أم المعارك الأمريكية

2003-03-09:: الوطن

 

تشكل الحرب الامريكية المعلنة على العراق محور الحياة العالمية السياسية والدبلوماسية والاقتصادية والإعلامية جميعا اليوم. وقد حصل بمناسبتها أول شرخ حقيقي في منظومة الحلف الغربي منذ الحرب العالمية الثانية، سواء أكان ذلك على المستوى العسكري عندما رفضت دول أوربة الثلاث فرنسا وألمانيا وبلجيكا السماح للحلف الأطلسي بالمشاركة في الحرب الأمريكية العراقية لعرقلة جهود واشنطن العسكرية أو على المستوى السياسي عندما وقعت دول أوروبة الثمانية وثيقة تعلن فيها تأييدها للموقف الأمريكي ووجدت نفسها وهي عضو في الاتحاد الأوروبي في مواجهة أكبر دولتين أوروبيتين تمثلان أمل الاتحاد في بناء سياسة مستقلة.   

ولا شك أن الانشغال العالمي الذي تثيره هذه الحرب والانخراط الواسع في النقاش من حولها وردود الفعل الدولية الرسمية والأهلية المتتالية التي استثارتها تعكس تعدد الرهانات التي ترتبط بها بالنسبة لجميع الاطراف الدولية وضخامتها بشكل خاص بالنسبة للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الفتي.

والواقع أن الحرب الجديدة المعلنة على العراق تختصر في حرب واحدة ثلاثة حروب مستمرة منذ عقود وتسعى إلى حسمها جميعا من خلالها: الحرب الدولية من أجل السيطرة على النفط أو حرب النفط التي تظهر الصراع العنيف على التحكم بمصادر الطاقة الرئيسية بين الدول الصناعية الكبرى من جهة والمنتجين والبلدان المصدرة من جهة ثانية في العقود القليلة القادمة، والحرب العربية الاسرائيلية التي هي الثمن المباشر لإنهاء المسألة اليهودية في أوربة أو الغرب عموما والفراغ منها،  والحرب العالمية ضد الارهاب التي تخفي خوف المجتمعات الغربية المتزايد من تصاعد قوة وخطر المجتمعات العربية والاسلامية بسبب تحكم هذه المجتمعات المتزايد بتقنيات أسلحة الدمار الشامل أو تصاعد المشاعر العدائية للغرب أو تطور الحركات الارهابية في سياق ما أصبح يعرف بعد مقالة هينتغتون صدام الثقافات بالحرب الحضارية. ومما يغذي هذه الحرب التناقض الذي لا يكف عن التفاقم بين ارتفاع قيمة المصالح الحيوية الاستراتيجية في المجتمعات العربية والاسلامية من جهة بالنسبة للدول الغربية الكبرى وعجز هذه المجتمعات في الوقت نفسه عن اللحاق بالحضارة التقنية والاندماج الايجابي في الحياة الدولية الاقتصادية والسياسية والثقافية والعلمية للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية.

فمن المنتظر أن يؤمن احتلال العراق للولايات المتحدة الساعية إليه الفرصة التاريخية لانجاز أهداف متعددة وأساسية. الهدف الاول هو السيطرة على النفط العراقي الذي يشكل ثاني أكبر احتياطي عالمي وأكثره ديمومة. ومن خلال السيطرة على هذا الاحتياطي الهائل تأمل واشنطن أيضا بتأمين مصادر ثابتة ومضمونة للطاقة من جهة ووسائل للضغط على الدول النفطية العربية الأخرى بهدف التحكم بتجارة النفط وتدفقه وأسعاره وعوائده. والهدف الثاني هو حسم الحرب العربية الاسرائيلية لصالح إسرائيل ومن وراء ذلك إلحاق الهزيمة النهائية بالعرب واستتباع إسرائيل ودمجها في قوة السيطرة العالمية الأمريكية والاعتماد عليها لضمان السلام والأمن الأمريكيين في المنطقة. ففي لهيب الحرب التي ستدفع الشرق الأوسط والعالم العربي بأجمعه إلى الشلل الكامل تطمح واشنطن إلى خلق ظروف استثنائية إقليمية تسمح لإسرائيل بتحطيم المقاومة الفسلطينية القائمة وردع أي مقاومة عربية محتملة وتفكيك أوصال المجتمع الفلسطيني لدفعه إلى التسليم بالأمر الواقع وتشجيع هجرة أبنائه إلى الخارج وبالتالي فرض نموذج الدولة التي تريدها تل أبيب على ما تبقى من القوى الفلسطينية الحية. وهذه الظروف الإقليمية الجديدة ذاتها هي التي تراهن عليها واشنطن من أجل فك وحدة العالم العربي والاسلامي نهائيا وضمان التفوق الاسرائيلي الساحق على جميع دول المنطقة منفردة ومجتمعة لعقود عديدة قادمة وبالتالي تفريغ المنطقة بأكملها من القوة وتحويل الدولة الاسرائيلية إلى القوة الوحيدة الفاعلة فيها وتمكينها من قطع الطريق على أي اعتراض على الوضع المنبثق من لهيب حرب العراق الشرق أوسطية.

