اغتيال الثقافة بعد اغتيال السياسة

2006-05-24:: الاتحاد

 من الحرب لا يخرج إلا نظام واحد، هو نظام الحكم المطلق واللامشروط الذي يخضع فيه المنتصر خضوعا كليا للغالب، يقبل بكل ما يفرضه عليه ويحمده على تفضله عليه بالبقاء. ومن هذا النظام يستحيل أن تخرج حياة سياسة ويتحقق أي تعديل أو تغيير في توزيع المصالح والمواقع الاجتماعية بالطرق التفاوضية، أو عن طريق ممارسة الضغوط السلمية. لأن من المستحيل أن ينمو أي شكل من أشكال العمل الجمعي المنظم الذي يجسد وعيا متميزا يستجيب لمباديء ومصالح مميزة، أو حتى صوغ أجندة مصالح عامة أو المشاركة فيها. الغالب وحده يقرر ما يصلح وما لا يصلح للجميع. ووحده يملك الحق في أن يمارس السياسة، ويتخذ القرار، ويفرض القوانين والقواعد التي يراها مناسبة للاستمرار، استمرار النظام الناشيء عن الانتصار العسكري، وتخليده ما أمكن.

والنظام القائم في سورية اليوم ولد في حرب المواجهات الدامية لعام 1980. ولم يكن له هدف ولا غاية، حتى الآن سوى إدامة هذه الغلبة، وهو ما يفترض الابقاء على الحرب والمواجهات التي رافقتها بصورة مادية أو رمزية والتشبث بها كمرجعية لأي حياة سياسية أو قانونية أو ثقافية ممكنة. ومن هنا فهو يرفض القبول بأي قانون أو قاعدة أو ممارسة أو تفكير يقود إلى تغيير شروط هذه الغلبة أو يحرف عنها. وفي هذا السياق حصل الإلغاء الرسمي والعلني للسياسة، كحقل ممارسة، وكثقافة، وكقيم وقواعد عمل معا، من المجتمع، كما يشير إليه تثبيت قيادة الحزب الحاكم كقائد للمجتمع والدولة في الدستور، وتخليد حالة الطواريء، وإلحاقها حكما ومطلقا بالغالب وتحريم التعامل بها وفيها على كل ما عداه. وهذا هو الشرط الأول لإلحاق المجتمع، كشتات من جماعات وأفراد لا رابط بينهم ولا قوام لهم، به أيضا.
وقد سارت الامور بالفعل على هذه الحال حتى وفاة الرئيس حافظ الأسد في حزيران يونيو 2000. فقد انحنى الشعب أمام القوة، وقبل المثقفون والقلة المتبقية من الناشطين السياسيين، الناجين من مذبحة السياسة في حماة وبقية المدن السورية، بالخضوع للأمر الواقع. وخلد المجتمع بأكمله للصمت والاستسلام. وبتمثل الجميع لقواعد اللعبة الجديدة، أي القبول بالغلبة المادية والتسليم بها، من دون مناقشة ولا اعتراض ولا حتى تذكير بحقوق أو مطالب، من قبل أي فئة أو طرف من الأطراف الاجتماعية، ساد "استقرار" طويل لدرجة أخرجت المعارضة السياسية نفسها بنفسها من الصراع، وأفقدت النظام ذاته ومؤسساته الحاجة للتدخل المباشر والدائم، كما كان يحصل قبل أحداث حماة لضبط الأوضاع أو معاقبة المخالفين.
وبالفعل يكاد العقد الأخير من القرن العشرين يخلو من الاعتقالات والملاحقات السياسية باستثناء تعقب القوى الاسلامية، التي طلقت هي أيضا مفهوم السياسة وقاعدتها لتتحول إلى قوى مقاتلة، وتتبنى منطق الحرب وقانونها. وأصبح البطش بهذه القوى والتنكيل بها واستباحة حياة أفرادها، كما ينص عليه قانون 49 الذي يحكم بالاعدام على كل منتسب لجماعة الأخوان المسلمين ومن شاكلهم، هو الدرس اليومي الذي يلقيه قادة النظام على الرأي العام، ليبين لكل من تسول له نفسه الخروج على النظام أو الاعتراض على نمط الغلبة التي يفرضها، بالمثال المادي الملموس، الثمن الباهظ لأي مقاومة محتملة، والمآل المأساوي لأصحابها. وقد اختصر النظام في البطش بالأخوان المسلمين وتحويلهم إلى كبش فداء، البطش بكل الأشكال الممكنة والمحتملة للاحتجاج أو الاعتراض أو المقاومة. وأصبحت إعادة إنتاجهم والملاحقة اليومية، الواقعية والوهمية، لهم ضرورة مادية ومنطقية للابقاء على تماسك العصبية الحاكمة، تماما كما حلت تغذية مشاعر الخوف والترهيب المستمدة منها في قلوب السكان محل الحيل والألاعيب السياسية التقليدية التي تلجأ إليها الحكومات عادة لقطع الطريق على نمو قوى معارضة سياسية.
