقوق الانسان

 دور السياسة الإقليمية في تحقيق السيطرة الداخلية
1- مرحلة الصعود والبناء
أمام ما تواجهه سورية من تحديات كبيرة لم يسبق أن تعرضت لها من قبل، وما يمكن أن ينجم عنها من تغيرات دراماتيكية في عاصمة الأمويين، أصبح البحث في التجربة السياسية التي قادها الرئيس حافظ الأسد، وتسليط الضوء على نموذج الحكم الذي بلوره خلال عقود ثلاثة من السلطة المتواصلة، ذا أهمية خاصة اليوم في أي مسعى لمعرفة اتجاهات التطور السورية، سواء ما تعلق منها باحتمالات تطور النظام القائم أو بقدرة البلاد والقوى الاجتماعية والسياسية على التعامل مع الأوضاع المستجدة والتحولات الجارية في المشرق والعالم العربي عموما.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن نظام الأسد قد شكل، في ما أظهره من استقلالية وما أعطاه لسورية من مكانة استثنائية في المنطقة المشرقية، لغزا لا يزال الباحثون يسعون إلى سبر غوره حتى اليوم. ومارس بسبب ذلك نوعا من الافتتان على كل أولئك الذين احتكوا به، سواء أكانوا من المراقبين الخارجيين أو من أوساط الرأي العام العربي والعالمي. ومصدر هذا الافتتان ما بدا على النظام من قدرة كبيرة على الجمع بين التناقضات، وتبديل السياسات، والانتقال من تحالف إلى آخر، من دون أن تختل توازناته الداخلية أو تتأثر صورته الخارجية. وبالفعل كيف يمكن أن نفسر نجاح هذا النظام في الجمع بين الاستخدام المفرط للقوة، وما يعنيه من استهتار بالمعايير القانونية والسياسية، وما اتسم به في الوقت نفسه من مظهر السلطة العقائدية والمواقف المبدئية التي جنبته إلى وقت قريب أي اتهامات أو انتقادات جدية خارجية رسمية وشعبية معا؟ وكيف يمكن التوفيق بين ما تميزت به قيادته السياسية من الحنكة والقدرة التكتيكية من جهة والاستخدام المفرط للعنف، الذي طبع سياساته منذ انقلاب الثامن من آذار مارس 1963، في مواجهة منافسيه الداخليين من جهة أخرى؟ وكيف نفسر نجاحه في تكوين صورة عنه لدى الرأي العام السوري والعربي بوصفه النظام الأكثر تعبيرا في سياساته عن المصالح العربية الجماعية، والمدافع الأول عن القضية الفلسطينية، في الوقت الذي لم يتردد فيه في سحق العديد من القوى العربية المجاورة التي غالبا ما خاض ضدها حروبا إخضاعية ضارية، وفي مقدمها منظمة التحرير الفلسطينية ولبنان والأردن وغيرها، في سبيل تعزيز مكانة سورية وتأكيد أسبقية مصالحها على أية مصالح أخرى، ومن وراء ذلك تكريس شرعية النظام؟ وكيف يمكن أن نفسر نجاحه في الجمع بين أكثر الخطابات الايديولوجية إنسانية وراديكالية، كحكم العمال والفلاحين والطوائف المهمشة والفقيرة، وأكثر الممارسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية انغماسا في انتاج شبكات المصالح الخاصة، العائلية والزبائنية، وتكوبن الثروات الشخصية الاستثنائية بجميع المعايير، حتى بمعايير البلدان الخليجية النفطية ؟ وكيف يمكن أن نفهم العلاقة بين مظهر الجمهورية العلمانية المستقلة تجاه الانتماءات الدينية التي قدمها عن نفسه، والاعتماد الكلي تقريبا في بقائه على تعبئة العصبيات البدائية وتعميم الحسابات والمعادلات العشائرية والطائفية والمناطقية، بل والعائلية؟ وكيف أمكن له أن يجمع في الوقت نفسه بين مظهر الجبروت والقوة المليئة، وما تميز به الوضع السوري في عهده من الفراغ السياسي والفكري والأخلاقي معا؟
بالرغم من كل مظاهر الاستقلالية والثبات التي اتسم بها في الأربعين سنة الماضية، لم يضمن نظام البعث، الذي حصلت في ظله أكبر عملية إعادة توزيع للثروة والسلطة والجاه لصالح نخبة جديدة كانت لحقبة طويلة هامشية، الاستمرار والبقاء بفضل ما تمتع به من شعبية، بقدر ما جاء نتيجة مراكمته للقوة السياسية، المادية والمعنوية التي وحد بها أصدقاءه وأرهب أعداءه[1]. ويرجع المدافعون عن النظام في سورية وغيرها مصادر هذه القوة التي حكم بها الأسد سورية حكما مطلقا خلال أكثر من ثلاثين عاما، وسمح لنفسه بأن يعين ابنه خلفا له، إلى نظرية رئيسية مفادها أن نظام البعث كان جزءا من الحركة الشعبية القومية العربية التي تنامت في الخمسينات والستينات. وأن حافظ الأسد هو الذي وضع، بحركته التصحيحية عام 1970، هذه التجربة على طريقها السليم. ومما يشجع على هذا التفسير واقع أن حزب البعث العربي الاشتراكي قد مثل خلال المرحلة ذاتها، بعقيدته وكفاحه العملي معا، جزءا لا يتجزأ من هذه الحركة بالفعل. وفي هذا المنظور يظهر حافظ الأسد على أنه واحد من أولئك القادة الكبار الذين جسدوا مرحلة الصراع الوطني والقومي العربي، خلال حقبة ما بعد الاستقلال، مثل عبد الناصر وأحمد بن بله والهواري بومدين ومعمر القذافي، وغيرهم من الزعماء العرب التقدميين، أو الذين وصفوا بهذا الوصف لتبنيهم برنامج تحويلات للمجتمعات تنسجم مع خط الحداثة والعدالة الاجتماعية ورفض التبعية والهيمنة الأجنبية.
وبالمقابل يشدد المناوئون للأسد على نظرية الاستخدام الموسع للعنف الذي واجه به الحكم البعثي خصومه منذ استلامه السلطة في الثامن من آذار 1963، حيث قضى على القوى الناصرية المعادية بالقوة، كما ضرب بعنف جميع حركات المقاومة والاحتجاج المدنية التي قدمت أحداث حماة في عام 1982 نموذجا معبرا عنه. وتكاد التفسيرات التي يقدمها المحللون السياسيون المحايدون لقدرة النظام البعثي الذي افتقر إلى الشعبية والقاعدة الاجتماعية الوطنية، على الاستمرار والبقاء لأكثر من أربعين عاما، تتمحور حول عامل رئيسي وحيد: استغلال ظروف الحرب الباردة التي مكنت الأسد من بناء قوة عسكرية وسياسية استثنائية، بالتحالف مع دولة عظمى هي القوة السوفييتية وتحت تغطيتها الاستراتيجية.
لكن أصبح من الواضح اليوم، بعد مرور أربعة عقود على قيام النظام البعثي في سورية، أن جدول أعمال الحكم البعثي لا يتطابق أبدا مع جدول اعمال الحركة القومية العربية الذي تمحور حول الوحدة العربية، واستخدم الحركة الشعبية للضغط على النظم المحافظة لدفعها لتبني أجندة وطنية تضمن استقلال القرار العربي القومي وابتعاده عن التبعية لقرارات الدول الأجنبية، والغربية منها بشكل خاص. بل بالعكس من ذلك، أظهر نظام البعث، وعهد الأسد منه بشكل خاص، اهتماما واضحا بإعادة بناء الموقع الاستراتيجي السوري المتميز في المنطقة العربية، والدفاع عن هذا الموقع بأي ثمن، وذلك عكس ما حصل في نهاية الخمسينيات، عندما انسحب القادة السوريون لصالح القيادة الناصرية، وقبلوا بأن يحولوا سورية إلى قطر تابع إلى حد كبير لمصر في إطار الجمهورية العربية المتحدة. بل ربما كان هذا الخيار القطري أحد عوامل القوة الرئيسية للنظام الذي بناه حافظ الاسد بعد زوال النزاعات البعثية الداخلية. وبالمثل، لم يكن الصراع ضد النفوذ الغربي هو السمة المميزة للسياسة السورية الخارجية في العهد الجديد، ولا أحد محاورها الرئيسية، بقدر ما كانت سمتها التعاون مع جميع الاطراف الدولية، والسعي إلى التفاهم معها، من الاتحاد السوفييتي السابق إلى الصين إلى الولايات المتحدة الامريكية، التي استأنفت تقديم المساعدات المالية لسورية منذ منتصف السبيعينيات، وشجعتها على الدخول في لبنان لوضع حد للحرب الاهلية المشتعلة. كما أن النظام البعثي لم يغذ أي وهم خاص حول قدرته على الاعتماد على الحركة الشعبية، وراهن منذ الأيام الاولى لنشوئه على أجهزة الأمن والسيطرة العسكرية. ولا تدل مراكمة الثروات الشخصية الهائلة، التي تميز بها المسؤولون السوريون وأبناؤهم وأقرباؤهم وأنصارهم المقربين، على تمسك كبير بقيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والدفاع عن العمال والفلاحين التي ارتبطت بالحركة القومية العربية الشعبية، بالرغم من عدم تردد النظام في تكرار شعارات الاشتراكية وإنصاف الطبقات الشعبية.
أما أولئك الذين لا يرون في استمرار نظام الأسد إلا النتيجة الطبيعية لاستخدام القوة المادية والعنف ضد المعارضين والخصوم فهم ينظرون إلى الوضع من زاوية الحاضر فحسب. لكن من الصعب على أي مراقب سياسي محايد أن ينفي الشعبية التي حظي بها الأسد عندما صعد إلى مسرح القيادة في السبعينات من القرن الماضي والتحولات السياسية التي أحدثها في سبيل تعزيز هذه الشعبية وتكريسها أيضا، سواء ما تعلق منها بتكوين الجبهة التقدمية الحاكمة أو بناء مؤسسات النظام الجديد السياسية والنقابية والاقتصادية.
وإذا لم يكن هناك من يشك في ما قدمته حقبة الحرب الباردة من فرص لإظهار مهارة الأسد التكتيكية وتجسيدها في علاقات استثنائية مثمرة لصالح تعزيز النظام الذي أسسه في السبعينات من القرن الماضي، إلا أن بقاء النظام لأكثر من عقدين بعد زوال الحرب الباردة يجعل من الصعب القبول بالتفسير الذي يقول إن مصير النظام السوري قد ارتبط بالحرب الباردة، بالرغم من أنه استفاد من ظروفها استفادة كبيرة من دون شك.
