أمريكا والعالم أسطورة أمريكا, أمريكا الاسطورة

2002-07:: الوطن

 بقدر ما تتزايد المبادرات الأمريكية في العالم، من القوقاز حتى آسيا مرورا بالشرق الأوسط يزيد عدد الناس، من محللين سياسيين وأناس عاديين، الذين يطرحون على أنفسهم هذا السؤال: هل للولايات المتحدة مشكلة مع العالم وما هي مشكلتها بالضبط؟ لماذا تضع نفسها في مواجهة الانسانية جمعاء وتهدد نفسها بالعزلة وتدفع حتى حلفاءها الأقربين من الأوربيين الذين يشاركونها الثقافة والموقع الجيواستراتيجي والحلف الأطلسي معا، إلى الابتعاد عنها بل إلى الوقوف ضد الكثير من مبادراتها؟

وكغيري من المحللين طرح علي هذا السؤال مرارا. وكان جوابي دائما أن الولايات المتحدة، بعكس ما يبدو على السطح، ليس لها مشكلة مع احد وهي لا تبحث بالضرورة عن المشاكل مع العالم ولكنه منطق السيطرة. فهو الذي يدفعها إلى اتباع تلك السياسات التي تثير استياء العالم أجمع وتدفع بالكثير من الشعوب إلى التشفي منها عندما تتعرض لمتاعب بدل التعاطف معها. فهي تحلم بأن تضعف هذه المتاعب من وطأة السيطرة الأمريكية وتتيح لها بعض الراحة بين حربين.

ومنطق السيطرة يعني أن سياسات واشنطن التي تثير استياء العالم لا تعكس إرادة أو رغبة ذاتية فحسب ولكنها تعبر, أكثر من ذلك, عن نزوع عميق وموضوعي أيضا لبسط النفوذ في العالم. فجميع الدول القوية أو التي تشعر بالتفوق في مواجهة قوى دولية أخرى تميل إلى ترجمة قوتها إلى نفوذ وذلك لما يحققه لها هذا النفوذ من ريع مادي ومعنوي يسمح لها بزيادة قوتها ونموها من جهة ولما تؤمنه لها السيطرة على الآخرين من اطمئنان أكبر على الأمن والاستقرار. وبقدر ما ترتبط السيطرة بالأمن والاستقرار والسلام تشكل إطارا جاذبا للمواهب والموارد والامكانات العالمية. وكلما زادت سيطرة الدول تعمق شعور الأفراد المقيمين فيها بالأمن والطمأنينة وزاد ايمانهم بها وأملهم بالمستقبل فيها.

ولا ينبغي الخلط بين السيطرة وإرادة السيطرة التي قد تكون قوية عند كثير من الأطراف غير المؤهلة لها. فعندما نتحدث عن منطق السيطرة فنحن لا نتحدث عن إرادة السيطرة بالقوة وإنما عن انتاج القوة الهائل الذي يكمن وراءها, وهو الذي جعل ويجعل من الولايات المتحدة وجهة العالم المعاصر وقلبه النابض ومصب جميع الروافد الحضارية البشرية والمادية والتقنية والفكرية أيضا. وهذا ما نسميه قوة الجذب المغناطيسية التي تحملها السيطرة.

بل إن من يتأمل في حقيقة أمريكا اليوم يجد أنها ليست قلب العالم فحسب بل تكاد تختصره كله أي  تكاد أن تحل محله. فهي الكل بالكل، في الحرب والسلم والانتاج والاستهلاك والاختراع والتطوير والابتكار والاستراتيجية والامن والاقتصاد والمال والفن والطب. ولا يمكن أن يحصل شيء مهم أو ذو أثر في العالم من دونها أو بمعزل عنها. فهي العالم ذاته وما عداها لا يقوم ولا يعيش إلا في ظلها أو يجري وراءها. وبعكس ما يعتقد بسطاء الناس, إن أكثر الدول التصاقا بالولايات المتحدة وارتباطا ماديا ومعنويا بها وحاجة إليها ليست الدول الفقيرة والضعيفة، وإنما الدول والكتل الصناعية القوية مثل أوربة واليابان. والصين فهذه الدول وحدها تدرك معنى القوة الأمريكية وتعرف كيف تقيس نفسها بها، أي تعرف حدودها مقارنة بها. أما الدول الصغيرة والفقيرة، بما فيها تلك  التي تستفيد من مساعداتها أو تطرق أبوابها لتؤمن لسكانها الحد الأدنى من الخبز فهي تخضع لها فحسب, تعيش على أفضالها وتشتمها في الوقت نفسه.