والهدف الثالث من الحرب الأمريكية هو حسم الصراع العربي الاسلامي /الغربي الذي غذته عقود طويلة من الصراع ضد الاستعمار وضد إرادة الغرب في فرض وصايته ثم الوصاية الاسرائيلية على المنطقة وتوفير شروط إعادة ترتيب علاقات القوة والسلطة في المنطقة بأكملها بما يمكنها من إخماد مقاومتها وإجبارها على الاندراج تحت الوصاية الأمريكية الغربية. فواشنطن تعتقد مثلها، مثل قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، أن مصادر الارهاب العالمي الذي يهدد الاستقرار الدولي ويمكن ان يتحول إلى أكبر خطر يواجهه العالم الغربي قائمة في الوضع الذي توجد فيه المجتمعات الإسلامية سواء من حيث سيطرة التراث الديني والتقاليد القرسطوية على هذه المجتمعات أو من حيث خضوعها لأنظمة حكم ونخب رديئة وغير مؤهلة أو من حيث تحكم الايديولوجيات المغلقة الدينية والقومية بها. وهي تنظر إلى تغيير هذا الوضع على أنه الأسلوب الوحيد لكسب الحرب العالمية ضد الأرهاب. ومن هنا حصل الارتباط بين هذه الحرب وحرب النفط وحرب توطين إسرائيل النهائي في المنقطة مثلما ارتبط الارهاب بالثقافة العربية والاسلامية وارتبطت المسألة الفلسطينية بالارهاب وأصبح النظام العراقي أحد مراكز تمويل الارهاب وتنظيمه في العالم. ومن هنا أصبح  احتلال العراق وكسر إرادة الشعب الفلسطيني والتحكم بمصير المجتمعات العربية والاسلامية، عسكريا وثقافيا وسياسيا، هو الطريق الأسهل والأقصر لضمان الأمن والاستقرار والسلام في العالم أجمع في نظر الإدارة الأمريكية.

هذه الحروب الثلاث التي تنطوي عليها الحرب المعلنة على العراق والتي ترفع من رهاناتها كما لم يحصل في أي حرب من قبل هي التي تفسر الاهتمام الشديد الذي أثارته ولا تزال تثيره في أوساط الرأي العام العالمي وبشكل خاص الرأي العام الغربي في أوروبة والولايات المتحدة، ربما أكثر مما تثيره في العالم العربي الذي لا يرى فيها سوى استمرارا لحملات منتظمة ومستمرة لنزع سلاحه وإخماد احتجاجه وفرض الوقائع الاستعمارية التاريخية عليه وفي مقدمها الواقع الاستعماري الاسرائيلي وحرمانه من حظه في الحرية والاستقلال والسيادة على أراضيه وموارده.

وهذه الرهانات المتعددة والضخمة للحرب هي التي تفسر أيضا ما سببته لأول مرة بعد الحرب العالمية الثانية من شرخ في المعسكر الغربي. فالأمر يتعلق بمصالح كبرى، وليس لجميع الدول والتكتلات الدولية المصالح ذاتها، ولا تعبر الرؤية الأمريكية للحرب ومآلها بالضرورة عما تعتقد الدول الاخرى أنه يمثل مصالحها الحقيقية.