اعتمد الأسد في إقامة بنيان نظامه وترسيخ أقدامه في الداخل والخارج على المزاوجة بين مبدأي القوة والحيلة أو الحنكة في الوقت نفسه. فمن دون القوة ما كان بإمكانة الحفاظ على النظام في الداخل ولا توسيع قاعدة النفوذ الإقليمي التي ستمكنه في مرحلة لاحقة من تحقيق الفائض الذي سيمكنه من كسب ولاء الرأي العام وخضوعه. لكن ما كان من الممكن تأمين هذه القوة أيضا من دون السياسة البراغماتية الجديدة التي اتبعها والتي جعلته، بعكس ما هو شائع عند أغلب المحللين، يتحرر مبكرا من استقطابية الحرب الباردة ويضمن لنفسه وسورية هامش مبادرة مستقلة تمكنها من العمل خارج إطار التبعية التقليدية التي ميزت الأقطار التي كانت تلتحق بالمعسكرين الشرقي والغربي. وهذه الاستقلالية النسبية بالطبع هي التي شكلت خصوصية حقيقية للنظام بالمقارنة مع أغلب نظم المنطقة التابعة.
بالتأكيد، لم يترك النظام عاملا يمكنه أن يثمره في مشروعه لبناء مركز القوة المستقلة من دون أن يستغله ويستثمره، سواء ما تعلق باستثمار رصيد تراث الحركة القومية الشعبية أو بالاستخدام المفرط للعنف أو باستغلال الحرب الباردة. لكن قوة النظام السياسية لم تنبع من التسليم لأي منها، ولكن من تطويعها جميعا لحساب بناء مركز القوة المستقلة التي مكنت الأسد من التحرر النسبي من ضغوط القوى الدولية والعربية معا, وتعزيز موقع سورية الاستراتيجي في توازن القوى الإقليمية. السؤال: كيف تم تكوين مركز القوة هذا أو تحويل سورية إلى مركز قوة مستقل إلى درجة كافية لتمكينها من التدخل في الشؤون الإقليمية والاستفادة منها، أو من أين أتت هذه الاستقلالية السورية في ممارسة السياسة والقوة؟
ينبغي القول بداية أن القسم الأكبر من هذه القوة لا يرجع لحجم الموارد الداخلية الاقتصادية أو البشرية بقدر ما كان ثمرة العمل خارج حدود الدولة واستغلال بيئتها الإقليمية للحصول على موارد جانبية. وجوهر هذا العمل هو تبني موقف مستقل عن جميع الأطراف المتنازعة، التقدمية والمحافظة، والاشتراكية والليبرالية والشرقية والغربية، والتموضع على مفترق الطرق التي توصل بينها، والوقوف في قلب النزاعات التي تمزقها، والاستفادة، نتيجة ذلك، من خوف جميع الأطراف من الأطراف الأخرى وحثها على الاستثمار في القوة السورية كقوة موازنة واستيعاب للنزاعات الإقليمية. والمقصود بهذه المصادر الجانبية ما راكمه الحكم من فرص للنفوذ ومن هامش للمبادرة الإقليمية تتجاوز الحجم الحقيقي للقوة السورية الموجودة، وتنبع من العمل على هامش الاستراتيجيات الدولية، وعلى حدودها، من دون أن تخرقها أو تصطدم بها، ومن التقريب بين الأطراف، أو تحييد بعضها، أو تقديم الخدمات التي يحتاجها بعضها الآخر، مقابل تعاون أو غض نظر عن نفوذ وسلطة أخذا يتمددان في الداخل والخارج معا.
وهكذا نجح الأسد في تحويل سورية من طرف في النزاعات إلى مركز تقاطع مصالح وقوى متعددة ومتضاربة، عربية وإقليمية ودولية. وجعل من الدولة التي بقيت تابعة لغيرها خلال عقود طويلة، مصدر مباردة سياسة فعلية، ومكنها من مواجهة الدول الأخرى، وأحيانا فرض أجندتها الخاصة عليها. ومن الصعب أن نفصل النزوع إلى تكوين هامش مبادرة مستقلة في سورية عن التحدي الذي وضعها فيه صعود القوة الاسرائيلية الجارف والتحديات التي كان هذا الصعود يوجهها لاستقرار النظام البعثي الجديد ويحول مواجهة التفوق الاسرائيلي مهمة سورية مركزية. كما أن من الصعب الفصل بين تبني حافظ الأسد لهذه الاستراتيجية وشعوره العميق بالمسؤولية في خسارة الجولان في حرب حزيران يونيو 1967 التي كان يحتل في زمنها منصب وزير الدفاع.

وقد مكنت الاستراتيجية الجديدة سورية من الاستفادة من دعم جميع الأطراف الإقليمية والدولية وتكوين قوة عسكرية وسياسية تتجاوز بكثير قدراتها الذاتية وترتبط إلى حد كبير بعوائد الدور الإقليمي الجديد الذي بدأت تلعبه والذي يقوم على احترام التوازنات الدولية والحرص على حراسة المصالح الإقليمية. وقد أعطت هذه الاستراتيجية صدقية كبيرة للسياسة المعلنة التي تهدف إلى مواجهة اسرائيل وتحرير الجولان كما قدمت موارد مادية ورمزية كبيرة لتحقيق الاستقرار داخل الحدود السورية، سواء لجهة زيادة حجم المكاسب الريعية الضرورية لتوسيع قاعدة الطبقة البيرقراطية التي يستند إليها النظام داخل أجهزة الأمن والجيش والإدارة المدنية، أو لتكوين رصيد من الشرعية الرمزية القومية والوطنية.

وقد اكتشف الأسد أهمية هذا التوظيف الايجابي لموقع سورية ورصيدها التاريخي وإمكانية استخدامه للإمساك بطرفي المعادلة، منذ اليوم الأول لانشقاقه عن رفاق السلاح ووصوله إلى الحكم، حيث حظي بتأييد واسع من قبل قواعد حزب البعث الحاكم، الذي وجد فيه قائدا واقعيا قادرا على إخراجه من المأزق الذي أدخله فيه الفريق الايديولوجي السابق، وكذلك من المعارضة، التي أملت أن يكون الانضمام إلى الجبهة التقدمية، التي أعلن عن رغبته في إقامتها، مخرجا لها من الطريق المسدود الذي وصلت إليه بعد استتباب الوضع للبعث وتأكيد سيطرته الشاملة على مصادر القوة والنفوذ والثروة في السنوات السبع السابقة. وهذا ما حصل أيضا على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية. فلم يتردد الأسد، الذي عزز علاقاته منذ البداية مع المملكة العربية السعودية، زعيمة المعسكر المحافظ في المنطقة، في أن يطور بشكل مواز لها، أوثق العلاقات مع جمهورية ايران الاسلامية المناوئة لها، حتى الوصول إلى إعلان تحالف استراتيجي معها. كما نجح بالطريقة ذاتها في الابقاء على علاقاته المتميزة مع الاتحاد السوفييتي، الذي كان حليفا للنظام البعثي منذ نشوئه عام 1963، وفي كسب تأييد الولايات المتحدة الأمريكية التي وجدت فيه زعيما واقعيا، لا تلغي صعوبة إدخاله في دائرة النفوذ الغربي إمكانيات التفاهم والتعاون معه على الأرض من أجل تأمين مصالح مشتركة. ومن خلال موقعة نفسه ونظامه على خط تقاطع مصالح الأطراف المتنازعة والمتنافسة، وتقاسم المصالح الجزئي معها، نجح الأسد في أن يدخل سورية شريكا، معترفا به أحيانا، وشريكا مضاربا أحيانا أخرى، في العديد من الملفات الصعبة والمعقدة التي تحتل أجندة السياسة الإقليمية، من ملف القضية الفلسطينية إلى الملف النفطي إلى الملف اللبناني إلى الملف الكردي ثم أخيرا الملف العراقي. ولهذا بدا النظام، حتى عام 1980 على الأقل، وكأنه قد نجح في التغلب على عوامل الضعف السورية التاريخية، وقدم لهذا البلد، الذي عرف بالاضطراب وضعف الاستقرار منذ استقلاله في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين، دورا أكبر من إمكاناته الفعلية في جغرافية المنطقة السياسية. وبدا وجوده نفسه وكأنه المحصلة المباشرة لنجاحه في تسهيل عملية التواصل بين الأطراف المتصادمة وقدرته على تجاوز تناقضاتها، بل تفريغها من توتراتها والاستفادة من الريع السياسي والاستراتيجي الناجم عنها لانتزاع دور إقليمي لا مراء فيه للدولة السورية. وقد تمكن الأسد من خلال هذا الدور، الذي سيصبح في مرحلة لاحقة عالة على البلاد ونظامها معا بقدر ما كان في المرحلة الأولى مصدر مكاسب سياسية واقتصادية عظيم الأهمية، من إخضاع الشعب السوري نفسه، وتخديره حتى يسلم بحقوقه السياسية الأساسية. فنجح بذلك في بناء امبرطورية شخصية حقيقية، حل فيها شعار سورية الأسد محل شعار سورية البعث الذي ولد مع نشوء النظام الجديد. وتبوأ الأسد بالفعل، في قائمة الزعماء السوريين بل العرب، وفي نظر الرأي العام، مكانة عالية تذكر بتلك التي احتلتها الشخصيات الكارزمية في العديد من البلدان العربية. ووصلت الأبهة والمجد والشعور بالثقة والاطمئنان على الانجاز الاستثنائي درجة لم يعد حافظ الأسد يشك فيها لحظة، لا هو ولا أنصاره، أنه مؤسس لشرعية جديدة مرتبطة باسمه، وأن بإمكانه توريث سلطته لأبنائه، من دون أن يثير هذا العمل حفيظة أي قوى داخلية أو أن يسبب أي ردود فعل سلبية، شعبية أو دولية.
بهذا المعنى، أيضا، لم يستمد نظام الأسد قوته ونفوذه من إنتمائه الرسمي والمعلن لمنظومة الدول الاشتراكية العالمية بقدر ما استمدها من إظهاره الاستعداد الدائم "لخيانتها" واعتبارها مجرد شعارات مفيدة للدعاية لكن لا للتطبيق. وبالمثل، لم يكن هذا النظام، كما يسعى إلى إظهاره باستمرار، الابن الشرعي للحركة القومية الشعبية العربية، التي جسدت الناصرية ذروة إنجازها، ولا حتى الابن الشرعي لحزب البعث العربي الاشتراكي، بقدر ما قام على أنقاضهما واستفاد من تراجعهما وانهيارهما ليدشن تحت غطائهما دورا جديدا ليس له علاقة بأهدافهما. وكان بهذا المعنى مؤسس سلطة وصاحب مشروع مختلف عن مشروع الحركة القومية العربية، هو تأسيس مملكة وراثية قوية على أكتاف هذه الحركة ومن ركامها.