باختصار إن منطق السيطرة يعني أن القوة تنزع لا محالة إلى التوسع وبسط النفوذ والتمدد ما لم تجد قوة مماثلة في مقابلها تحد من طموحها وتفرض عليها التوقف عند حدود معينة أو ما لم تنفد إمكاناتها وقدرتها الذاتية على التمدد والانفلاش. ويعني التوسع وبسط النفوذ والتمدد بالضرورة التدخل في شؤون الأطراف الأخرى ولا يمكن أن يتحقق من دونه. وعندما نتحدث عن تدخل فنحن نشير في الوقت نفسه إلى مبادرة الطرف المتدخل إلى ترتيب الأوضاع الخاصة بالطرف المسيطر عليه وإعادة بنائها بما يتماشى مع إرادة السيطرة وما يضمن استمرارها واستقرارها وأحيانا بما يتلاءم مباشرة مع مصالح القوة المسيطرة المادية والاستراتيجية. وقد تضطر القوة المسيطرة أو النازعة للسيطرة إلى الذهاب بعيدا في عملية ترتيب أوضاع الأطراف الأخرى إلى حد نزع قدرتها على المبادرة والحركة، بل ربما إلى نزع إرادتها ذاتها وشلها تماما. وقد لا تستدعي السيطرة مثل هذه الحلول الجذرية وتتحقق بمجرد تكوين معادلة للقوة أو موازنة داخلية لدى الأطراف المسيطر عليها تضمن خضوعها من خلال عملية تحييد القوى المتبادل عند الطرف الأضعف. وقد استخدمت السلطات الاستعمارية في الماضي طريقة شل إرادة المجتمعات التي أخضعتها بالقوة العسكرية بل تدمير بنياتها ذاتها، وهو ما تسعى إسرائيل اليوم إلى عمله في فلسطين المحتلة. لكن في حالات أخرى وبعد أن استتب لها الوضع سعت العديد من القوى المسيطرة القديمة إلى فرض نظامها وإرادتها من خلال التلاعب بالقوى الطائفية أو العشائرية أو الجهوية أو الاجتماعية والسياسية الداخلية. ولا يزال الاسلوبان يستخدمان اليوم أيضا من قبل العديد من القوى الدولية في أماكن مختلفة من العالم.

والولايات المتحدة لا تخرج في سلوكها الراهن، وقد أصبحت القوة العالمية الوحيدة من دون منازع, عن هذه القواعد التقليدية التي تحكم منطق السيطرة. فمنطق السيطرة هذا هو الذي يحمل الولايات المتحدة إلى رؤية مصالح حيوية لها على بعد آلاف الكيلوميترات عن أراضيها وفي أماكن ومناطق يكاد الأمريكيون لم يسمعوا بها ولا وطأتها قدمهم أبدا. ومنطق السيطرة هو الذي يملي على الولايات المتحدة أيضا تطوير وسائل الدمار الشامل والأسلحة الاستراتيجية البعيدة المدى، مثلما يملي عليها إعلان الحرب على كل من يريد أن يملك أسلحة الدمار الشامل أو يحلم بامتلاكها. وهذا المنطق هو الذي يحثها على نشر قواتها في جميع أركان العالم ويجعل شعبها يقبل النفقات الكبيرة اللازمة للاحتفاظ بهذه القوات المكلفة وتجديد عددها ومعداتها. 

بيد أن ما يميز السيطرة الأمريكية الراهنة عاملان. الأول هو أنها سيطرة عالمية. أي أن الولايات المتحدة بما تمثله من قوة استثنائية عسكرية واستراتيجية وإعلامية وعلمية وتقنية تستطيع أن تنزع إلى سيطرة من نمط عولمي تملي فيه إرادتها على العالم أجمع وليس على دولة واحدة أو منطقة واحدة. وقوانين السيطرة العالمية، إذا كان بالإمكان الحديث عن قوانين بالمعنى الطبيعي، لا تتطابق مع قوانين السيطرة المحدودة أو الجزئية. والثاني أنها سيطرة مكشوفة ذلك لأنها تحصل في عصر الثورة التقنية والعلمية التي تتيح للرأي العام العالمي بأجمعه أن يشاهد ويتابع وقائع استراتيجيات السيطرة وأحداثها من دون أن يعني ذلك أنه يفهم منطقها أو ينجح في تفسير الحوادث التي ترافقها وتجسد تطورها معا. وهذان الشرطان الخاصان بالسيطرة الأمريكية يفرضان تعديلات جذرية في استراتيجيات السيطرة العالمية وتكتيكاتها. فالسيطرة العالمية تواجه مشكلة تعدد القوى التي تنزع السيطرة إلى التعامل معها وتنوع أنماطها ومستويات تبعيتها المتبادلة أو قربها وبعدها من الولايات المتحدة كما تواجه مشكلة صدقية القوة الأمريكية العالمية ذاتها. فالولايات المتحدة مضطرة للتعامل مع أوربا واليابان وهي دول صناعية كبرى كما هي مضطرة للتعامل بطرق مختلفة مع بلاد أفريقيا وآسيا والشرق الأوسط. وهذا يعني أولا أن السيطرة العالمية تحتاج بالضرورة إلى استخدام استراتيجيات متعددة ومتنوعة. وهو يعني ثانيا أن حساب الربح والخسارة لا يمكن أن يكون حسابا بسيطا ولكنه يتم من أفق السيطرة الشاملة ذاتها. فمن الممكن للولايات المتحدة أن تتدخل في مناطق ليس لها فيها مصلحة مادية واضحة أو مباشرة، ولكن التدخل فيها يضمن لها تأكيد موقع القيادة العالمية تجاه أندادها أو شبه أندادها ومتحديها، وهو ما حصل بالفعل في حرب البوسنة. وبالمثل يمكن للحرب أن تكون هي نفسها وسيلة للضغط السياسي أو أن تشن في منطقة معينة من أجل إحداث هزة في منطقة أخرى أو حصد النتائج على صعيد غير عسكري. والولايات المتحدة تخوض في الواقع حروبا محدودة تشكل معا حربا عالمية تتضافر فيها الأبعاد الاستراتيجية مع الأبعاد السياسية. إن حرب السيطرة العالمية لا يمكن أن تكون اليوم إلا حروبا محدودة، لكن ليس لأي من هذه الحروب قيمة في ذاته ولا يمكن فهمها لوحدها. إنها تشكل جميعا جزءا من حرب شاملة لتأكيد السيطرة العالمية الأمريكية. وعندما تفرض حصار العراق وتهدد بالعودة لشن الحرب ضده فليس ذلك لا في سبيل منافع مادية مباشرة ولا في سبيل تحقيق حكم أفضل للعراقيين كما تدعي ولا لأن العراق يشكل تهديدا فعليا للدول المجاورة ولكن في سبيل الاحتفاظ بالتوازنات الجيوسياسية المختلة التي خلفها تدمير العراق وتحييده بالإضافة إلى أهداف جانبية رمزية لكن مهمة أيضا في اشتغال منطق السيطرة مثل الابقاء على العراق الكسيح كنموذج ومثال ودرس لجميع دول المنطقة ودول العالم، ومن وراء ذلك الاحتفاظ باسطورة التحالف الدولي ضد الشر التي قام عليها تدمير العراق. إن لأهداف الرمزية تهدف إلى أن تجعل من ذبح العراق وتدميره والتضحية به كبش الفداء الذي يعزز ويرسخ ويضمن في موته ذاته ثبات النظام والهدوء والأمن والاستقرار الدوليين. إنها تحول حرب العراق إلى حرب إرهابية من نموذج ومعيار آخر تماما لا علاقة له بحرب الارهاب التي تشنها عصابات أو منظمات على حافة الجريمة المدنية.