بيد أن السلام والاستقرار القائمين على خضوع المجتمع الكامل واستسلامه لسلطة الغلبة العسكرية خلال ما يقارب العقدين لم يستغل، من قبل النظام، لتغيير الشروط الاجتماعية والاقتصادية، بما يمكنه من استعادة القاعدة الاجتماعية، والرجوع عن الحكم العسكري العصبوي إلى الحكم السياسي، الذي يمكنه من إعادة الربط مع المجتمع والتفاعل معه. بل إن ما حصل كان، على العكس تماما، الابتعاد الكامل عن المجتمع والاستهتار بالمسؤوليات والمصالح العامة معا. فقد شجع خنوع المجتمع واستسلامه النخب الحاكمة، المتحررة من أي قيد أخلاقي أو قانوني او سياسي، على التحول إلى قوى مفترسة كاسرة. وبدل العمل على تحسين شروط حياة المجتمع لاستعادة ثقته، زادت عمليات السلب والنهب والفساد وتجيير الدولة والمصالح العامة لحساب فئات المصالح المؤتلفة الحاكمة..
وحتى وقت قريب، لم يكن هناك إدراك لعمق التدهور الحاصل في الأوضاع السورية، ولخطورة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والتربوية التي أحدثها حكم الغلبة العسكرية في البلاد، عند أي فئة او جماعة من فئات وجماعات المجتمع. لا عند الساسة ولا المثقفين ولا حتى العلماء الاقتصاديين والاجتماعيين. فقد حيد الانكسار وعي المجتمع وخدرت روايات السلطة الغالبة، الممزوجة بقصص الانتصارات أو شبه الانتصارات الخارجية، والمعارك المستمرة العازفة على وتر القضايا القومية، الضمير الجمعي، فسلم الكل بخطاب السلطة أو خضعوا له وتخلوا، مع فقدانهم استقلالهم وارتدادهم إلى وضعية التابعين، عن إرادتهم الخاصة ووعيهم أو قدرتهم النظرية. فتوفي الرئيس حافظ الأسد والجميع يعتقد أن سورية تتمتع بأوضاع استراتيجية واقتصادية واجتماعية وثقافية لا تجارى لا في الغرب ولا في الشرق. وكان المسؤولون يرفضون حتى الحديث عن مشاكل أو تحديات، ولا يقبلون باستخدام مفردة أقوى من كلمة "المصاعب المؤقتة" لوصف الأزمات المتفجرة على جميع المستويات.
لكن الأوضاع سوف تنقلب رأسا على عقب بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد وتولي ابنه الأصغر السلطة، في حزيران يونيو 2000. وما حدث ويحدث منذ ذلك الوقت ليس أقل من يقظة متزايدة لجميع قطاعات الرأي السوري الذي بدأ يكتشف يوميا، وأثناء حياة النظام، ما اكتشفته الشعوب الشرقية التي خضعت لحكم الغلبة المادية ذاته، بعد زوال النظم الشمولية الشيوعية من كوارث وتحديات في كل المجالات تكاد تستحيل معالجتها. ولم يشذ عن ذلك حتى فئات واسعة من أنصار النظام أو الملتفين حوله. وشيئا فشيئا يزداد الوعي بالخسران ويتعمق الشعور بالصدمة مما آلت إليه أوضاع البلاد. وبموازاة تنامي مشاعر الخوف واليأس والقلق على المستقبل، وزوال التسليم الذي حرم شعبا كاملا من التفكير والتأمل في وضعه وتحمل مسؤولياته في إصلاح أوضاعه، ينبثق الوعي النقدي، ويبرز دور المثقفين الذين يحملونه ويجسدونه، ويتحولون بمناسبته إلى ما يشبه الناطق باسم المجتمع بأكمله. ولو تابعنا ما يحصل في سورية منذ بعض السنوات، للاحظنا إلى أي حد كانت الحياة السياسية السورية الوليدة أو الخارجة من القبر، وكل ما يتعلق بها، متمحورة حول الصراع بين السلطة والمثقفين. وكما بدأت الحركة ببيانات فكرية سياسية وتبلورت بسرعة في شكل منتديات وروابط إنسانية وفكرية، جاء القمع وتركز بشكل أساسي في حرمان المثقفين من الحديث مع المجتمع والتواصل معه بما في ذلك الاقتراب من المعارضة، أي في كسر حركة المنتديات التي أطلق عليها اسم ربيع دمشق، ثم اليوم في إخراس المثقفين أنفسهم، حتى لو كان ثمن ذلك وضعهم جميعا في السجون.
فالواقع، بعد انقشاع ضباب الوهم وانكسار الحلم، لم يعد إلغاء السياسة شرطا كافيا لإعادة إنتاج نظام الغلبة كما ولد من حرب 1980 المأساوية، والتي لا تزال سورية ترفض التفكير فيها ومراجعتها لتخرج منها بصورة صحية. لقد أصبح من الضروري لضمان البقاء إلغاء الثقافة نفسها وتعليق العقل أيضا. وربما يشكل هذا الإلغاء إذا نجح الانجاز الرئيسي للعهد الجديد. وهو ما يعني استكمال منطق الغلبة المادية، أي في الواقع الوحشية، جميع أسبابه، وبالمناسبة، إعلان اكتماله ونهايته في الوقت ذاته.