فالأسدية التي جاءت في فترة فاصلة من تاريخ الحركة الاستقلالية العربية الطموحة لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ليست في الواقع إلا محصلة عمليتين: أولا تحلل الحركة الاشتراكية والقومية العربية ومصادرة تراثها وما خلفته من خطاب ومواقع ومطامح لتحقيق أهداف خاصة مختلفة عن أهدافها، وثانيا استثمار مناخ السيولة وعدم اليقين الذي سيطر على العلاقات الدولية مع ترهل الاستراتيجية السوفييتية وجمودها وغياب استراتيجية أطلسية بديلة، بكل ما عناه ذلك من ارتخاء القبضة والضغوط الخارجية على الشرق الأوسط، والحاجة المتزايدة، شرقا وغربا، إلى المراهنة على قوى محلية قادرة على ضمن الأمن والاستقرار وعدم صب الزيت على النار في منطقة زلازل جيوسياسية متواصلة. وبدخوله على خطوط تقاطع القوى المتنازعة والسعي إلى التوفيق بين مصالحها، نجح الأسد بالفعل في أن يحصل على عوائد كبيرة من المشاركة في حفظ النظام وتحييد عوامل زعزعته، سواء بالقضاء على القوى المشاغبة، أو بالتقريب بين الأطراف المتنازعة. وهكذا تمكن من الاحتفاظ بعلاقات ايجابية مع جميع الأطراف الفاعلة، بصرف النظر عن علاقاتها في ما بينها، وتحول إلى شريك، صغير، ولكنه شريك حقيقي، في النظام الشرق أوسطي الذي تبلور في السبعينات بعد انهيار الحركة الشعبية القومية. وهذا هو الوضع الذي قبلت فيه الولايات المتحدة الأمريكية أن تضغط على إسرائيل لإجبارها على الدخول في مفاوضات جدية حول الجولان، ولم تكن هناك عقبة حقيقية لاستعادة الهضبة السورية المحتلة لولا مقتل رئيس الوزراء السابق رابين وتردد الرئيس الأسد نفسه بالقبول ببعض التنازلات على الأرض بعد ذلك.
فالواقع أن جمود السياسات الدولية في السبعينات والثمانينات في المنطقة وغياب المبادرات ونوافذ الفرص المتبادل، دفع الأطراف جميعها، الدولية والإقليمية، إلى جعل الحفاظ على الاستقرار والوضع القائم هدفا مشتركا. وهذا ما أدركه الأسد واستثمره لإقامة تحالفات كانت تبدو للجميع في ذلك الوقت مفارقة وغير منطقية. لكن هذه التحالفات المتناقضة هي التي حولته إلى شريك، أي صاحب مساهمة ايجابية خاصة، وسمحت له بتوسيع دائرة نفوذه وهامش مبادرته الذاتية. فكما تجلت قوة سياسة حافظ الأسد في تجاوزها منطق الخصومة التاريخية مع الولايات المتحدة، والصداقة التقليدية مع الكتلة السوفييتية، أي منطق الحرب الباردة، تجلت أيضا في تجاوزه، على الصعيد العربي، منطق الصراع الذي كان قائما بين المعسكر التقدمي القومي والمعسكر التقليدي المحافظ والمقرب من الغرب، وتغلبه عليه، ليقيم علاقات متينة مع جميع الدول العربية القوية. وما حققه على صعيد العلاقات الدولية والعربية حققه بالمهارة نفسها على الصعيد الإقليمي. فقد جمع من دون صعوبة تذكر، وبشكل لم يسبق له نظير، بين علاقاته العربية الوثيقة وتغطيتها القومية والتحالف، في الوقت نفسه، مع ايران الخيمنية التي كانت تمثل قلعة الثورة الاسلامية، والتي وضعت الدول العربية والغربية معا أمام تحديات سياسية لا سابق لها في المنطقة، ودفعتها إلى العداء المكشوف لها. وفي الوقت الذي أباد فيه النزعة الاسلامية المسلحة في سورية باسم العلمانية، جعل من تحالفه مع هذه الحركة، منذ منتصف الثمانينات، خارج بلاده، وعلى حدودها المباشرة، سلاحه الأمضى في تحقيق النفوذ الاقليمي[2].
وقد مكنته سياسة الحفاظ على الاستقلال والموازنة بين الفرقاء جميعا من أن يضمن لنظامه، على المستويات الاستراتيجية والدفاعية والاقتصادية والسياسية، الدعم السوفييتي الشامل من دون أن يلتزم بأي هدف مشترك معه، حتى اتهم من قبل العديد من قوى اليسار العربي بالازدواجية والتفاهم الضمني العميق مع الولايات المتحدة وخدمة أهدافها الاستراتيجية. وتمكن أيضا بالسهولة ذاتها، ومن دون أن يضطر إلى التنكر لعلاقاته الخاصة مع موسكو، من تحييد العديد من القوى الغربية المناوئة، بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبة، التي تمتعت دائما بنفوذ استراتيجي وسياسي قوي في الشرق الأوسط، بل وحصل منها على معاملة استثنائية ورعاية خاصة، لم تحظ بها حتى النظم التابعة لواشنطن وغيرها من العواصم الغربية، سواء أتعلق الأمر بالتغطية على الخروقات الاستثنائية لحقوق الانسان أو بتكليف النظام بمهام استراتيجية، ربما كان أهمها إنهاء الحرب الأهلية في لبنان، والاشراف على السلام والأمن فيه لسنوات عديدة بعدها. وقد زادت أهمية هذه السياسة بعد أن أخذ على عاتقه العديد من المهام الصعبة التي كان من غير الممكن لأي نظام عربي آخر أن يقوم بها، سواء ما تعلق بشن الحرب المستمرة على منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات، أو بمواجهة القوى الاسلامية المعادية للغرب. وضمن لنفسه النجاح فيها من دون أن يعرض حكمه لأي مخاطر كبيرة، بفضل النظام الأمني الحديدي الذي فرضه على شعبه في الداخل[3].
ومما لا شك فيه أن نجاح الأسد في تشكيل مركز قوة مستقلة، أو على درجة كبيرة من الاستقلال وحرية المبادرة، قد حول نظامه إلى عنصر توازن واستقرار داخل المنظومة الإقليمية الخاصة بالمشرق العربي، أو هكذا بدا الأمر على الأقل لقطاعات واسعة من الرأي العام وللدبلوماسيات الدولية. فنظرت الدوائر الغربية، التي استفزتها من قبل رديكالية الفريق اليساري الذي سيطر على ساحة العمل السياسي في الستينات من القرن الماضي في دمشق، إلى سياسات الأسد الجديدة على أنها سياسات معتدلة، عقلانية وبراغماتية تختلف جذريا عن السياسات الايديولوجية الطفولية التي مارسها العديد من القوى الوطنية العربية اليسارية والقومية في المنطقة. وترسخ الاعتقاد عند هذه الأطراف الدولية والعربية أن سورية الأسد يمكن أن تكون شريكة في تحقيق الأمن والاستقرار التي كانت تبحث عنه، جميعا، بعد انحسار الناصرية، وفي حقبة عاصفة من الحياة السياسية العربية، كما يمكن أن يتم التفاهم بسهولة معها والبناء على تعاونها لإخراج المنطقة من أتون الصراعات العقائدية، التي هددت النظم المحافظة والقريبة من الغرب، وفي ما بعد، في مواجهة قوى التطرف الاسلاموية. وهي النظرة ذاتها التي بلورتها الأنظمة العربية القريبة من الغرب أيضا للسياسات السورية الجديدة في ظل قيادة حافظ الأسد. بل إن هذه الأنظمة قد أدرجت مشروع القوة السورية الخاصة والمستقلة، التي كان الأسد يعمل من أجل تكوينها، في استراتيجيتها الخاصة ذاتها، وجعلت منها عنصرا في التوازنات الإقليمية. فبدت سورية القوية المدعمة بالمساعدات الخليجية في الثمانينيات أحد أهم أدوات الضغط التي تعتمد عليها دول الجامعة العربية، وفي مقدمها الدول الخليجية، لمواجهة تحدي الغطرسة الاسرائيلية، وفي المناسبة ذاتها، للتغطية على القصور والتقصير العام الذي يثير حفيظة الرأي العام العربي، والانسحاب الفعلي للقسم الاكبر من العواصم العربية من دائرة المواجهة العربية الاسرائيلية. وهكذا صارت القدرة العسكرية السورية ستارا لإخفاء عورة السياسات التخاذلية العربية عموما، وصار دعم هذه القوة هو التعويض المباشر عن غياب أي مبادرة عربية حقيقية جماعية، شعبية أو رسمية، لدعم القضية الفلسطينية. وقد ورث نظام الاسد الابن جزءا كبيرا من هذا الرصيد الذي يجعل الرأي العام العربي ينظر إلى سورية كدرع للقضية العربية، بالرغم من المواجهات الدموية التي قادها النظام ضد قوى وطنية عديدة، وفي طليعتها منظمة التحرير الفلسطينية، وبصرف النظر عن التغيرات التي طرأت على دور النظام السوري وسلوكه في العقود الثلاث الماضية[4].
وقد استفاد الأسد من هذه الصورة الايجابية للدور السوري في المنطقة، ووظفها في سبيل تأمين الغطاء الايديولوجي لسلطته الشخصية. فلم يكف عن ترديد شعار تحقيق التوازن الاستراتيجي مع اسرائيل وبناء أسطورة القوة الاستراتيجية السورية وما ارتبط بها من شعارات عن رسالة الحكم القومية. وبقدر ما نجح في تحويل سورية إلى مركز مبادرة استراتيجية إقليمية، بالتفاهمات المتعددة الاطراف مع القوى الكبرى، سعى إلى تكريس صورة سورية كبلد الصمود والتصدي بامتياز، وألصق بنفسه رسالة الدفاع عن الثوابت القومية أو العربية، فصار من الممكن ببساطة تفسير صراعه ضد القوى العربية الضعيفة أو الثانوية، وسعيه لإلحاقها به، مثل القوى الفلسطينية واللبنانية، كجزء من المعركة الضرورية لتوحيد قوى المقاومة العربية. لكن في ما وراء ذلك، لم يعد للنظر في مضمون سياساته الداخلية أي أهمية بالنسبة للرأي العام العربي الذي قرر، تعويضا عن العجز والاستقالة العربيين العامين، توظيف سورية كرأس حربة رمزي في المعركة القومية المعادية لاسرائيل والهيمنة الغربية.