فلا تستطيع الولايات المتحدة التي تطمح قبل أي شيء آخر إلى دفع العالم وبشكل خاص اوربة الغربية إلى الاعتراف بقيادتها الدولية أن تربح رهانها الكبير هذا من دون أن تظهر مقدرتها الاستثنائية على إدارة النزاعات العالمية ومساهمتها التي لا غنى عنها في ايجاد الحلول الناجعة والحاسمة للمشاكل والنزاعات الدولية.  فهذه المساهمة والحلول المنبثقة عنها هي التي تبرر قيادتها وتضفي المشروعية الأخلاقية عليها وتتفق وقدراتها العسكرية والاقتصادية والتقنية الاستثنائية. وهو ما لا يمكن أن يتوفر لأي قوة دولية أخرى غيرها اليوم. فبالسيطرة العكسرية والسياسية المباشرة على منابع واحتياطات الطاقة العالمية تعتقد الولايات المتحدة أنها تحسم بالقوة ولصالح الغرب والدول الصناعية الصراع الطويل الجاري حول النفط منذ اكتشافه وتزيل نهائيا كل مخاطر واحتمالات استخدامه من قبل المنتجين له أو أترابهم من العرب كوسيلة للضغط أو كأداة للمفاوضات الإقتصادية. وبذلك تكون الولايات المتحدة قد أعادت إلى الدول الصناعية ملكية آبار النفط التي كانت تأميمات الستينات والسبعينات قد جعلت منها ملكيات وطنية.

وبمساعدتها على حسم الحرب العربية الاسرائيلية لصالح اسرائيل لا تكون الولايات المتحدة قد أزالت أهم مصدر للتوتر وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط فحسب ولكن أكثر من ذلك أنهت جميع أحلام العرب في إزالة الدولة اليهودية وأمنت لهذه الدولة الموارد الجغرافية والعسكرية والسياسية الضرورية لاستمرارها وتوسعها وبالتالي ضمنت أيضا النجاح التاريخي للحل الغربي للمسألة اليهودية على حساب الشعوب العربية.

وبمساهمتها في تغيير الواقع السياسي والعقائدي للعالم العربي تعتقد الإدارة الامريكية بأنها ستتمكن باسم الغرب جميعا من احتواء الضغوط والاحتجاجات وإرهاصات القوة الاسلامية وقطع الطريق على نشوء أي قوة عسكرية استراتيجية في ما أصبح يعتبر العدو التاريخي الجديد للغرب أقصد العالم الإسلامي.

 

لكن أوروبة الاستقلالية أو ما بقي ينطوي على حلم السيادة والاستقلالية فيها ترى الامور بصورة مختلفة قليلا عن ذلك. فخلف الأهداف الثلاثة الكبرى التي ترمي إليها الإدارة الامريكية من وراء حرب العراق والتي لا تختلف معها عليها يكمن في نظر هذه الدول الاوروبية هدف رئيسي أهم ما تزال القيادات الأمريكية تتحدث عنه منذ عقود هو ضمان التفوق الامريكي المستمر على القوى الدولية الأخرى هدف تأكيد انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بالقيادة العالمية أو فرض هذه القيادة بالقوة ومن دون مشورة أو مشاركة أو تعددية. وهنا تكمن نقطة الخلاف الحقيقية. فالسيطرة على العراق والتحكم باحتياطات النفط الكبرى في الخليج ومناطق العالم الأخرى وترتيب الأوضاع الشرق أوسطية من قبل واشنطن وحدها ومن دون مشورة شركائها ولا تعاونهم لا يمكن أن ينتج شيئا آخر سوى تعزيز مواقع الولايات المتحدة الإقليمية والدولية في أهم مناطق استراتيجية في العالم. ولا يمكن لمثل هذا الموقف إلا أن يزيد من ميل الولايات المتحدة إلى الانفراد بالقرار الدولي ومن مقدرتها على المناورة الدولية والتدخل، من خلف ظهر المجموعة الدولية والأمم المتحدة معا، كما حصل حتى الآن، في الشؤون العالمية بغرض خدمة مصالحها القومية. 

ومنذ الآن بدأ الامريكيون يعون التعقيدات الهائلة لهذه الحرب، ليس في مجلس الامن فحسب ولا على صعيد العمليات العسكرية ولكن في ميدان العلاقات الدولية وبشكل خاص في الميدان السياسي وفي ما يتعلق بترتيبات ما بعد نظام صدام في العراق والشرق الأوسط معا. ولهذا يبدو للمراقبين الدوليين أن الحرب الأمريكية التي أرادت أن تكون بالفعل أم المعارك ونقطة الفصل فيها بدأت تتعثر وتتهلهل سياسيا وأخلاقيا بقدر ما تتقدم عسكريا وتقترب من ساعة الحسم.  وكل ما نستطيع أن نقوله هنا هو عسى أن لا يكون مصير أم المعارك الامريكية أفضل من مصير شقيقتها السيئة السمعة أم المعارك العربية.