أما على مستوى التكتيك فلعل أهم تكتيك في السيطرة العالمية الجديدة هو إخفاء السيطرة ذاتها كفعل تاريخي مادي وتقنيعها بمفهوم القيادة العالمية. السيطرة تصبح هنا قيادة واستراتيجيات الإخضاع بالقوة أو بالتلاعب بالقوى الداخلية وسائل لتحقيق أغراض القيادة وأهدافها.

 إن ما وسم الخطاب الأمريكي في السنوات الثلاثين الماضية، وبشكل أكبر بعد انهيار المنافس السوفييتي وصعود القوة الأمريكية إلى قمة المجد، هو تأكيد الرؤساء الأمريكيين واحدهم بعد الآخر، من رونالد ريغان إلى جورج بوش الابن مرورا بجميع الآخرين، على زعامةالولايات المتحدة العالمية وحقها في هذه الزعامة. فأمريكا خلقت لتقود العالم، وهي الوحيدة القادرة على ذلك. وحول هذه القيادة بنت النخبة الأمريكية الحاكمة ولا تزال ايديولوجية السيطرة الداخلية ومنها اختلقت أسطورة عظمة أمريكا وتفردها واستقرارها الذي لا يجارى وانفتاحها على جميع الأعراق وجميع البضائع والأفكار والعقائد معا. فهي العالم نفسه أو الأمة التي أصبحت تضم العالم أو تمثل كل ما فيه من تنوع وتعدد ووحدة معا. فعقيدة قيادة العالم، وما تستدعيه من مراعاة شروط توسع السيطرة الخارجية أساسية ليس فقط لتحقيق المصالح الأمريكية في الخارج ولكن أكثر من ذلك لتأكيد مشروعية النظام الاجتماعي في الداخل. فتأكيد تفوق أمريكا على العالم ضروري أيضا من أجل تأكيد أسطورة تفوق النظام الأمريكي وعظمته وتميزه في العالم. وهي الأسطورة التي توحد الأمريكيين الفرديين والانفراديين وتصهر أعراقهم المتعددة وتمكنهم من تجاوز جميع التوترات والتناقضات والتفاوتات الاقتصادية والاجتماعية التي تزخر الولايات المتحدة بها كما لا تزخر بها أي أمة أخرى في العالم. فالقوة والعظمة والتفوق في القوة المادية والمعنوية، في الاستهلاك والانتاج، في النظام وفي الحريات الفردية معا, هي عناصر الايديولوجية التي توحد الأمريكيين وتجعلهم إرادة واحدة. ويمكن القول إن الأمة الأمريكية لا تحتاج كي تستمر إلى أسطورة خارجية، إنها تعيش على تحويل أمريكا ذاتها ونمط الحياة فيها هي نفسها إلى أسطورة. أمريكا ليست بلدا ولكنها مشروع وحلم وأسلوب حياة أيضا.