وهكذا أمكن للنظام السوري أيضا أن يستخدم ما ينسب إليه من دور قومي مبررا للتحلل من التزاماته الوطنية تجاه الشعب السوري نفسه، وأصبح يتصرف بحرية لا حدود لها في داخل الأراضي السورية، سواء في ما يتعلق بإطلاق يد الأنصار والأتباع في موارد الدولة والمجتمع وتوزيع الإقطاعات التجارية العينية والمناصب والامتيازات عليهم، من دون حسيب ولا رقيب ولا معترض، أو بإخضاع المجتمع لسلطة الأجهزة الأمنية ووضعه تحت مراقبتها وإشرافها، خارج أي مساءلة قانونية أو سياسية. بل لقد أصبح التساؤل نفسه حول مضمون سياساته، الاقتصادية أو الاجتماعية أو الإدارية أو الثقافية، وحول صلاحها يبدو، في نظر الرأي العام السوري والعربي معا، تشكيكا خطيرا وغير مقبول بمقدرة الرئيس وبالدور القومي الذي تجسده السياسة السورية في مواجهة قوى التحالف الصهيونية والاستعمارية.
وقد أدركت القيادة السورية بسرعة الفائدة الكبرى التي يمكنها أن تجنيها من هذا التماهي من دون التزامات بالقضية القومية العربية، فصارت القومية هي الحجاب الذي تخفي من ورائه صعود المصالح الخاصة واستفحالها كما تغطي به على حروبها المستمرة ضد خصومها وعلى أخطائها الاستراتيجية، بل على إلغاء السياسة نفسها من حيث هي تفكير في الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وبعد أن عهد إلى الرئيس القائد بتقرير هذه الخيارات جميعا، بعيدا عن النواب والخبراء، صارت الرديكالية القومية، أو بالأحرى المزاودة بالوطنية، أفضل وسيلة لفرض السيطرة الداخلية والخارجية وتكبيل القوى العربية المنافسة وإخضاعها بالقوة. وهذا ما يفسر كيف أمكن للنظام أن يخوض في الثمانينات حربا دموية، بكامل أسلحته العسكرية، ضد مدينة سورية، وليس ضد المتمردين فيها فحسب، كان من المحتم أن توصف، لو حصلت اليوم، بحرب إبادة جماعية، من دون أن يتعرض لأي مساءلة عربية أو دولية، بل من دون أن تصاب الصورة التي رسمها عن نفسه بوصفه نظام المقاومة والصمود وحماية الثوابت القومية، بأي أذى عند قطاعات الرأي العام العربية الواسعة. لقد لعبت الايديولوجية القومية في نظام الاسد دورا محوريا في التغطية على الالتزامات الوطنية السورية، بل لضرب هذه الوطنية وتقويضها لتحويل المجتمع إلى ذرات متنافرة يسهل التلاعب بها واحتواؤها بعد أن لم يعد يجمع بينها لا مبدأ ولا قانون.
في هذا السياق، وتحت غطاء التمسك بالمباديء والثوابت القومية، تكون نظام الأسد في الداخل، وتم فيه تصفية نظام الإدارة الوطنية، وإشادة نظام إدارة على الطريقة المملوكية، قائم بالدرجة الرئيسية على العلاقات الزبونية، العائلية والعشائرية والطائفية والجهوية والمحسوبية. ولذلك بقدر ما تميزت سياسة النظام الخارجية بالبراغماتية والبحث عن التسويات والتفاهمات والصفقات، غلب على السياسات الداخلية الجمود والتصلب والشعاراتية العقائدية والدغمائية، وتحكم بها مبدأ الأحادية ورفض أي شكل من أشكال الحوار أو التفاوض او التفاهم أو القبول بالتعدد أو الاختلاف أو التنافس على أي صعيد كان.
إن ما ميز نظام الأسد هو هذا التباين الكبير بين التفهم العميق للمصالح المتعددة والمتباينة على ساحة العمل الإقليمي والدولي، والتعامل معها بحسابات دقيقة جدا، كونها أساس استقرار النظام ومصدر موارده الرئيسية، والتعامل القاسي والعسكري مع قوى المجتمع الداخلية والإهمال الشديد لكل ما يتعلق بمصالحها وتوازناتها ومستقبلها. ولهذا لم يكن هناك هدف للسياسة الداخلية سوى العمل بجميع الوسائل، القانونية أو شبه القانونية أو العنيفة، لتحييد المجتمع وشل حركته وإخضاع بصورة سلبية للسيطرة الأحادية[5]. وهذا ما أدى في النهاية إلى انحطاط معايير السياسة والعمل والسلوك في كل الميادين، وإلى نشوء نموذج بدائي للإدارة المدنية والسياسية، كما نشاهد اليوم[6]. فلم يكن الأسد ينظر إلى ما تحتويه سورية من موارد مادية وبشرية يمكن تثميرها وإطلاق طاقاتها لتحويلها إلى قوة قائمة بذاتها، وإنما كان يرى فيها أداة سياسية وعسكرية يستطيع باستخدامها أن يحصل من المكاسب الخارجية والريوع التي تزخر بها المنطقة أكثر وأسرع بكثير مما يمكن أن يحصله من الإنكفاء عليها والعمل من داخلها. ومن هنا بدا الشعب السوري في هذه المعادلة وكأنه، في ما عدا الموارد التي يمكن توظيفها في المشاريع الخارجية، فائضا عن الحاجة. بل لقد شعر النظام وأصحابه لفترة بأنهم هم الذين يعيلونه، وأن من حقهم لقاء ذلك أن يكافئوا أنفسهم باقتطاع ما يريدونه من عوائد سياستهم الخارجية. وهذا هو أصل العلاقة التي نشات بين النخبة الحاكمة والمحكومين والتي تحول فيها الشعب إلى ما يشبه العيال الموضوعين تحت الوصاية والذين لا يحق لهم المشاركة في أي قرار. وبذلك لم يصبح النظام خارجيا بالنسبة لشروط إعادة إنتاج نفسه، يعتمد في بقائه وازدهاره وتوسعه على ما يراكمه من غنائم فحسب، وإنما صار خارجيا بالنسبة للمجتمع نفسه، ولم يسع في أي وقت إلى التواصل الفعلي مع هذا المجتمع من خلف الشعارات الجوفاء، ولم يبذل أي جهد حتى لاستغلاله بالمعنى الرأسمالي الحديث، أي وضعه في شروط العمل المنتج وتوفير وسائل هذا العمل له، وإنما سعى إلى تهميشه وإخراجه من معادلة القوة التي بناها والتي تقتصر على الشراكة، والمنافسة أيضا، بين النظام كنظام، والقوى الخارجية الفاعلة الإقليمية والدولية على تقاسم النفوذ والمنافع. وهو لا يزال يسعى إلى الآن إلى تأكيد هذا التحييد في النزاع الجديد الذي نشأ منذ بضع سنوات بين الحكم وهذه القوى الخارجية نفسها.
لم يوفر الأسد أي أسلوب في سبيل تحقيق هذا الهدف. فاستخدم جميع الوسائل، من العنف العاري إلى أساليب المراوغة التقليدية ومصادر العمل الحركية والايديولوجيات والدعاية الثورية المبدئية والتعبئة الطائفية، في سبيل القضاء على قوى المعارضة ومصادر الاحتجاج أو الاختلاف، ليس في وسط الرأي العام السوري فحسب، بل في وسط حزب البعث نفسه. وكما قضى بقسوة قل مثيلها على كل من هدد، أو شك في إمكان أن يهدد، ما أصبح بمثابة مملكة خصوصية، أغدق كل ما يستطيعه وتستطيعه البلاد من غنائم ومغانم وامتيازات على كل من قبل بالعمل تحت زعامته كما وسلم بالقواعد التي سنها. وفي إطار استرضاء المنافسين وشرائهم يدخل مشروع بناء الجبهة التقدمية التي سيجعلها غلالة للحكم الفردي والحزبي الأحادي ويؤلف فيها بين قلوب قادة أحزاب لم يعد فيها غير الاسم. وفي إطار ردع الخصوم والمشاغبين على مشروعه يدخل الحماس الذي أظهره في بناء السجون وفتح الزنزانات وأبواب المنافي لكل من حدثته نفسه بمناوأة السلطة أو خروجه عن خطها وعليها، حتى فرغ له الأمر تماما داخل البلاد[7]. وبالمثل، بقدر ما هاجم الأسد بعنف لا مثيل له تلك القوى التي تجرأت على الوقوف في وجه مصالحه، أو شك في وقوفها إلى جانبه، فقضى على قسم كبير منها بالحرب أو بالإرهاب أو بالاغتيال، حتى لو كانت من حلفائه أو المتعاونين معه في هذه الفترة أو تلك، لم يوفر وسيلة لاسترضاء القوى الأخرى التي توخى منها خيرا لتعزيز قوته. هكذا تحول نظام الأسد إلى طرف مرهوب الجانب، يثير الرعب عند أعدائه وينتزع الاعجاب من أصدقائه والرغبة في التفاهم والتعاون لدى منافسيه وأنداده.
ليس هناك شك أنه كان لنجاحات حافظ الأسد الاستراتيجية هذه وتعاونه المثمر والايجابي مع جميع الأطراف الخارجية أثر كبير على طبيعة نظام الحكم الذي أقامه في سورية وعلى تطور هذا النظام أيضا. فإلى جانب أن هذه النجاحات قد وفرت له رصيدا سياسيا كبيرا جعل منه شخصا أسطوريا يعلو على أي مساءلة أو نقد، ساهم الدعم المالي والسياسي الذي حصل عليه من قبل جميع الأطراف الدولية والإقليمية في التغطية على جوانب القصور في النظام القائم وحد من اهتمام النخبة الحاكمة في التفكير في إصلاحه. لقد عوض النجاح الخارجي عن أي جهد لبناء الداخل بل دفعه إلى مؤخرة اهتمام القيادة السياسية. ومع مرور الوقت دخل النظام بأكمله في دين عبادة الشخصية وتقديس الأب القائد، فغابت المهام والمسؤوليات العادية واليومية عن أذهان أصحاب المناصب والمسؤولية في الدولة والإدارة والقطاع الاقتصادي معا. وفي موازاة انتشار الدين الجديد، وبالارتباط به، تنامت أيضا شبكات المصالح الزبائنية، وعمت الفوضى الاقتصادية والمالية والقانونية. وفي غياب أي محاسبة أو مساءلة، وبالاحتماء بتقديس الرئيس وتبجيله، نجح التفاهم الضمني بين أصحاب هذه الشبكات في تحييد مؤسسات الدولة جميعا وتجييرها لتحقيق مآرب خاصة. وكان ذلك مفجرا للأزمة العنيفة الأولى التي شهدها النظام في بداية الثمانينات.
بالتأكيد لم يثر هذا الإهمال الشامل للمجتمع أزمة كبيرة في مرحلة الازدهار، وما رافقها من تعاظم المكاسب الناجمة عن توسيع دائرة النفوذ الخارجي وزيادة الاستهلاك [8]. لكن الأمر سوف يتغير بسرعة مع قدوم مرحلة التراجع والانحدار. فقد دفع النضوب النسبي للموارد الريعية وتناقص وزنها، منذ منتصف الثمانينات إلى مضاعفة الضغط على المجتمع لتأمين فوائض إضافية تعوض عنها وترد على احتياجات الاحتفاظ باستراتيجية توسع خارجي جيوستراتيجي وأمني مكلفة. ولم يتردد النظام، لضمان إنتاج الريوع التي يحتاجها من إخضاع المجتمع بأكمله لنمط النهب الاقطاعي وفرض نظام شبه عبودي عليه. وهكذا سيترافق تفاقم الفساد ونهب موارد الشعب بوسائل مختلفة، وعن طريق الرشوة المعممة بشكل رئيسي، مع تنامي دور الأجهزة الأمنية وتوسع صلاحياتها وتأكيد حضورها الدائم والشامل في كل مناحي الحياة الفردية والجمعية. وبقدر ما سيقود هذا الوضع إلى الكساد والشلل العام، سيعمل أيضا على تدهور جميع معايير الحياة والعمل والمعرفة الحديثة، والتقهقر نحو معايير المجتمع ما قبل الصناعي، وإعادة إنتاج بنياته القديمة المفوتة وانعدام ديناميكيات التجدد والتقدم العلمي والتقني والإداري والانتاجي. وسيؤدى التركيز المفرط للثروة، مع الجمود والاستنقاع العام على مستوى المجتمع الكلي، إلى إحياء قيم المجتمعات الريعية التقليدية، وما تربتط بها من سيطرة عائلية أو أبوية جديدة، ومن استزلام للأفراد ومحسوبية وعلاقات شخصية قضت على التقاليد والقيم والمعايير المؤسساتية. وسوف تختفي فاعلية السياسة والقانون والثقافة لصالح سيطرة التقاليد والأعراف والعلاقات الزبائنية وما يرتبط بها من بعث العصبيات البدائية، العائلية والعشائرية والطائفية وما تقود إليه من الانحطاط الحضاري والمدني والأخلاقي. وهكذا سوف يستسلم المجتمع لسلطة الأجهزة الامنية التي تحولت مع غياب القانون وتبعيتها الكاملة لأمراء الحرب الذين يقودونها إلى ميليشيات مسلحة منفلتة لا هدف لها سوى إخضاع المجتمع ودفعه إلى إعلان ولائه ل"سيد البلاد" ورئيسها وقائدها وصاحبها ومن يرتبط به من الأتباع والموالين والمؤيدين[9].

2- عوامل الأزمة والانحسار
بدأ النظام السوري يفقد قوة دفعه الحقيقية منذ الثمانينات، مع تراجع حجم موارده السياسية والمعنوية ومصادر الريع الخارجية واضطراره إلى التحول من جديد نحو الداخل. فعلى المستوى الاقتصادي، لم تتمكن عوائد تصدير النفط المحلي من التعويض عن نضوب الريع الخارجي والوفاء بالتكاليف المرتفعة للسياسات الأمنية الداخلية والخارجية معا. وكما أن ريع الالتحاق بالثورة الاشتراكية العالمية سوف ينهار مع انهيار الكتلة السوفييتية وتفاقم الفساد وتدهور مستويات المعيشة وشروط الحياة الاجتماعية للسورين، ستتراجع أيضا قيمة الريع الايديولوجي والمالي المستمد من التعلق بالشعارات القومية والنطق باسمها مع نهاية الصراع المسلح مع إسرائيل والقبول بمبدأ حل النزاع بالوسائل التفاوضية وتلاشي التناقضات بين الدول العربية المحافظة والتقدمية وتراجع الحاجة إلى خدمات النظام السوري لضمان استقرار المنطقة المشرقية. ولم تكن المواجهة العسكرية التي حصلت بين بعض الأجنحة الإسلامية والنظام في بداية الثمانينات وانتهت بمجزرة حماة الشهيرة إلا التعبير المباشر عن الطريق المسدود الذي وصلت إليه ديناميكية توسع النظام في الداخل والخارج[10].
وليس هناك شك في أن زوال الحرب الباردة قد حرم النظام، بالإضافة إلى ذلك، من عدة العمل الرئيسية التي كان يملكها ليزيد من وزنه ويبني قوته الاستراتيجية. فلم يعصف انهيار الاتحاد السوفييتي كقوة عسكرية وسياسية عظمى بالدعم الجيوستراتيجي الحيوي الذي كان يتمتع به خلال عقود طويلة لضمان مصداقيته الاستراتيجية فحسب، ولكنه أنهى أيضا دوره في تحقيق توازن لم يعد له وجود أصلا بين مصالح قوتين عظميين، في المنطقة المشرقية، وفرض عليه، بالعكس من ذلك، التكيف الإجباري المتواصل مع استراتيجية الدولة الوحيدة التي بدأت تفرض نفسها في العالم، على الساحة الشرق أوسطية، كقوة عظمى، فريدة واستثنائية. وسوف تظهر النتائج الدراماتيكية لهذا التكيف الحتمي الذي سيجبر عليه النظام السوري، مع متطلبات الاستراتيجية الشرق أوسطية الجديدة، منذ مجيء الرئيس جورج بوش الابن إلى السلطة، وبصورة خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 المأساوية[11]. فلم تمر سنوات قليلة قبل أن يفقد هذا النظام هامش مبادرته الاستراتيجية ويجد نفسه في مواجهة مباشرة مع القوة الأمريكية التي قررت أن تمسك هي نفسها، بعد ما أصابها من عدوان، بمسألة الامن والاستقرار والسلام في المنطقة الشرق أوسطية وتنهي دور جميع الوكلاء المحليين الذين فقدت الثقة بهم، وفي مقدمهم النظامين البعثيين في دمشق وبغداد.
لقد قضى التخلي العربي الجماعي عن خيار الحرب في الصراع العربي الاسرائيلي، وتبني المجموعة العربية لخيار السلام والمفاوضات السياسية مع إسرائيل، منذ توقيع مصر على اتفاقية كمب ديفيد وخروجها من المواجهة العربية الاسرائيلية، على السبب الثاني الذي كان يجعل من نظام دمشق البراغماتي نقطة تقاطع مصالح عربية وشرق أوسطية متعارضة ومتباينة. ولم يؤد هذا التحول إلى تقليص الحاجة إلى النظام السوري لتحقيق التوازن مع إسرائيل، وما كان يرتبط بهذا الدور من دعم مالي وعسكري وسياسي وشعبي فحسب، ولكنه سوف يقود، أكثر فأكثر، إلى تكثيف الضغط العربي عليه للتخلي عن شعاراته القوموية والنضالية التقليدية، والقبول بالدخول في استراتيجية التسوية السياسية والتعاون مع الدول الغربية لتحقيق السلام مع إسرائيل عن طريق المفاوضات. لقد تم بذلك أيضا، وشيئا فشيئا، تطبيع صورة سورية بوصفها بلد المواجهة والصمود، بل والقضاء عليها تماما في ما بعد. وهكذا أخذت المطابقة السريعة بين النظام السوري والدفاع عن ثوابت الأمة العربية، والتي كانت توحي بأن سورية هي حصان الرهان العربي الوحيد الرابح ضد إسرائيل، تتراجع وتبهت عند الرأي العام العربي، وهو ما سوف تؤكده زيادة المصاعب التي ستواجهها القيادة السورية في الحصول على المساعدات المالية العربية، وفي ترتيب موقف مؤيد لها على طول الخط داخل إطار الجامعة العربية، وبالتالي في التثمير السياسي للقوة التي راكمتها على قاعدة قيادة المواجهة العربية مع الدولة الاسرائيلية. وبعد أن كان وجود "سورية الصمود" هو المبرر الرئيسي لوجود حزب الله عند غالبية الرأي العام العربي والسوري، أصبح وجود حزب الله والحفاظ على ما يمثله من قوة مقاومة عربية ضد إسرائيل والقوى الأجنبية هو المبرر الرئيسي للإبقاء على النظام السوري والدفاع عنه.
من هنا يمكن القول إن مبررات وجود النظام نفسه، أي أيضا المنازعات العربية والدولية العميقة التي عاش على استثمارها وسمحت باستمراره، قد زالت منذ التسعينات من القرن الماضي. وبدأت منذ ذلك الوقت ديناميكيات تراكم القوة التي حظي بها النظام تنقلب إلى ما يعاكسها تماما. فكان على النظام أن يواجه، أكثر من أي نظام آخر بعد نظام صدام حسين، الهجوم المعاكس الشامل للولايات المتحدة الأمريكية، الذي أعقب زوال الحرب الباردة في الشرق الأوسط، في سبيل استرجاع المواقع التي أخلاها الاتحاد السوفييتي المدفون وملء الفراغ الجيوستراتيجي الذي خلفه انهياره. ومما زاد من زعزعة أركان النظام الأسدي في دمشق أن هذه المواجهة التي وضعته في المعسكر المعادي لواشنطن لم تحصل في ظل زوال التغطية والدعم السوفييتيين فحسب، ولكن في مرحلة تهلهل النظام السوري نفسه وتراجع قواه الذاتية أيضا. وقد رافق هذا التحول الجذري في منظومة العلاقات الجيوستراتيجية الدولية تحول لا يقل عنه أهمية بالنسبة لتأمين موارد النظام السياسية والايديولوجية منذ بداية التسعينات. فلم يقتصر أثر توقيع اتفاقيات كمب ديفيد على انسحاب مصر من معركة المواجهة العسكرية، ولكنه كان يشير إلى تراجع إرادة المواجهة العسكرية عند الدول العربية جميعا ضد اسرائيل. وكان ذلك يعني أن الاحتفاظ بالدعم العربي الريعي كان يفرض على النظام التكيف مع خط المفاوضات واستراتيجية السلام التي أصبحت الاستراتيجية المعلنة لدول الجامعة العربية، وبالتالي الانخراط في المبادرة السلمية التي تضغط في اتجاه تطبيقها أوروبة والولايات المتحدة التي ترفض أي ضغوط عسكرية على إسرائيل. وهو ما قلص قدرة النظام على استخدام ايديولوجية المقاومة القومية والصمود لتبرير إرادة السيطرة الداخلية والخارجية.
وهكذا لم يجد حافظ أسد، المصمم الوحيد لمفهوم النظام السوري والباني لنمط العلاقات الإقليمية والدولية التي ضمنت استمراره، بدا من إعادة النظر في استراتيجيته المعهودة، والسعي إلى الخروج من منطق اللعب على التناقضات القائمة في اتجاه استراتيجية جديدة. ولم يكن امام الرئيس السوري خيار سوى التكيف، ولو بشكل متدرج، مع الاستراتيجية الوحيدة الصاعدة والمسيطرة في المنطقة، استراتيجية الولايات المتحدة الأمريكية المعززة بالكتلة الأطلسية. وهو ما برهن عليه وجسده في مشاركته الإشكالية في حرب التحالف الدولي على العراق عام1991 [12]. ثم في دخوله في مسيرة السلام التي أطلقتها مبادرة برشلونة منذ عام 1993 وما أعقبها من مفاوضات التسوية السياسية مع اسرائيل.
لكن الأسد لم يكن مضطرا أبدا إلى التسليم وإعلان الهزيمة. وكان بإمكانه أن يستفيد من سمعته ورصيده الكبيرين الذين راكمهما، كلاعب أساسي وعقلاني كبير في المنطقة، في العقود السابقة، حتى يبعد عن نظامه خطر الانحياز أو الانعطاف المفاجيء والسريع الذي يهدد بزعزعة توازناته الداخلية والإقليمية. وهكذا كان عليه أن يضمن في حركة التكويع المفروضة عليه، وما تتطلبه من تنازلات عن المواقع والمفاهيم وأساليب العمل العنيفة السابقة، التوفيق بين حاجات الانسجام مع الاستراتيجية الدولية الجديدة في المنطقة، بما يمنع من استعداء واشنطن، من دون أن يبالغ ليحظى برضاها تماما، وحاجات الحفاظ على هامش مبادرة النظام المستقلة، السياسية والايديولوجية، بما يمنع من إفقاد النظام صدقيته وتوازنه في مواجهة الرأي العام الداخلي والعربي معا. وعلى هذا الأساس قبل منذ بداية عقد التسعينات المشاركة بعد تردد في مؤتمر مدريد بعد أن كان قد قبل المشاركة في العمل إلى جانب قوات التحالف الدولية في الحرب على العراق. لكن، في الحالتين، مع التأكيد على موقف الاستقلالية، والتمسك بما درجت الدبلوماسية السورية على تسميته بالثوابت القومية. ومما لا شك فيه أن الأسد قد نجح من خلال هذه المعادلة الدقيقة للموازنة بين حاجات التكيف مع الاستراتيجية الأمريكية الإقليمية وحاجات الحفاظ الشكلي على استقلالية النظام واستمرارية خياراته الأساسية، في أن يعيد إدراج نفسه في المعادلة الإقليمية الدولية. وكان ثمن ذلك أن يوظف جزءا من رصيد النظام وقوته ونفوذه معا، في خدمة الاستراتيجية الأطلسية، أي ان يضمن لنظامه وظيفة جديدة في نظام الشرق الأوسط الغربي الجديد لحقبة ما بعد الحرب الباردة. وهو ما مكنه من الاستمرار لعقد كامل قادم. ومن عناصر هذه الوظيفة الإقليمية الجديدة المساهمة في إنجاح عملية السلام مع إسرائيل وتصفية ثقافة الحرب والمشاركة مع القوى الأطلسية في استتباب الأمن والاستقرار الشرق أوسطي من خلال التعاون مع الدول الحليفة في العراق ولبنان وفلسطين وتركيا ثم في ما بعد، من خلال العمل النشيط المشترك ضد الارهاب الاسلامي.
باختصار لقد أدرك حافظ الأسد بحسه الاستراتيجي العميق تبدل الوضع الإقليمي والدولي. ولم يتردد هو نفسه في البدء بتصفية ما أسماه ب"الدور الإقليمي" السوري عندما قبل التخلي عن دعم التمرد الكردي الذي يقوده أوجلان، ووقع مع أنقره على اتفاقية الأمن المشترك في نهاية التسعينات[13]. ولم يمنعه تصاعد الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط من ايجاد نقاط التقاء معها تسمح له بوضع المرحلة السوفييتية وراءه والمراهنة على تعاون مثمر مع القوة العظمى الجديدة، للاحتفاظ بقوة نظامه والنجاح في ايجاد توازن دبلوماسي بديل للتوازن العسكري مع اسرائيل. ولم يحرمه توقيع اتفاقية أضنة مع أنقرة، ولا الدخول في مفاوضات مع الولايات المتحدة، ولا تبني السلام كخيار استراتيجي مع اسرائيل، من تعاطف الدول والشعوب العربية. وبالرغم من أن أحدا لم يعد يؤمن في العالم العربي بأن سورية لا تزال جبهة صمود ومقاومة، أو أن لديها القوة الكافية لمتابعة استراتيجية مواجهة عسكرية محتملة لتحرير الأراضي العربية، أو حتى لتقديم العون للمقاومة الفلسطينية، إلا أن العرب، رأيا عاما وحكومات معا، بقوا حساسين للخطابات القومية السورية ومؤيدين لها. ولم ينسوا لنظام حافظ الأسد التمسك بخطاب المواجهة العربية ورمزيتها فاستمروا يعاملونه بعين العطف ويتضامنون مع سورية التي صنعها، بصرف النظر عن كل ماحدث ويحدث من انتهاكات صارخة لحقوق الانسان، وغياب أي شكل من أشكال الحياة السياسية والقانونية السليمة التي ستعمل المعارضة على إبراز حقيقتها في نشراتها الاليكترونية. كما استمر العرب يعتقدون بأن النظام جاد في استرجاع الجولان بالقوة حتى بعد أن ظهر الاختلال الهائل في ميزان القوة، وقبلت سورية نفسها المشاركة في مؤتمر مدريد للسلام وتبنت شعار السلام كخيار استراتيجي.

3 – مرحلة الانحلال
تقاطع التحديات الداخلية والخارجية

عاش نظام الأسد، كما ذكرت، على عوائد سياساته الإقليمية والدولية أكثر بكثير مما استند إليه من مصادر قوة داخلية. بيد أن الدور الإقليمي السوري قد بدأ يتراجع ومعه العوائد المادية والمعنوية التي ارتبطت به منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي مع زوال الحرب الباردة من جهة والإنهاء المأساوي للمواجهة العسكرية العربية الاسرائيلية بخروج مصر من المعركة وتوقيعها على اتفاقيات كمب ديفيد من جهة ثانية. وكان على النظام الأسدي أن يعيد تكييف نفسه وأن يجد مخارج للأزمة الحقيقية التي واجهته. وهو ما قام به بالفعل بنجاح عندما قبل المشاركة بقوات التحالف الدولي لغزو العراق (1991) والدخول في مفاوضات السلام العربية الاسرائيلية التي أطلقها مؤتمر مدريد للسلام. وكان المغزى الحقيقي لهذا التوجه الجديد هو تجاوز الاستراتيجية القديمة التي كانت تراهن على استثمار التناقضات الدولية والإقليمية والاستفادة منها لبناء قوة مستقلة أو توازن استراتيجي مع إسرائيل، نحو القبول بالتعاون إن لم يكن بالاصطفاف وراء الاستراتيجية الوحيدة الصاعدة في المنطقة، وهي الاستراتيجية الأمريكية الأطلسية. وقد برهن هذا التغيير السريع نسبيا في خيارات السياسة السورية على قدرة كبيرة على التكيف مع الوضع الجديد الذي نشأ على أثر زوال حقبة الحرب الباردة. ولم يعن هذا التغيير شيئا في الواقع سوى التخلي عن السياسات القديمة التي أقام عليها النظام هيبته في الداخل والخارج، أي استتباع القوى العربية الصغيرة المجاورة لبناء مركز قوة محلية وتحقيق أكبر إجماع عربي وإقليمي ممكن وراء سورية يمكنها من استعادة أراضيها المحتلة بالطرق العسكرية أو السياسية. وقد ترافق هذا التحول عن مذهب إرادة السيطرة الإقليمية العربية في السياسة الخارجية السورية مع انفراج داخلي كبير منذ عام 1995 عبر عن نفسه بانسحاب قوى الأمن من مواقع تمركزها الكثيفة والمتعددة داخل المدن السورية، ووقف عمليات الملاحقة والاعتقال العشوائي والكثيف خلال تلك الفترة، وبدء إطلاق سراح المئات من المعتقلين السياسيين، بل وتقديم بعضهم إلى المحاكمة لأول مرة، بعد قضاء مدة سجن طويلة من دون تهم قانونية.
لكن الوضع سوف يختلف منذ استلام بشار الأسد السلطة.
فقد دفع انعدام التجربة والمزايدات وصراعات القوى المتناحرة بالنظام، منذ ذلك الوقت إلى العمل بعكس هذا الاتجاه تماما. فمن جهة حاول النظام بجميع ما يملك من وسائل الحفاظ على ما أطلق عليه اسم دور سورية الإقليمي، أي حقها في التدخل في شؤون المجتمعات والبلدان الأخرى المحيطة، من دون أن يدرك ما يعنيه ذلك بالنسبة للهيمنة الأمريكية الصاعدة وللشعوب التي أخضعت طويلا بالخوف والتي تجد نفسها اليوم أمام فرص جديدة للتحرر والانعتاق. ومن جهة ثانية اعتقد النظام أن بإمكانه، عن طريق التلويح أو التلميح ببعض مظاهر الانفتاح، أن يكسب ولاء الرأي العام السوري أو أن يعيد تجديد هذا الولاء له مقابل بعض الإصلاحات الشكلية والتزينية.
والواقع أن العهد الجديد قد زج بنفسه من دون أن يدري في مواجهتين لم تهدآ ولن يمكن تهدئتهما بعد ذلك أبدا: أعني المواجهة مع الاستراتيجية الأمريكية الصاعدة في المنطقة التي اتخذت منحى عدوانيا خطيرا بعد أحداث 11 سبتمبر، وذلك منذ اللحظة التي عجز فيها عن إدراك زوال الشروط التي كانت تسمح لنظام الأسد في سورية بالتلاعب بالتناقضات الإقليمية والدولية لبناء مركز قوة محلية مستقلة أو على درجة كبيرة من الاستقلال. وهو ما أدركه حافظ الأسد منذ بداية التسعينات. والمواجهة الثانية كانت مع روح التحرر المتنامية في أوساط المجتمع المدني ولطبقات الوسطى في سورية ولبنان معا، تحت تأثير الشعور العميق والصحيح بانحسار موارد النظام وتراجع موقفه الاستراتيجي الدولي ونشوء توازن قوة إقليمي يخلق فرصا جديدة. وقد نجح خصوم النظام الخارجيين، منذ تصويت مجلس الأمن على قرار 1559، بعد تصويت الكونغرس الأمريكي على قانون محاسبة سورية وسيادة لبنان، على عزل سورية وتضييق الخناق على نظامها وحشره في زاوية ضيقة. لكن التخبط الذي أظهرته السلطة السورية في ردها على هذين القرارين الخطيرين قد قذفا بها، أكثر من ذلك، في رمال متحركة جعلت أي مقاومة من جانبها أو أي محاولة للخروج من الورطة مناسبة إضافية لدفعها بشكل أكبر نحو الأسفل. باختصار لقد وقعت السياسة السورية في شرك الحفاظ على نمط السيطرة الداخلية والإقليمية القديم الذي بنى عليه النظام قوته في مرحلة ازدهاره السابقة، في الوقت الذي أصبح الدفاع عنه مستحيلا بعد أن زالت منابع القوة والشروط التي ضمنت تراكمها في السابق، والأهداف التي كانت تضفي عليها المشروعية ولم يعد من الممكن استرجاعها[14].
لقد كان لوفاة حافظ الأسد الذي كان يمسك وحده بأسرار عمل النظام الذي بناه في هذه المرحلة بالذات أثر كبير على إضاعة السياسة السورية بوصلتها وتهورها في خيارات سياسية غير قادرة على السيطرة على نتائجها. فلم يكن ورثته على القدر نفسه من معرفة الحقيقة الاستراتيجية لسورية. وبدل أن يتابعوا ما بدأه عندما شارك في الحرب ضد العراق ووقع مع أنقرة على اتفاقية أضنة، فاتحا باب التخلي التدريجي عما يسمى بالدور الإقليمي، أي عن سياسة القوة، للتأقلم مع الواقع الجيوسياسي الجديد، سعوا، بالعكس، إلى الانطلاق من هذا الدور المتهاوي لتكوين امبرطورية سورية في لبنان وفي فترة عابرة في العراق أيضا. ولعل حاجة الرئيس الشاب إلى تأكيد قوته ونفوذه في عالم السياسة السورية الذي جاء من خارجه جعلت الانسحاب من السياسة التوسعية القديمة يبدو في نظره وكأنه تصفية للمكاسب الاستراتيجية السورية وبالتالي علامة ضعف. كما أن الأجهزة الأمنية والعسكرية التي حررتها وفاة الأسد الأب من عقدة الخضوع والارتهان للسياسة العليا وعززت لديها الشعور بأنها المؤتمنة الوحيدة على النظام وتراثه قد وجدت في الدفاع عن السياسة التوسعية مصدر شرعية وحيدة لاستمرارها في فرض وصايتها التقليدية على المجتمع، وفي ماوراء ذلك في الحفاظ على امتيازاتها ومكاسبها الاستثنائية في سورية ولبنان معا.
ومن سوء طالع العهد الجديد أن محاولة تجديد قوة النظام السوري قد جاءت في الفترة نفسها التي بدأت تبرز فيها نزعات الهيمنة الامبرطورية الأمريكية في العالم واختيارها المنطقة المشرقية للرد على أحداث 11 سبتمبر 2001 وحسم مسألة السيطرة الأمبرطورية العالمية وتأكيدها. وهو ما عني أن الولايات المتحدة لم تكن تكتفي منذ ذلك الوقت، من الدول العربية، بتقديم يد العون في تحقيق مهمات خاصة، كما حصل في حرب العراق، ولكنها أصبحت تريد منها التجاوب الكامل في إعادة ترتيب وضع المنطقة، بما في ذلك إنهاء النزاع العربي الاسرائيلي لصالح تل أبيب.
كان الحفاظ على إرث حافظ الأسد وضمان الأمن والاستقرار لنظامه وتجنب المواجهات الداخلية والخارجية الحبلى بالمخاطر يستدعيان العمل، بالعكس مما حصل تماما، على خطين متوازيين.
الأول تحقيق الانسحاب السريع لسورية من المعارك الخارجية التي ارتبطت باستراتيجية مواجهة دولية وإقليمية انتهى عصرها ووصلت إلى طريق مسدود، وفي مقدمة ذلك الانسحاب الطوعي من لبنان، والكف عن الضغط على السلطة الفلسطينية والتلاعب ببعض القوى المتطرفة الاسلامية وغير الاسلامية لأغراض السياسة الخارجية والتركيز، بالعكس من ذلك كله، على إعادة بناء العلاقات السورية الإقليمية على أسس جديدة ايجابية قائمة على قاعدة توازن المصالح والندية والاحترام المتبادل. وكان اتفاق أضنة الذي وقعته دمشق مع تركيا في نهاية التسعينات يشكل برهانا قاطعا على ما يمكن لسورية أن تقطفه من عوائد كبيرة نتيجة تغيير أسلوبها السياسي، مع العلم أنها لم تقبل بتغيير سياستها في هذه الحالة إلا تحت الضغط والتهديد العلني بالحرب والاجتياح.
والثاني خط التفكيك المنظم والطوعي لنظام الحزب الواحد والحكم المطلق - الذي تحول في سورية إلى قدر لا راد له، بينما صار استمراره مصدر مهانة يومية لشعب كامل - وفتح الحقل السياسي في سبيل إعادة بناء علاقات السلطة مع الشعب وملء الفراغ السياسي والفكري والأخلاقي الهائل الذي تركته عقود طويلة من السيطرة الآلية إن لم نقل الوحشية على المجتمع وحلت فيه جميع العرى المادية والمعنوية.
بيد أن ما حصل كان معاكسا تماما لما كان منتظرا لسوء الحظ. فبدل إسراع العهد الجديد بمراجعة استراتيجية سورية الوطنية والإقليمية والدولية وإعادة صوغ خياراتها وأهدافها في اتجاه مزيد من التحرر من أعبائها الخارجية ومتعلقات المعارك والحروب السابقة السلبية في اتجاه التركيز على إعادة بناء الداخل وتعزيزه تبنت السلطة الخيار المباين تماما واعتقدت أن أفضل وسيلة لقطع الطريق على المخاطر المنظورة وغير المنظورة القادمة هي التكور على النفس والعمل على تجديد شباب أسس السيطرة الشاملة الداخلية والإقليمية، أي العودة إلى سياسات التحكم الأمني الدقيق بحركة الأحداث اليومية داخل سورية والتثبت على سياسة تعزيز المواقع السورية الخارجية بالمزيد من القوة والإكراه. وهذا ما ورط سورية في عملية التمديد للرئيس اللبناني لحود ضد إرادة الأغلبية اللبنانية، بما في ذلك الحلفاء الرئيسيين لسورية، ثم في عملية اغتيال الرئيسي رفيق الحريري والخروج المهين للقوات السورية وانحسار النفوذ السوري في لينان، وما تبعهما من تشكيل لجنة التحقيق الدولية. وهو ما حول هذه السياسة القديمة الجديدة، بسرعة، من العراق إلى فلسطين ثم إلى لبنان، إلى فخ وقع فيه النظام السوري بكامل عدته فأصبح ينتظر قرار الدول الأجنبية بشأنه بعد أن كان يقرر أو يعتقد أن بإمكانه أن يقرر في مصير المجتمعات والقوى ومناطق النفوذ الإقليمية.
ولعل التخبط الأمريكي في العراق لم يساعد القيادة السورية الجديدة التي استلمها فريق من الشبان الصغار الذين يفتقرون إلى الخبرة السياسية وليس لديهم معرفة بخبايا الاستراتيجية السورية التقليدية الهشة القائمة على الحسابات الدقيقة واللعب على الحبال، على تلمس الطريق الصحيح. فقد شجعها إخفاق إدارة بريمر في ضبط الوضع الأمني وتصاعد وتيرة المقاومة للاحتلال على الاعتقاد بأنها قادرة على تحقيق انتصارات سهلة تمكنها من استعادة زمام المبادرة الإقليمية وبالتالي إنقاذ سياستها القديمة القائمة على قوة النفوذ والمبادرة الإقليميين. ولا شك أن المصالح الخاصة التي ارتبطت بالانفتاح على العراق في السنتين اللتين سبقتا الحرب قد زادت من رغبة الفريق السوري الحاكم في استغلال تعثر السياسة الأمريكية الشرق أوسطية والعودة إلى السياسات الإقليمية النشطة التقليدية. وربما حلم بعض أفراد الفريق بأن يقطف الثمرة التي ستخفق الولايات المتحدة في قطفها، أعني تقاسم النفوذ في العراق. ولم تدر أنها بذلك الموقف وضعت نفسها في موقع المنافسة مع واشنطن والصراع ضدها[15].
وكما أظهر النظام السوري عجزا كبيرا عن امتصاص ضربة خروجه من لبنان واحتوائها والتخلص من عقدتها، أظهر عجزا مماثلا عن الخروج من الصيغ القديمة التي عاش عليها خلال عقود طويلة، وإعادة بناء نفسه على أسس جديدة أكثر قدرة على استيعاب التغيرات العميقة التي حصلت في البيئة الدولية والإقليمية، والتي تحصل كل يوم في البيئة الوطنية ذاتها، مع تفاقم التوترات الاجتماعية والسياسية الناجمة عن المشاكل المؤجلة، وتنامي قوى المعارضة والانفكاك السياسي والفكري المتزايد عن النظام. وليست الأخطاء الاستراتيجية والسياسية العديدة التي ارتكبها في السنوات الماضية إلا التعبير عن الطريق المسدود الذي يجد نفسه فيه.
هكذا تبدو المخاطر كبيرة بالفعل وعديدة. ولن يكون الانتقال نحو نظام ديمقراطي لا في سورية ولا في لبنان مفروشا بالورود. فلا يستطيع أحد أن يحسم في الأسلوب الذي سيتم به تفكيك النظام أو انهياره، بأي وسائل، ومن قبل من ولصالح من. فليس هناك من يستطيع أن يقرر بالضبط أو يتنبأ بقرار اللاعبين العديدين المعلنين والمحتملين الذين سيثير شهيتهم ضعف النظام وتفكك أوصاله. وبالمثل لا يستطيع أحد أن يتنبأ بما سيحصل في المستقبل، هل ستعرف سورية وضعا شبيها بما حصل في العراق أو كما حصل في لبنان. فالأمر يتوقف على عوامل عديدة في مقدمها حركة الرأي العام السوري الذي لا يمكن لأحد توقع رد فعله على الأحداث القادمة وعلى طبيعة هذه الأحداث التي ستحسم في أمر النظام. كما لا نعرف بعد بالضبط ما ذا سيكون عليه التوافق الأمريكي الأوروبي بشأن المصير السوري. وعلى الأغلب سيكون المخرج السوري بعيدا عن المثالين العراقي واللبناني معا، أي تصدعا للنظام يفرز قوى انقلابية ذاتية تواكبها تحركات شعبية قوية تفتح طريق التغيير بإنهاء حكم حزب البعث الاسمي والاعتراف بالتعددية السياسية مع السعي في الوقت نفسه إلى الحد من فعاليتها وإعادة السيطرة شبه الأحادية على الوضع.
أما في ما يتعلق بطبيعة العلاقات التي ستنشأ أو يمكن أن تنشأ بين سورية ولبنان في المستقبل فالأمر مرهون بطبيعة النظم التي ستستقر فيهما. ولن تقوم علاقات ثابتة ومستقرة وايجابية تساهم في تصفية ذيول الحقبة القاسية السابقة وبناء علاقات مثمرة تخدم مصالح الشعبين إلا مع ترسخ نظم ديمقراطية حقيقية تعكس إرادة الشعبين وتضمن الوسائل المؤسسية السليمة لتضامنهما وتعاونهما. وهذا يتطلب أيضا العمل من قبل الديمقراطيين اللبنانيين والسوريين على نشر ثقافة ديمقراطية فعلا تستبعد العنصرية والتكبيل بالتهم التاريخية كما تستبعد النزعات الوطنية الشوفيينية المضرة بأصحابها قبل أعدائها.
لكن حتى يمكن التقدم إلى هذا الطور سيتوجب على السوريين واللبنانيين معا خوض معارك طويلة وصعبة، ليس في مواجهة نظم الاستبداد وسيطرة أجهزة الأمن ومساوئها فحسب، ولكن أكثر من ذلك ضد الجهل والتحيز والتعصب والخوف والتشوه في الوعي عند الرأي العام والفرد الذي تعلم رفض المسؤولية والاستقالة الأخلاقية والسياسية، واستمرأ الأنانية والتعلق الشديد بالمصالح الفردية والعائلية، على حساب الجماعة الوطنية في سورية ولبنان معا. وهي معركة قاسية وطويلة، معركة الثقافة والسياسة العربيتين في الوقت نفسه.

[1] أعلنت حالة الطوارئ بتاريخ 8/3/1963 وتابع النظام العمل بموجبها حتى اليوم من دون انقطاع. فهو لم يحكم ولو يوما واحدا خارج إطار الأحكام الاستثنائية والعرفية منذ 43 عاما متوالية. و لم يكن تأبيد قوانين الطواريء والأحكام العرفية والمحاكم الاستثنائية في الواقع إلا وسيلة لتفعيل مبدأ القوة والعنف في السياسة الداخلية كما هو الحال في السياسة الخارجية. فوجود القانون، مهما كان، يشكل مرجعا ضد العنف ويحد لا محالة من استخدامه كمرجع أول أو وحيد لتوزيع القوة والثروة والمواقع. وبتجريده المجتمع من القانون، فتح النظام أمام نفسه المجال كاملا لممارسة العنف والاعتماد عليه لقلب جميع الاوضاع لصالحه.
[2] دخل الجيش السوري إلى لبنان عام 1976 بطلب من المعسكر "المسيحي المحافظ" ضد التقدميين أو ما كان يسمى بالمعسكر الاسلامي التقدمي والفلسلطيني، قبل أن ينقلب عليهم ويصبح الحليف الرئيسي لمنظمات إسلامية مثل الأحباش وحزب الله وحركة أمل. وتتهم الدول الغربية دمشق بدعمها لمنظمات اسلامية تعمل في العراق ضد الوضع الذي قام على أثر الاحتلال الامريكي عام 2003 وكذلك للمنظمات الاسلامية الفلسطينية كحماس والجهاد الاسلامي ولبعض القوى الاسلامية الأخرى في الأردن والعالم العربي عموما.
[3] كان النظام السوري أكثر نظام عربي اصطدم بمنظمة التحرير الفلسطينية وعاداها وطرد رئيسها ياسر عرفات من دمشق وبقي يشن عليه حربا لا هوادة فيها حتى تحقق عزله سياسيا قبل وفاته أو اغتياله من قبل آرييل شارون. وقد تبنى النظام البعثي مواقف جميع المنظمات الصغيرة المتطرفة التي كانت تقف ضد عرفات واستخدمها للضغط عليه.
[4] بعد حرب سنة 1973 بدأ الخليج العربي يقدم مساعدات مالية متزايدة لإعادة إعمار سورية والتسلح العسكري. وتجاوزت هذه المساعدات التي ساهمت مساهمة كبيرة في بناء البنية التحتية السورية المليار دولا بعد دخول الجيش السوري في إطار قوات الردع العربية إلى لبنان. وبسبب هبوط أسعار النفط بشدة وتبني دمشق موقفا مؤيدا لايران في حرب الخليج (1980) انخفضت المساعدات السنوية التي تقدمها الدول العربية إلى (800) مليون دولار. لكن ايران سعت أيضا إلى تعويض سورية بتقديم مساعدات مالية ونفطية مختلفة. ويقدر مجموع ما تلقته سورية من بلدان الخليج العربي في عقدي الثمانينيات والتسعينيات ما يقارب 17 مليار دولار.
[5] منذ وقت مبكر اختص الرئيس حافظ الأسد نفسه بالسياسة الخارجية وجعل من الدولة السورية مركز قيادة لشبكة كثيفة من الحركات والقوى والتحالفات الخارجية المسيرة من دمشق والخاضعة مباشرة للرئيس وإشرافه المباشر، وبالمقابل ترك لأجهزة الأمن والميليشيات العسكرية التي رأسها أخوه رفعت الأسد وظائف الاهتمام بالشؤون الداخلية، بكل ما تتضمنه من معالجة لمشاكل الإدارة المدنية والسياسات الاقتصادية والمسائل الاجتماعية والقضائية والثقافية والعلمية.
[6] تميز هذا النموذج كما هو قائم إلى اليوم بسبطرة نظام الولاء المضبوط من قبل الأجهزة الأمنية وقاد إلى تشكيل شبكات المصالح المتضامنة والمكونة لمراكز قوى خاصة في جميع مستويات الوظيفة العمومية. وهو ما عمل على تعميم الفساد والخراب في الإدارة المدنية والقضاء والتعليم والقطاع العام الاقتصادي.
[7] حول بناء النظام وتكوين الجبهة التقدمية والازدواجية السياسية، أنظر مقالتنا بالفرنسية "نهاية الثورة البعثية" بالفرنسية، مجلة كونفلونس، عدد44، باريس 2003
[8] ساعدت المنح والمعونات المالية الخارجية التي بدأت تتلقاها سورية منذ السبعينات، ثم العوائد النفطية السورية نفسها، بالفعل على تطوير اقتصاد توزيعي، لا يختلف كثيرا عن اقتصاد النظم الموجودة في الخليج حول آبار النفط.
[9] لا شك أن المواجهة المأساوية بين قوى التمرد الاسلامية والنظام في الثمانينات قد شكلت نقطة حاسمة أيضا في سقوط النظام في منطق القلعة المحاصرة. فقد دفعت السلطة القائمة إلى تبني موقف الحصار الشامل للمجتمع وشله عن الحركة وإعطاء أجهزة الأمن صلاحيات قانونية تجعلها فوق القانون وغير خاضعة له، أي تحولها في نظري إلى ميليشيات خاصة في خدمة الفريق الحاكم. وأقول ميليشيات لأن الذي يميز المؤسسة الرسمية هو خضوعها للقانون، أي بمعنى آخر للمساءلة والمحاسبة. فإذا انعدم ذلك لم يعد هناك فرق بين القوى المسلحة المدعومة من الدولة للفاع عن مصالح خاصة وبين الميلشيات الخاصة المستقلة عنها. وقد عززت السلطة هذا الاتجاه بإصدارها مرسوما ينص على أن عناصر الأمن ليست مسؤولة عن الجرائم التي ترتكب خلال الخدمة أمام القضاء قد جاء ليضمن حصانة استثنائية وقانونية أيضا لأجهزة القمع. – هذا هو مضمون المادة 16 من قانون إحداث إدارة أمن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم /14/ تاريخ 15/1/1969 والتي تنص على أنه ( لا يجوز ملاحقة أي من العاملين في الإدارة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو معرض قيامهم بها، إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير ) وما جاء في نص مشابه للمادة السابقة في المادة /74/ من قانون التنظيمات الداخلية لإدارة امن الدولة الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 594 تاريخ 12/5/196. أنظر التقرير الثاني لجمعية حقوق الانسان السورية، 2004
[10] بالرغم من مرور أكثر من ثلاثين عاما على أحداث حماة، لم تقم السلطة بأي تحقيق في الأمر ولا يزال الآلاف من المواطنين يتخبطون في مشاكل اجتماعية وإنسانية لا نهاية لها بسبب رفض الحكومة الإعلان عن قوائم الوفيات والمفقودين. بمعنى آخر لا تزال مأساة حماة مستمرة عبر المشاكل غير المحلولة لأبناء وأسر ضحايا هذه المجازر الجماعية.
[11] أنظر كتابنا الأخير، العرب وعالم مابعد 11 سبتمبر، دار الفكر، دمشق 2005
[12] لم يستطع ايديولوجيو النظام تقديم أي تبرير أو دفاع عن موقف الحكم في هذه المشاركة سوى ضرورة التعامل مع الواقع الجديد، مع الإشارة إلى أن القوات السورية المشاركة لن تساهم في خوض معركة اقتحام التراب العراقي وسوف ترابط في الأراضي السعودية. لكن المهم لم يكن دخول القوات العسكرية ولكن ما تمثله من تغطية سياسية للحرب الأمريكية ضد العراق.
[13] نص اتفاق أضنة الذي وقع بين سورية وتركيا في 19/10/1998 ، بعد تهديد هذه الأخيرة باجتياح سورية للرد على دعم دمشق لحزب العمال الكردستاني بقيادة أوجلان، على ابعاد عناصر حزب العمال الكردستاني من الأراضي السورية والتي تسيطر عليها في لبنان, ومنعهم من عبور الحدود من سوريا إلى تركيا, وتبادل ممثلين أمنيين, واقامة خط ساخن بين البلدين. وقد أسفر هذا الاتفاق عن تعاون أمني اقتصادي ملموس بين البلدين تمثل في اجتماع لجنة أمنية مشتركة لأول مرة منذ 12 عاما, وزيادة حجم التبادل التجاري من 540 مليون دولار إلى مليار دولار, وتوقيع اتفاقيات لمنع الإزدواج الضريبي وتسهيل النقل والمواصلات وفتح الطريق للمستثمرين وحماية الاستثمارات المشتركة, وتوقيع اتفاقية تجارة حرة.
[14] أنظر مقالنا "نظام الفرص الضائعة" الاتحاد، 28 سبتمبر 2005 وكذلك:
http://critique-sociale.blogspot.com/2005_09_01_critique-sociale_archive.html
[15] ليس هناك شك أن أخطاء القيادة الأمريكية في العراق والخوف المتزايد من انتقال عدوى التدخلات العسكرية إلى دمشق، وهو ما كان لا يخفيه وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، بالإضافة إلى خشية العديد من دول المنطقة العربية من أن يؤدي انتصار واشنطن السهل في بغداد إلى تعزيز الضغوط عليها في سبيل الاصلاح، كل ذلك قد شجع الحكم السوري على المغامرة في اتباع سياسة معادية بشكل صريح للوجود العسكري الأمريكي في العراق. بل إن التفاؤل قد وصل في هذا المجال إلى درجة الاعتقاد بأن من الممكن استغلال المأزق الأمريكي من أجل تحويل العراق إلى لبنان إضافي واستعادة حقبة التوسع الريعي المجيدة في السبعينات.